إلى أين تتجه الأزمة السودانية؟
كتبت: أماني الطويل
.
جاءت استقالة عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني لتضع نقطة النهاية لمرحلة سياسية مضطربة في السودان، تجعله مفتوحاً على سيناريوهات أفضلها مر. ولعل السبب الرئيس وراء هذه الحالة هي طبيعة تقدير الموقف الذي بلوره المكون العسكري السوداني، الذي بنى استراتيجيته في ما يبدو على فكرة احتواء الانتفاضة السودانية، وليس تفعيل شعاراتها الأساسية لتتحول إلى واقع معاش يضمن انتقالاً ديمقراطياً واقعياً، ويسهم في تحسين حياة الناس العادية، ويكون أساس بناء السلام في السودان على أسس عقد اجتماعي جديد.
وربما يكون خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي في العيد الـ66 لاستقلال السودان، كاشفاً إلى حد بعيد عن تقدير موقف تقليدي بامتياز، وثقة متناهية في قدرة القوة الصلبة في الدولة على حسم الموقف المأزوم، على الرغم من الضغوط الهائلة التي تتعرض لها داخلياً وخارجياً، وتصاعد مستوى التوتر السياسي في السودان لمستويات خطرة ومستمرة منذ انقلاب 21 سبتمبر (أيلول) الفاشل.
“وعود بلا مصداقية”
مضمون خطاب رئيس المجلس السيادي يركز على وعود بتسليم السلطة في توقيتها المحدد بانتهاء الفترة الانتقالية، وهي وعود قد لا تملك مصداقية للأسف لا داخلياً ولا خارجياً، إذ لم يتم تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين وفقاً للوثيقة الدستورية، كما أن الرهان على القوة الصلبة للدولة بشكل مطلق ينفيه واقع أن هذه القوة في السودان منقسمة. وفي هذا السياق يصعب أن يكون الطرح بقدرتها على الحفاظ على مؤسسة الدولة واقعياً، أو أنها قادرة على منع حالة الانزلاق نحو العنف والفوضى. وأخيراً فإن ما نسب إلى البرهان من جانب أحد الوكالات الإخبارية العالمية، وتمسكت به أمام نفي رئيس المجلس السيادي، بشأن إمكانية أن يترشح من هم منتسبون للمؤسسة العسكرية في الانتخابات، يشير أيضاً إلى أن النية قد تكون معقودة على وجود سياسي مستقبلي للمكون العسكري في المشهد السياسي السوداني.
أما على الأرض، فيبدو أن هناك قراراً قد تم اتخاذه بالاعتماد على آلية المواجهات العنيفة للمتظاهرين، التي أسفرت عن وقوع خمس ضحايا خلال الاحتجاجات الأخيرة، وهو قرار في تقديرنا يعبر عن “فهم خاطئ للتفاعلات الثورية السودانية”، وعدم قدرة على تطوير رؤى مناسبة للتفاعل مع هذا الواقع ومحاولة احتوائه حفاظاً على السودان وأهله من منظور وطني شامل.
يهمل متغيرات كثيرة
وطبقاً لمفردات خطاب رئيس المجلس السيادي السوداني، فمن الواضح أنه يهمل متغيرات متعددة قد طالت المجتمع السوداني، منها طبيعته الديمغرافية التي أصبح قوامها شباب وشابات جل معارفهم وخبراتهم هي من السياقات العالمية عبر آليات التكنولوجيا الحديثة، ومنها أيضاً التطلعات المشروعة لبناء دولة حديثة لشعوب متنوعة بات من الضروري إيجاد روابط بينها تتسم بالحداثة، حتى يتم الحفاظ على مؤسسات الدولة الهشة، خصوصاً وأن الراعي في دارفور والمزارع في الجزيرة على صلة بالواقع الإقليمي والعالمي. كما أن السودان يبدو أنه مصمم بعمق على التحول نحو حكم مدني بشكل جذري، خصوصاً بعد نقض الوعود بهذا الشأن من جانب المكون العسكري، وأيضاً بسبب انتفاضاته المتعددة وما راكمتها من خبرات سياسية من ناحية، وما أحدثه نظام البشير من ناحية أخرى من قبضة “مرعبة” مازالت في أذهان الناس، ويصعب تماماً إقناعهم بأنها طوق أمان أو نجاة، لا سيما مع ما ظهر من فساد الرئيس المخلوع البشير ومعظم نخبته الإسلاموية، وهو الفساد الذي لم يتم كشفه بفعل انتفاضة ديسمبر (كانون الأول)، بل إن وثائق هذا الفساد السياسي المالي والأخلاقي وأدبياته قد صدرت قبل الانتفاضة بسنوات لتثبت فساد التجربة برمتها.
