في يوم 4 من الشهر الجاري (أغسطس 2020م) وقع الانفجار الكارثي في بيروت نتيجة اشتعال حريق في مستودع خُزِّن فيه 2,750 طنًّا من نترات الأمونيوم الكيميائية التي احتُجِزَتْ في ميناء بيروت منذ 2013م. وأَوْدَتْ الحادثة (حتى وقت الكتابة 10-8-2020م) بحياة قرابة 160 شخصًا و5000 جريح.
على أن الكارثة إذ أثارت استياء العديد من الناس الذين يتساءلون عن الحكمة وراء احتجاز مثل تلك الكمية الكبيرة من المواد القابلة للانفجار وتخزينها داخل المستودع بالقرب من وسط المدينة منذ أكثر من ست سنوات دون أيّ تدابير أمنية؛ فقد سلط الانفجار أيضًا الضوء على طبيعة التجارة العالمية في المواد الخطرة.
بل ولقيتْ الحادثة اهتمامًا كبيرًا في بلدان إفريقيا وخاصة جنوب صحرائها عندما أشارت التقارير إلى أنّ سفينة “MV Rhosus” الروسية التي حملت تلك المواد الكيميائية كانت تتَّجه من “باتومي” بجورجيا إلى “بييرا” في موزمبيق بمنطقة إفريقيا الجنوبية.
وكانت جُلّ الأسئلة المطروحة تتمحور حول الغرض الحقيقي وراء مثل هذه المواد الكيميائية في موزمبيق وحالات المواد الخطيرة الأخرى الموجودة في مختلف الموانئ الإفريقية، وكيف تجد البضائع المحظورة طريقها إلى داخل بلدان القارة رغم تهديدها لأمن وسلامة المجتمعات الإفريقية.
وعلى ضوء ما سبق، ونظرًا لأوضاع الموانئ الإفريقية؛ فإن الحادثة بمثابة دعوة لاستيقاظ الموانئ الإفريقية، وفيها دروس مهمة يمكن إيجازها فيما يلي:
1- تفضيل أمن الميناء وسلامة المواطنين على العوائد:
أشار تقرير من عام 2015م إلى أن السفينة الروسية الحاملة لنترات الأمونيوم الكيميائية دخلتْ مرفأ بيروت بعدما واجهت مشاكل فنية، وهي في طريقها إلى موزمبيق، وأن السفينة اعتُبِرَتْ غير آمنة بعد تفتيشها ولم يُسْمَح لها بمواصلة رحلتها؛ فتخلَّى طاقمها عنها وعن حمولتها بعد فشل جهود معالجة المشاكل وإخفاق مساعي التواصل بمالكها ومستأجريها، وهو ما أدّى إلى تخزين المواد الكيميائية الخطرة في مستودعات الميناء.
إنَّ مثل الحالات السابقة تكثر حدوثها في الموانئ الإفريقية حتى عندما لا تكون هذه الموانئ هي الوجهة النهائية لتلك المواد الخطرة والبضائع المحظورة؛ فالحاويات تُحتَجز أثناء العبور لفترة طويلة بسبب تخلُّف أصحابها عن سداد ضرائب أو مستحقّات معينة، ويُحتفظ بما في داخلها رغم مخاطرها على أمن الميناء وسلامة المدن القريبة منه. وفي حالة ميناء “أبابا” الرئيسي في نيجيريا؛ فإن ضعف الإدارة وفرار مالكي الحاويات بعد اكتشاف حقيقة بضائعهم دائمًا ما يؤديان إلى تكدُّس المرفأ، وتعرّض المناطق السكنية المجاورة إلى مشاكل بيئية؛ نظرًا لكثرة الحاويات المنبوذة وتسوّس البضائع المحتجزة لسنوات طويلة.
