أخرجت أثيوبيا أثقالها: كل القوة الخرطوم جوه
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
أذكر أول مرة سمعت عبارة “نقطة ضعف” (Soft point) مقرونة بأثيوبيا. سمعتها من أحدهم خلال مؤتمر “السودان في أفريقيا” (١٩٦٨) قال إن للسودانيين نقطة ضعف تجاه أثيوبيا. وكان شاغل صفوة السودان بأثيوبيا وقتها معلوماً. ولكن ظلت نقطة الضعف تجاهها تنتابنا في مثل فشو عقيدة تقدم أثيوبيا وانحطاط السودان بين صفوة الرأي. وحجب ورم هذه العقيدة الصفوة من إخضاع سياسة أثيوبيا وثقافتها لتحليل خليق بمن طلب مقارنة بلده بآخرين.
هيأنا الجدل حول سد النهضة لانتظار أن تغرقنا أثيوبيا بموج النيل الأزرق من سدها عنوان نهضتها وتاج نموذجها التنموي. وخلافاً لذلك فهي تغرقنا حالياً بموج حزين من نازحي حربها الأهلية العضود. والفيلم الأخير دخلناه مراراً وزججنا فيه أثيوبيا مرات ولم تقصر هي من جانبها. ولا أعرف أن كفتنا هذه المفارقة بين موج الماء وموج الضحيا لنحسن فهم ما يجرى في أثيوبيا بعد خلع نقطة ضعفنا حيالها حتى نحسن فهم أنفسنا.
حاصرني من شهدوا ندوات تزكية نفسي لانتخابات رئاسة الجمهورية في ٢٠١٠ بمرثية للسودان مفادها أن أثيوبيا وسائر أفريقيا سبقونا في مضمار التنمية بينما نحن في الدرك. وأذكر ردي عليهم بأن ما ترونه من شحم على الدول التي تزكونها هو مجرد ورم في قول للمتنبي. وسيعفن وينشم. فهي لم تبدأ بعد فيما اسميته “إعادة التفاوض” في الوطن الذي قطعنا نحن فيه شوطاً طويلاً مريراً. وكانت ساحل العاج يومها في غمرة صراع إثني وثقافي وجهوى عصيب. وكنت أقول للشكاة من السودان لقد نشأنا نسمع عن هرج بلدنا في مقابل استقرار ساحل العاج حتى بان الكوك عند المخاضة.
لم تمنعنا الحرب الأهلية ولا تطاولها من التفاوض فيما نحن فيه مختلفون حول وطن ما بعد الاستعمار. بل وإدمان هذا التفاوض. وهذه وطنية غراء لإدراكنا أننا ورثنا وطناً لم يصطنعه الاستعمار وحسب بل “طرّقه” (كما تطرق الحديد) ليسلس له حكمه. واستهونا كما غيرنا فداحة التركة الاستعمارية (بدون هتافات) التي صنعت بلداً لرعايا لا مواطنين. وشبت مسألة إعادة التفاوض في حلقنا إلى يومنا. وتعثرنا في وعود منقوضة ولكن جربنا الحكم الذاتي والإقليمي والفدرالي بل ولم نخش التجريب بتقرير المصير. ووقع عندنا بسلاسة. وما تزال سماواتنا رحبة وحبلى للتفاوض في سودان آخر مبذول للمواطنة. وتكلفنا ثورات ثلاث فادحة ونبيلة لهذه الغاية.
بدا للجميع الآن عزم آبي أحمد، رئيس وزراء أثيوبيا، أن يلم شعث أثيوبيا بما عرف ب”الحرب الوطنية” (patriotic war) وهي من حب الوطن بين أبنائه لا بوجه أجنبي. وهي من مصطلحات الثورة الصينية. والمصطلح بالعربية البسيطة هو “كل القوة الخرطوم جوه” بمعنى أن تُصَعد الجماعة الثورية (وهي الدولة في حالة أثيوبيا) الحرب حتى تقضي على خصمها وتركب مكانه وتصنع الوطن الجديد حسب ما تري.
وسَلم السودان من مخاطرة توحيد الوطن بمثل هذه الحرب. ولم يمنع هذا من وجود من تبناها كالعقيد قرنق ولم يرد حملها إلى غاياتها فحسب بل هناك من خاطر لأجلها مثل حركة العدل والمساواة في عملية الذراع الطويل عام ٢٠٠٨. وأكثر أبوب سلامتنا من خطة “الخرطوم جوه” هو الثورات في المركز التي اقتلعت النظم المكاجرة في الخرطوم لتفتح نوافذ التفاوض في الوطن من جديد مما أدى ليتوقف رتل المحاربين أرضاً سلاح دون دخول الخرطوم.
وسلم السودان “الكعب دا” من علة أخرى وسمت الحروب الأهلية الأفريقية. فكانت حروبه الأهلية “عسكرية” أي أن من قاتلوا فيها إما جند نظاميون أو حملة سلاح معروفين. فقل أن كانت الحرب “مجتمعية” بمعنى أن ينهض قوم على قوم آخرين كما نسمع عن هجوم شعب الأمهرا على التقراى أو صدام شعب الأروما مع شعب الصوماليين الأثيوبيين. ووقع عندنا طرف من هذا في منطقة التماس بين الشمال والجنوب وفي دارفور في عهد الإنقاذ. ولكن من قامت به في الغالب مليشيات ملحقة بالجيش النظامي كحرس الحدود أو بالدبابين. ودخول كليهما في الحرب لا يرقي لحرب مجتمعية. فحرس الحدود مرتزقة والدبابين مرجل إيديولوجي لا غير. وليس أدل على ذلك أن الخرطوم الشمالية أو الجلابية وسعت النازحين من ميادين تلك الحروب بغير غضاضة مما لا يقع متى كانت الحرب مجتمعية. ومتي وقع تخاشن مجتمعي عندنا كان النازحون من الحرب من بادروا به في مثل الأحد الأسود في ثورة أكتوبر أو بعد مقتل العقيد قرنق في ٢٠٠٥.
قيل الما بعرف يشيلك يدفقك. وصفوة الرأي عندنا ظلت تدلق ملكات وطنها ومهاراته التي كشف عنها في لم شعث الوطن على قارعة الطريق. فلم تضرب عن تشخيص الحالة السودانية فحسب بل جعلت من مقارنتنا مع الآخرين مثل أثيوبيا مناسبة لشق الجيوب والدعاء بدعاء الجاهلية . . . أو الجهل.