هذا المشهد السوداني المأزوم، الذي يثير قلق الجميع على المستويات الإقليمية والدولية، أصبح يتطلب إدراكاً مغايراً من جانب عبد الفتاح البرهان. ولعلي هنا أسوق قصة متداولة بأن أحد وزراء الداخلية العرب، قد وعد رئيسه برقبته أن يضمن تراجع الشارع عن غضبه، ولكن ما حدث هو أن القوات الأمنية قد انهارت تحت وقع الضغوط الشعبية الغاضبة، ولعل الحالة في إيران عام 1979 شاهداً على ضعف القوة الصلبة أمام الحشود.
التفاعل الإيجابي
في هذا السياق، ربما يكون من المطلوب من جانب رئيس المجلس السيادي التفاعل الإيجابي مع المبادرة التي أطلقت من جانب السعودية، والتي قد تذهب إلى حد ضرورة التراجع عدد من الخطوات عن المواجهة العنيفة مع الشارع السوداني، وذلك بعد فقدان أي حاضنة سياسية له وممارسة الضغوط على رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، خصوصاً في ما يتعلق بممارسة “غطرسة القوة” مع التظاهرات السلمية، وهو ما كان ضاغطاً على حمدوك أخلاقياً وسياسياً، ودفعه نحو الانسحاب من المشهد نهائياً وتقديم استقالته.
النتائج المتوقعة للفهم الكلاسيكي بشأن قدرات القوى الصلبة منفردة على حسم تصاعد التوتر السياسي وتطويق غضب الشارع، هي مجموعة نتوقعها من التطورات السياسية السلبية في السودان، منها مثلاً خلو منصب رئيس الوزراء، وهو ما يعني عجز المكون العسكري بشكل شامل عن توفير شريك مدني ولو رمزي كما في الحالة الراهنة، ما يعني إما الاستمرار في حالة الجمود السياسي، إذ لا وجود لحكومة ولا لرئيس وزراء، وإما عسكرة سلطات الحكم بالكامل وهو ما سوف ينعكس اقتصادياً وبشكل فوري من حيث التراجع الدولي عن تفعيل مبادرة “هيبك”، التي بموجبها تم حذف الديون السودانية، وهو تطور يؤثر سلباً على قوة الدولة أيضاً مع عجزها عن القيام بوظائفها الأساسية.
وفي هذا السياق، فإن عدم التفاعل السريع مع مبادرة “حزب الأمة” على الرغم من مآخذ مستويات الحزب التنظيمية عليها يهدر فرصة للتوافق، كانت قابلة للتطوير بمعنى طرحها للنقاش الداخلي في الحزب، وكذلك خارجه، بهدف إحداث توافق عليها أو غيرها من المبادرات السياسية. كما أن تجميد مبادرة السعودية يهدر فرصة التوافق الإقليمي في شأن التطورات السودانية، وهو ما قد يكون له انعكاسات اقتصادية سلبية أيضاً في ضوء دعم خليجي متواصل للسودان اقتصادياً.
بلورة طرح جديد
المشهد السوداني المأزوم قد يصلح معه حالياً التفكير في بلورة طرح جديد من جانب المكون العسكري بقبول المبادرات الخارجية، بشأن تخفيف الضغوط على القوى السياسية من هي في الشارع، ومن هي تحاول صناعة التوافقات، وأيضاً ضرورة ممارسة نقاش داخل المكونات العسكرية بشأن ابتداع أدوات جديدة بديلة عن فكرة الشراكة المدنية العسكرية، التي فشلت بعد محاولة المكون العسكري هندسة البيئة السياسية، بحيث يمكن القول إنها ستنتج انقسامات وليس ائتلافات سياسية. كما يجدر طرح النقاش بشأن أدوار قد تكون غير مرئية للمكون العسكري في المشهد السياسي السوداني، خصوصاً في إطار صيغة قد توفر قدرة على التأثير في القرار السياسي، خصوصاً المتعلق بمصالح السودان الاستراتيجية وشروط حماية الدولة.
وأخيراً، فإن تبني رئيس المجلس السيادي السوداني لإجراءات العدالة الانتقالية، واستلهام الخبرات الأفريقية بهذا الشأن، وكذلك طرحها في إعلان سياسي من جانبه، يوفر الحوار حول طرائق ومناهج التفاعل بشأن ما جرى من “انتهاكات” خلال الفترة الانتقالية، ويفرغ الغضب بشأن حقوق الضحايا، كما يوفر نقاشاً بشأن مستقبل المدانين المتوقعين بشكل لايخل باستقرار السودان وأمنه.
إن المطلوب من عبد الفتاح البرهان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان الكثير من سعة الصدر، وسعة الأفق والقدرة على التسامح في سبيل المصالح الوطنية السودانية، ويمكن أن يتأسى هنا بالفريق عبد الرحمن سوار الذهب، ولا يجعل أي نموذج آخر أو سيناريو مغاير نبراساً له، فللسودان خصوصية يصلح معها فقط التراث السياسي السوداني وليس غيره.