إلى جيل الثورة: التغيير الذي تستحقون
من يتابع المشهد الراهن في السودان على الصعد كافة لا يستطيع تصديق أو استيعاب أن الذي يجري أمام ناظريه فعلاً أنه في البلد نفسه الذي كان قبل عام واحد فقط يموج بروح ثورية غير مسبوقة مفعمة بالأمل والتطلعات نحو آفاق مفتوحة لتغيير حقيقي، يتجاوز استبدال نظام بمجرد نظام آخر، أو حاكم بآخر، يخرج السودان أخيراً من الدوران في الحلقة الشريرة للبؤس والتخلف التي رافقت مسيرته طوال حقبة الحكم الوطني على مدار العقود الستة التي مرت منذ استقلاله، وتنهي هيمنة النظام السياسي القديم بكل تمثلاته على امتداد الطيف السياسي، وتؤسس لنظام سياسي جديد يتعظ بعبرة سنوات التيه الطويلة هذه، ويسلم الراية إلى جيل جديد من شابات وشباب السودان الذي قدموا تضحيات ببسالة مشهودة من أجل غد أفضل، ولكن يبقى السؤال الكبير بعد عام من التغيير، ما الذي تغيّر حقاً؟.
(2)
كم هو مؤسف ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه السودانيون أن تتعلم الطبقة السياسية من أخطاء الماضي الذي أقعد بالبلاد منذ استقلالها، وأجهضت بلا إحساس بالمسؤولية تطلعات التغيير بعد ثورتي أكتوبر وأبريل، لتعيد إنتاج نظامين شموليين في وقت وجيز بسيناريو متكرر، ولئن وجدت هذه النخبة المغتربة عن هموم مواطنيها بعض الأعذار في المرتين السابقتين، فما الذي يمكن أن تقوله هذه المرة، إذ لا يعقل أن تُقاد البلاد والشعب المكلوم بخطى وئدة إلى إرهاصات إعادة السيناريو نفسه للمرة الثالثة، مع كل هذا الزخم العريض والآمال الكبيرة التي حملها الحيل الجديد في ثورة ديسمبر المجيدة، هل يستطيع أحد مهما أوتي من سوء ظن أن يتوقع أن يمر العام على تغيير النظام السابق، ولا شيء يتغير، فالسماء لا تمطر تغييراً، كيف يحدث تغيير، والطبقة السياسية العاجزة تعيد إنتاج الخطايا نفسها، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً.
(3)
جاءت ثورة ديسمبر المجيدة محمولة على أكتاف وتضحيات جيل جديد من السودانيات والسودانيين تحدوهم رغبة عارمة في تغيير حقيقي وآمال وطموحات تطلعات إلى بناء سودان جديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان يحقق شعاراتها السامية الساعية لبلوغ ذرى الحرية والسلام والعدالة، في وطن حر وناهض يستحقونه، وجدير بهم، وملبياً لأشواقهم، مستوعباً لقدراتهم وطاقاتهم، وإبداعاتهم، ومحرراً لهم من قيود فقر الإرادة والهمم، قبل عوز المسغبة والبطالة وانعدام الأمل. فهل في الأفق بعد عام من الانتصار من يقربهم من تلك الأحلام الممكنة؟
فقد انقضى العام، ودماء الشهداء لا تزال طرية، وجراح الثوار لم تبرأ، والمفقودون لا يزالون غائبين، ولكن لا شيء من القيم التي ثاروا من أجلها تحقق، فلا الحرية التي تبني على أسسها واقعاً جديداً ترسخت، ولا السلام الذي طالما هفت له الأنفس رأى النور، ولا العدالة التي بذلت التضحيات الجسام في سبيل إقامة موازينها بالقسط أقيمت.
(4)
لقد سنحت للسودان فرصة أخرى للنهوض بفضل ثورة الجيل الجديد، وهي السبيل الوحيد للخروج من دائرة التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتنموي في بلد لا يقعد به إلا فقر القيادة وغياب الرؤية وانعدام الإرادة، والافتقار إلى الخيال، وإدمان تسّول المعونات والمساعدات.
وها هي الوقائع تكاد تثبت للمرة الثالثة أن الفراغ القيادي العريض الذي عانى منه السودان لعقود هو سبب استدامة نكبته، لقد حان الوقت لينهض جيل جديد متحرر من كل تركة طبقة النظام السياسي السوداني القديم ليصنع مستقبله بنفسه، وهي مهمة ليست سهلة ولا معبدة بالورود، ولكنها ليست مستحيلة، وعليه ألا يستسلم لهذا الفراغ القيادي لأن البديل للتقاعس عن القيام بهذه الفريضة الغائبة هي استمرار الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها، وحتى لا نفجع بدورة رابعة لنظام شمولي آخر.