إدوارد بلايدن رائد القومية الإفريقية في غرب إفريقيا

0 155

ناصر كرم رمضان

.

يُعدّ إدوارد ويلموت بلايدن Edward Wilmot Blyden الأديب والمربي، وعالم اللاهوت، والسياسي ورجل الدولة، والدبلوماسي والمستكشف، والمدافع عن العِرْق الزنجي، واحدًا من أبرز المفكرين ذوي الأصول الإفريقية. قام برصد وتأصيل وطرح حلول لإشكاليات قضايا الفكر الإفريقي في عصره، فكانت أفكاره مصدر إلهام للمفكرين من بعده، وكان يَعتبر نفسه قائدًا للعرق الزنجي.

أولاً: النشأة والسمات والخبرات:

وُلِدَ بلايدن في 3 أغسطس 1832م، في جزيرة سان توماس St. Thomas بجزر الهند الغربية. ادَّعَى لاحقًا أنه من أصل “زنجي نقي” pure Negro، من قبيلة الإيبو Ibo tribe في شرق نيجيريا. وُلِدَ في وسط ثقافي إنجليزي اللغة. التحقَ إدوارد مع الأولاد اليهود بالمعبد اليهودي Synagogue Hill، وبدأ بالمواظبة أيضًا على الحضور بالكنيسة الإصلاحية الهولندية Dutch Reformed Church، وبالذهاب إلى المدرسة الابتدائية المحلية.

في عام 1845م التقى القس جون بي. نوكس John P. Knox راعي الكنيسة الهولندية الإصلاحية في سان توماس بلايدن، ولاحظ تديُّنه وإخلاصه ومواظبته، فقام بتشجيع قدرته على الخطابة والكتابة الأدبية. فقرر بلايدن أن يكون رجل دين، وفي مايو 1850م رافق بلايدن السيدة نوكس إلى الولايات المتحدة، وهناك حاول الالتحاق بكلية روتجرز اللاهوتية Rutgers Theological College، والتي تخرج منها نوكس، لكن تم رفض طلبه؛ لكونه زنجيًّا. كما فشلت جهوده أيضًا للتسجيل في كليتين لاهوتيتين أخريين.

التقى بلايدن في الولايات المتحدة بأعضاء بالكنيسة المشيخية Presbyterians church الذين كانوا على علاقة وثيقة بحركة استعمار الزنوج وتوطينهم بإفريقيا. فأخبره أصدقاؤه في جمعية الاستعمار عن ليبيريا، والتي أصبحت في عام 1847م دولة زنجية مستقلة، ودفعوا بأنها تحتاج لدعم كلّ شابّ زنجيّ لتصبح أمة قوية. ولعل فكرة إقامة دولة زنجية كبيرة وقوية في إفريقيا لنُصرة العرق الزنجي أصبحت معتقدًا تقليديًّا لبلايدن، فقد تلقَّى دون تردُّد وجهة النظر وقتها؛ بأن إفريقيا تعيش في ظلمات، وأنها تحتاج إلى خلق حضارة جديدة تساعدها على التمدُّن، وهو ما سوف يقوم به الزنوج الغربيون تدريجيًّا.

وصل بلايدن إلى مونروفيا Monrovia عاصمة ليبيريا في 26 يناير 1851م. واستأنف دراسته في مدرسة ألكسندر الثانوية Alexander High School، فدرس اللاهوت، واللغة اللاتينية، والرياضيات، والإملاء، والجغرافيا. ومستغلاً وقت فراغه درس بلايدن اللغة العبرية، والتي عرفها منذ كان صبيًّا يعيش في أحد الأحياء اليهودية؛ حتى يستطيع قراءة فقرات من الكتاب المقدس كان يزعم أنها خاصة بالزنوج.

في عام 1853م أصبح مُنصِّرًا، ثم مدرِّسًا في مدرسته الثانوية، ومراسلاً لـليبيريا هيرالد Liberia Herald؛ الصحيفة الحكومية الوحيدة في ليبيريا، ثم رئيسًا للتحرير لمدة عام (1855-1856م). وفي عام 1858م تم ترسيمه ككاهن بالكنيسة المشيخية. وفي الوقت نفسه تم تعيينه كمدير لمدرسة ألكسندر الثانوية.