بل تواجه موانئ بعض دولٍ إفريقيا أيضًا تحديًا آخر يتمثَّل في النفايات التي تُصدّرها الدول الأوروبية والآسيوية إلى غرب إفريقيا وشرقها؛ فتُجّار هذه الموادّ يحتجّون بأنها اقتصاد عالمي مزدهر -خصوصًا النفايات الإلكترونيات والبلاستيكية والطبية والكيميائية-، بالرغم من أن الاتجار بها غالبًا ما يكون بطريقة غير مشروعة؛ حيث يعتمد أصحابها على أوراق مزيفة ووسائل تهريب أخرى. وكانت النتيجة أن تدخل موانئ القارة نفايات سامة يتم التخلُّص من بعضها في المدن والأماكن العامة، كما كانت الحال في كل من غانا التي تعاني بعض شوارعها منذ سنوات من النفايات الإلكترونية، وفي ساحل العاج التي سلمت سفينة “بروبو كوالا” في عام 2006م نفاياتها السَّامة إلى شركة محلية فشلت في إعادة تدويرها ووضعتها في مواقع مختلفة وأماكن متعددة في أبيدجان فتسببت في كارثة صحية طويلة الأجل على سكان المدينة.
2- تطوير الموانئ الذكيّة لتحسين الأداء:
يمثّل مكوث الشحنات في الموانئ لفترات طويلة تهديدًا متجدِّدًا في عددٍ من الدول الإفريقية؛ بسبب ضعف البنية التحتية لهذه الموانئ أو تأخّر صدور القرارات القانونية في الحالات الاستثنائية، أو بسبب طول إجراءات التخليص والفحص الجمركيين اللَّذين يعتمدان حتى الآن في بعض الدول على الفحص اليدوي بدلاً من التشغيل الآلي، وهو ما يجعل بعض المستوردين يتخلون عن بضائعهم لطول فترة الإجراءات، بينما يحوّل آخرون مساحات الميناء الطرفية إلى مستودعات، ما يعني إمكانية حدوث حوادث خطيرة بسبب تخزين المواد الخطرة لوقت إضافي.
ففي حادثة ميناء بيروت، وصلت المواد الكيماوية في عام 2013م، وبينما حذَّرت الجمارك اللبنانية مرارًا من الخطر الذي يشكّله تخزين نترات الأمونيوم في مستودع الميناء، فقد تجاهلت الجهات القانونية دعوات إزالتها والتخلص منها في أسرع وقتٍ ممكنٍ.
وعلى ما سبق، وبالنظر إلى أنّ أزمة كورونا المستجد تفرض على سلطات الموانئ ضغوطات زائدة لتعزيز أمن وطنها، وزيادة الكفاءة، وتقليل الآثار البيئية من خلال التشغيل الفعَّال للموانئ؛ فإن هناك حاجة ملحَّة إلى تطوير الموانئ الذكية في الدول الإفريقية وتعزيزها في الدول التي بدأت تنفيذها، وذلك باستغلال التطورات التكنولوجية والابتكارات السريعة التي تشمل الأتمتة والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وإنترنت الأشياء وغيره، خصوصًا وأن تحسين كفاءة وقدرة الموانئ الإفريقية يُعَدّ هدفًا رئيسيًّا لسياسة المنظمات الإقليمية والمؤسسات القارية الإفريقية؛ بما ذلك الاتحاد الإفريقي، والمجموعات الاقتصادية الإقليمية، ورابطة إدارة الموانئ في شرق وجنوب إفريقيا.
3- إنشاء موانئ متخصِّصة:
كانت شحنة نترات الأمونيوم التي انفجرت في ميناء بيروت تأتي عادةً في شكل كريات صغيرة تُستخدم كمصدر النيتروجين للأسمدة الزراعية، ولكنها أيضًا تُخلَط مع زيت الوقود لصنع متفجرات لصناعات التعدين والبناء؛ مما يجعل معظم الدول تتحكم في تخزينها عبر لوائح للتأكد من سلامتها.
وقد عاد إلى السطح مرة أخرى فكرة إنشاء موانئ متخصِّصة بسبب خسائر حادثة بيروت والأضرار التي لحقت بصوامع الحبوب الضخمة والمستودعات ومعدات الموانئ والسفن والمنازل والتي تُقدَّر كلّها بما بين 10 و15 مليار دولار أمريكي؛ فمؤيدو الموانئ المتخصِّصة يرون أنها ستساهم في تجنيب جُلّ القطاعات الحسَّاسة من التأثر في أوقات الكوارث والأزمة في الموانئ العامة؛ نظرا لوجود موانئ خاصة لمختلف المنتجات الزراعية والشحنات القابلة للانفجار؛ كموانئ مخصصة للنفط والغاز، وموانئ للمنتجات الزراعية، وموانئ الصيد، وموانئ خاصة للمواد الكيميائية.