بعد إكمال دراساته الأكاديمية في مجموعة واسعة من التخصُّصات، أصبح معلّمًا وصحفيًّا. منذ عام 1864م إلى عام 1870م، فأسَّس لجريدة الزنجي وعملاً محررًا بها (1872-1873)، وشارك في السياسة الليبيرية من خلال شغله لعدة مناصب مختلفة بها، بما في ذلك شغله لمنصب وزير الخارجية. لكنَّه بسبب آرائه حول العِرْق واللون، أُجبر على الفرار إلى سيراليون في عام 1871م. ولكنه عاد مرة أخرى إلى ليبيريا، وشغل العديد من المناصب التعليمية والدبلوماسية. وبين عامي 1862 و1871م عمل أستاذًا للغات الكلاسيكية في كلية ليبيريا، ورئيسًا لها بين عامي 1880 و1884م. فقد كانت كلية ليبيريا أول مؤسسة جامعية ناطقة باللغة الإنجليزية للتعليم العالي في إفريقيا جنوب الصحراء. وفي عام 1884م عاد إلى سيراليون مرة أخرى؛ حيث انخرط في التعليم الإسلامي والكتابة الصحفية حتى وفاته في عام 1912م.

ثانيًا: السياق الفكري والتاريخي في القرن التاسع عشر

خلال القرن التاسع عشر، استمر وجود العبودية القانونية وتجارة الرقيق الأفارقة في أجزاء كثيرة من الأميركتين وإفريقيا، بينما في إفريقيا نفسها ازداد النشاط الاستعماري الأوروبي طوال القرن، وبلغ ذروته في ما يسمَّى بـ “التدافع” على إفريقيا وبداية عصر الإمبريالية. وظهرت الجمعيات الأنثروبولجية في أوروبا وأمريكا، فكان النضال من أجل “إثبات العِرْق”، ودحض مفاهيم الدونية الإفريقية ضرورة مُلِحَّة في تلك الفترة، وأصبحت أحد الموضوعات المهيمنة على كتابات المفكرين الأفارقة ونشاطهم. كان إدوارد بلايدن من بين هؤلاء المفكرين.

ثالثًا: توجهات بلايدن ومنطلقاته الفكرية

– العودة إلى إفريقيا

وُلِدَ بلايدن في وقتٍ لم تكن فيه العبودية قد أُلغيت بعدُ. فقد عانَى من العنصرية اللونية حين تم رفض طلبه بالالتحاق بالجامعة بالولايات المتحدة بسبب لونه، فأدَّت هذه التجربة العنصرية مع بلايدن وتأثير العبودية على السود في الولايات المتحدة إلى تبنّيه للعديد من أفكار جمعية الاستعمار الأمريكية American Colonization Society التي كانت تدعو إلى إعادة الأمريكيين الأفارقة الأحرار إلى ليبيريا في غرب إفريقيا، فقد أقنعه بعض أعضاء جمعية الاستعمار في نيويورك بالهجرة إلى ليبيريا في ديسمبر 1850م. فاعتبر أن استعمار السود في ليبيريا يوفّر لهم فرصة مواتية لإثبات قُدُرات المنحدرين من أصل إفريقي، في مواجهة العنصرية التي كانت قائمة آنذاك، وكوسيلة لتأسيس قاعدة في إفريقيا من أجل الارتقاء بكل الأفارقة. وفي أعقاب إلغاء قانون الرقّ في منطقة الكاريبي والولايات المتحدة الأمريكية وسَّع بلايدن حملته الدعائية للهجرة إلى إفريقيا بصورة كبيرة. وأعلن معارضته في إحدى مقالاته التي نُشرت في عام 1878م بعنوان “أصل وهدف الاستعمار” لأنصار فكرة اندماج السود في المجتمع الأمريكي، والذين كانوا يطالبون باقتسام السلطة مع البيض، فقدَّم حلاً بديلاً لذلك وهو “هجرة السود” إلى إفريقيا.

– الرومانسية العِرْقية والشخصية الإفريقية

تطوَّرت نظريات الأنثروبولوجيا العنصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على يد مفكرين أوروبيين من أعضاء الجمعيات الأنثروبولوجية حول العالم، والتي تم صبغها بالصفة العلمية، فقد ادعت هذه النظريات أن هناك عدة أعراق تم ترتيبها على شكل هرم، كان العِرْق الأسود هو “الأدنى على الإطلاق” بين جميع الأعراق البشرية.

انتقد بلايدن هذه النظريات، وفي مواجهة ذلك استطاع أن يضع نظريته الأنثروبولوجية الخاصة به؛ فأقرَّ بوجود “أعراق مختلفة لكنها أيضًا متساوية”، لكنه في الوقت نفسه أدان نظرية تفوُّق العِرْق الأبيض، ورفض المفاهيم العنصرية التي تُقلّل من قيمة الرجل الأسود، مثل “العرق الأدنى” أو “إفريقيا المظلمة”.

وحاول في كتاباته الإشارة إلى أهمية العِرْق الأسود عبر تاريخ البشرية؛ كما في مقالاته “أصوات من إفريقيا النازفة” (1857م) و”مدافعة عن العرق الإفريقي” (1857م). فأشار إلى الكثير من الشخصيات السوداء الشهيرة مثل توسان لوفروتور Toussaint L’Ouverture وبول كوفي Paul Cuffe، وحاول تذكير العالم بأن إفريقيا هي “مهد الحضارة”، وأنها “حافظة تراث العالم” في إشارة إلى الحضارة الفرعونية في مصر، وأدان في كتابه “الزنجي في التاريخ القديم” (1869م) التزوير الذي أحدثه الأوروبيون للتاريخ الإفريقي، وطالب في كتابه “من إفريقيا الغربية إلى فلسطين” (1873م) بالإرث الإفريقي في مصر.

واستطاع في مقابل ذلك تطوير نظرية متكاملة عن الأعراق البشرية، والتي مثَّلت أساس فهمه لما يُعْرَف بالشخصية الإفريقية، وذلك في مواجهة الافتراءات الأوروبية المتعلقة بدونية العرق الزنجي، فقد رأى أن العِرْق الزنجي مثله مثل باقي الأعراق الأخرى يمتلك شخصيته المتفردة، والتي يجب عليه أن يُطوّرها من أجل القيام بدوره تجاه الإنسانية.

وشدّد بلايدن على فكرة “الشخصية الإفريقية” الفريدة ذات الصفات الجوهرية المتأصلة في التقاليد والعادات الإفريقية الغنية، وأنها شخصية تتناقض مع القسوة الأوروبية والقتال والفردية والتنافسية والمادية؛ فالشخصية الإفريقية تحب الطبيعة والتعاطف مع كافة الجهود المبذولة من أجل الحرية.

وجادل بلايدن بأن الأفارقة أظهروا احترامًا للصفات الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية والعلاقات الشخصية أكثر من الأوروبيين بسبب روحانية الأفارقة وارتباطهم الوثيق بالطبيعة.

– القومية الزنجية pan-Negro

استخدم بلايدن كلمة “زنجي” في كتاباته وخطاباته وخطبه بدلاً من كلمة “أسود”؛ ضمن تقليد جمع الشمل لكل إفريقي في العالم، فقد كان يرى أن “إفريقيا بالنسبة للزنجي هي مسقط رأسه”، وبأنها “وطنه الأم”، وأن ليبيريا “هي وطن الزنجي الموجود في إفريقيا”.

كذلك أطلق اسم “الزنجي” على جريدته مبررًا ذلك بأنها ستكون “صوت الزنجي في كل مكان في العالم”، وأنها جاءت “لتأكيد الأُخوة بين أبناء هذا العرق وتقويتها”.

كما دعا بلايدن الأفارقة في العالم الجديد إلى العودة إلى إفريقيا في معرض كتابه “عطاء ليبيريا” الذي نشره في نيويورك 1862م، وأعلن تأييده للقوانين التي تُرسّخ للتمييز العنصري بالولايات المتحدة مقدّمًا ذلك كذريعة لاستحالة متابعة السود لاستكمال دراستهم العليا بالولايات المتحدة.

ورأى بلايدن أن اللون والعرق هو أساس القومية، ودعا إلى إنشاء “أمة زنجية”؛ ففي خطابه الذي ألقاه أمام أعضاء الجمعية الأمريكية للاستعمار 1880م، والمنشور بعنوان “إثيوبيا تمدّ ذراعيها إلى الله”، قال: “أنا أؤمن بمستقبل إمبراطورية زنجية في إفريقيا”، وقبلها في عام 1871م استطاع بلايدن أن يقيم عدة علاقات ببعض الشعوب الإفريقية بهدف ضمّهم إلى جمهورية ليبيريا، وإقامة أمة زنجية كبيرة في مواجهة الخلاسيين الذين كانوا يسيطرون على الحكم في ليبيريا، فقد كان يشعر بحقدٍ عميق تجاه الخلاسيين، فأطلق عليهم “ذوي الدم الممزوج” و”المهجنيين” في مقابل “الزنوج الأنقياء”، فلم يكن بلايدن قد تخلَّص بعدُ من عُقدة اللون والعنصرية، لكنه استبدل عنصرية الرجل الأبيض بعنصرية الرجل الأسود، ودعا إلى نقاء العرق الزنجي؛ مبررًا ذلك بأن “قسمًا كبيرًا من هذا العِرْق –برأيه- أصبح ملوثًا، هذا التلوُّث قد أصاب بضعة ملايين من أبنائه بالأمريكتين”، ودعا الزنوج إلى أن يطوّروا من أنفسهم، وأن يبحثوا عن نوع التطوير الذي يناسبهم، وحذّرهم من التقليد الأعمى للأوربيين دون تفكير مسبق.