بل يرى المنادون بإنشاء الموانئ المتخصصة -في نيجيريا مثلاً- أنها ستضمن تحسين خدمات الموانئ وزيادة الكفاءة؛ نظرًا لديناميكيات الشحنات التي تتلقاها البلاد، والحاجة إلى تخفيف الازدحام الذي تعاني منه الموانئ الرئيسية في البلاد، إضافةً إلى تقليل التعقيد السائد أثناء معالجة الشحن والتخليص الجمركي؛ حيث العاملون في كل هذه الموانئ المختلفة سيكتسبون خبرة لازمة في التعامل مع الشحنات الخطيرة؛ وذلك لأن حدوث أيّ انفجار مثلاً في ميناء “أبابا” المليء بأرصفة المنتجات البترولية الموجودة في مجمع الميناء قد يسبّب انهيارًا كاملاً لاقتصاد نيجيريا المعتمد على النفط.
هذا، وتُوجد نماذج مشرّفة من بعض الموانئ الإفريقية في طريقة تعاملها مع الشحنات الخطيرة؛ فمسؤولو ميناء “ديربان” بجنوب إفريقيا على سبيل المثال يشدّدون على اتباع اللوائح اللازمة عندما تحمل السفينة موادّ كيميائية أو شحنات خطرة، وتخضع نترات الأمونيوم لإجراءات صارمة عندما تصل ميناء “ديربان” الذي يرفض تخزين مثل هذه المواد في الميناء؛ حيث تتعامل سلطة الميناء معها في رصيف خاصّ محدّد، وعلى مالكها إخطار السلطة قبل قدوم السفينة، وقبل وصولها؛ لضمان نقلها فورًا عبر عربات السكك الحديدية المجهّزة لها. بالإضافة إلى أن جميع الموانئ في جنوب إفريقيا تُجْرِي تقييمات مكثّفة للمخاطر سنويًّا.
4- نشر الوعي التنظيمي:
تتمتع الدول الإفريقية بقوانين أساسية تحكم أنشطتها البحرية، وفصّلت بعضها في هذه القوانين طريقة نقل البضائع والمواد الخطرة؛ ففي نيجيريا يجب أن يكون النقل عبر المياه، وعلى متن السفن، مع مراعاة المدونة البحرية الدولية للبضائع الخطرة (IMDG) الخاصة بالمنظمة البحرية الدولية (IMO)؛ وذلك لتعزيز النقل الآمن للبضائع الخطرة، وتسهيل حرية الحركة غير المقيدة. وقد طوّرت نيجيريا أيضًا بوابة IMDG الإلكترونية، وركَّبتْ أنظمة دقيقة لتتبُّع البضائع الخطرة في جميع أنحاء البلاد.
ومع ذلك؛ فإن غالبية هذه القوانين تفتقر إلى لوائح منفصلة عن وصف الإجراءات التوجيهية اللازمة لتخزين هذه المواد، والكمية التي يُسمح بشحنها، والاحتياطات التي يجب اتخاذها أثناء نقلها البضائع؛ حيث أظهرت الوثائق المتداولة على الإنترنت في أعقاب انفجار ميناء بيروت أن مسؤولي الجمارك اللبنانية طلبوا التوجيه من القضاء ست مرات على الأقل (بين عامي 2014م إلى 2017م) بشأن المواد الكيميائية.
وأخيرًا، يجب على مسؤولي الموانئ الإفريقية تضافر الجهود لتحقيق أمن الميناء الذي يتطلب استجابات إقليمية وعالمية؛ نظرًا للنطاق العابر للحدود الوطنية؛ فتكرار حوادث وصول الشحنات المحمَّلة بالأسلحة والذخائر في ميناء “أبابا” النيجيرية دون معرفة مالكيها يؤكِّد ضرورة مشاركة سلطات الموانئ الإقليمية والعالمية المعلومات الأمنية فيما بينها، كما أن ازدهار تجارة النفايات المهدّدة للصحة والبيئة في إفريقيا يُظهر وجود خللٍ في أنظمة مراقبة الموانئ وتنظيمها.