– الدين والإثيوبيانية

بوصفه كاهنًا ومنصِّرًا؛ اهتم بلايدن بنصوص الكتاب المقدَّس، وأَوْلَى اهتمامه إلى التعليم المسيحي والدعوة له، بهدف تولّي الزنوج للمناصب بدلاً من البيض، ودعا إلى إنشاء جامعة في غرب إفريقيا يقوم عليها الزنوج. لكنَّه أيضًا تأثر ومجموعة من المفكرين السود في عصره بنصوص الكتاب المقدَّس، واعتقدوا أسطورة الخلاص المسيحيّ ومهمته الحضارية، وذلك من خلال الاحتفاء بالمسيحية السوداء باعتبارها النتيجة الغائية من أجل عبور الزنجي لمرحلة العبودية، كذلك اعتبر أن تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي كانت “هروبًا من أرض وثنية”، وأنها “مدبرة من العناية الإلهية” لتخليص الأفارقة من شرّ هذه الوثنية. وأنه هو وأقرانه عادوا إلى إفريقيا من أجل القيام بدورهم التعليمي، وتثقيف أبناء العرق الزنجي، والقضاء على الانحطاط والتخلف داخل القارة، وأنَّ مهمتهم الرئيسية هي تمدُّن إفريقيا وتحضُّرها.

واستخدم بلايدن كمفكري عصره من السود كلمة “إثيوبيا” بدلاً من إفريقيا” والإثيوبيين كمرادف للأفارقة المتحضرين. ولتأكيد وجهة نظره هذه أشار إلى نص في الكتاب المقدس “يأتي العظماء من مصر، وإثيوبيا تمدّ يديها إلى الله” (مزمور 31:68)، باعتباره نبوءة بخلاص إفريقيا من الوثنية، وله مقال يحمل عنوانه نص من الكتاب المقدس “إثيوبيا تمدّ يديها إلى الله”.

 لكنَّه على الجانب الآخر رفض “المسيحية الغربية” التي سماها “مسيحية الرجل الأبيض”، فكان من بين من دعا إلى إنشاء الكنائس المستقلة أو المنشقة، والتي كانت بمثابة ردّ فعل سياسيّ ودينيّ، فقد رفض تقويض التقاليد والعادات الإفريقية داخل الكنائس، وردًّا على ممارسات رجال الدين البيض فيها.

وأسف بلايدن “للمظهر السطحي الذي تتخذه المسيحية”، والذي سماه بـ “القشرة الرقيقة للحضارة الأوروبية”، التي اكتسى بها السكان الأصليون حين تحولوا إلى المسيحية، واعتبر أن “إيمانهم بالمسيحية كان شكليًّا”، وأنه “سطحي دون جذور”، وبأنه “لا يمكنه أن يترسَّخ ويتفاعل مع واقعهم”.

 واتهم الرجل الأبيض بأنه “استخدم نصوص الكتاب المقدس لتبرير الاستعباد”، فقدَّم استقالته من المشيخية يائسًا من التغيير من داخل الكنيسة عام 1887م، وأصدر كتابه “المسيحية والإسلام والعرق الزنجي”، وعبَّر عن يأسه بقوله: “إن الزنوج لن يستطيعوا أن يصلوا أبدًا إلى السلطة بوجود وكلاء للمسيحية في إفريقيا”.

وسافر إلى مصر وفلسطين وسوريا ولبنان، ولم يُخْفِ إعجابه بالمسلمين، وبطريقة دعوتهم وتقربهم من السكان الأصليين، وهو ما سماه “التأثير الاستيعابي للإسلام”، وأُعْجِبَ بالقوة الموحدة التي تجمع أعضاء هذه الدين، فتعلم اللغة العربية، وأشرف على تعليم المسلمين في سيراليون بتكليف من الحكومة هناك، ولطمأنة الجمعية الأمريكية للاستيطان بأنه لم يترك المسيحية؛ أشار إلى أن “الإسلام في إفريقيا هو مرحلة مهمة بين البربرية والمسيحية”، واعتبره “فترة إعداد وتحضير أساسية لتعلُّم الأناجيل”. كذلك أبدَى تقاربًا مع اليهود؛ حيث رأى بعض أوجه التشابه بين تجارب العبرانيين والأفارقة القدامى، وكان يعتقد أنهما يتشاركان في تاريخ من الاستعباد والاضطهاد والتمييز، ومن أجل ذلك سعى أعضاؤهم في الشتات إلى العودة إلى أوطانهم هربًا من تلك المِحَن.

رابعًا: دلالات فكر إدوارد بلايدن

باعتباره أبرز وأفصح مدافع عن المصالح الزنجية والإفريقية في القرن التاسع عشر؛ فقد ساهمت أفكار بلايدن بشكل كبير للجذور لكل من القومية الإفريقية African Nationalism والجامعة الإفريقية Pan-Africanism والزنوجة Negritude؛ فقد كان مصدرًا للإلهام والفخر للمفسرين المعاصرين لهذه الأيديولوجيات. وكذلك للمثقفين والمفكرين في العالم الجديد الناطقين بالإنجليزية في سعيهم المستمرّ من أجل الكرامة والمساواة لأفراد عرقهم؛ أمثال كاسيلي هايفورد Casely Hayford،  نامدي أزيكيوي Nnamdi Azikiwe،  كوامي نكروما Kwame Nkrumah، جورج بادمور George Padmore، ماركوس جارفي Marcus Garvey، إيمي سيزير Aime Cesaire.

لكن بلايدن أيضًا كان رجلاً غريبًا واستثنائيًّا، فقد كرَّس حياته كلها للقضية التي كان يؤمن بها. لكنه حين حاول أن يرد على النظريات العرقيَّة العنصريَّة؛ حيث طوَّر نظريته الخاصة عن العِرْق، وحين أراد تبرئة الرجل الأسود وقع أسيرًا لنفس التفسيرات العنصرية لتلك النظريات العرقية الأوروبية، والتي كانت تتلخص في ثلاثة تعارضات: معارضة عنصرية (أبيض مقابل أسود)، ومواجهة ثقافية (متحضرة مقابل وحشية) ومسافة دينية (المسيحية مقابل الوثنية).

فعلى الرغم من معارضته لهذه النظريات العنصرية ودفاعه عن العرق الزنجي بالحديث عن فضائله وتاريخه الثقافي ونقاء عرقه؛ إلا أنه عاد وتحدث عن ضرورة تمدُّن إفريقيا على يديه هو وأقرانه من المثقفين المسيحيين (المتحضرين) العائدين إلى القارة؛ لتصبح في النهاية كل توجهات بلايدن الفكرية في كتاباته تخلُص إلى (النقاء العرقي، والتجديد الثقافي، والتنصير)، وهو ما عارضه سابقًا وصاغ الحجج والبراهين من أجل دَحْضه.

فبعد أن كان في شبابه يدعو إلى العودة إلى إفريقيا لنشر الحضارة والتمدُّن، واستبدال قيادة الرجل الأبيض برجل أسود، عاد وأيَّد بل وروَّج للوصاية الفرنسية والبريطانية على مناطق غرب إفريقيا، وبعد أن عارض نظريات نقاء العرق الأوروبي والهرمية العرقية؛ عاد لخلق هرمية عرقية داخل المجتمعات الإفريقية بتقسيمات عنصرية، فتحدث عن نقاء العرق الزنجي، وأن الخلط بينه وبين أعراق أخرى يؤدّي إلى تراجع طبيعي، وبرهن على ذلك بـ”البنية الضعيفة للخلاسيين”.

وبلايدن الذي دعا إلى نشر المسيحية في إفريقيا من أجل تمدُّنها وخلاصها، هو نفسه الذي انتقد بقسوة سلوك الإرساليين المسيحيين في إفريقيا، وأشار إلى جهلهم بالتقاليد والعادات الإفريقية، وعاب عليهم استخدام نصوص من الكتاب المقدّس كانت تُكرّس لاستعباد الرجل الأسود، وعلى العكس تمامًا مدح المسلمين ودعوتهم التي سماها بـ”الاستيعابية” التي تتَّسع للأسود والأبيض.

لكنه في النهاية على الرغم من تناقضاته قد أسَّس لصعودٍ فكريّ في غرب إفريقيا في نهاية القرن التاسع عشر، فقد كانت أفكاره وتحليلاته وبراهينه برغم أنها كانت متعارضة أحيانًا ورومانسية أحيانًا أخرى، لكنها لا زالت هدفًا للباحثين في الشأن الإفريقي ومرجعًا فكريًّا وسياسيًّا وتاريخيًّا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.