الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة هي منبع تيّارات التّكفير في السّودان

0 89

كتب: د. محمد جلال هشام

.

منذ تدشين السّلطنة الزّرقاء (بمعنى “السّوداء”)، نشب صراع خفي ما بين نمط التّديُّن الشّعبي من جانب ونمط التّديُّن الأورثوذوكسي من جانب آخر. النّمط الأوّل يعبر عن ثقافة المجتمع وعبقريّته في إحداث تشكيلة تفاعليّة ما بين الإسلام الوافد وبين الثّقافات السّودانيّة. أمّا النّمط الثّاني فهو يعكس تشكيلة ثقافية قائمة بذاتها، لكنّها تنتمي لمجتمعات أخرى بخلاف الثّقافة السّودانيّة. وعندنا أن قيام الدّولة الدّولة المهديّة وجملة فكرها المهدوي (وليس الثّورة المهدية بالضّرورة) تمثّل انتصار النّمط الثّاني على النّمط الأوّل. ومنذ ذلك التّاريخ ظلّت التّيّارات الأصولية التي تتّبع نمط التّديُّن الأورثوذوكسي في تنامٍ مضطرد على حساب المجموعات التي تتّبع نمط التّديُّن الشّعبي. وقد بلغت قمّة هذا في تكفير وتنفيذ حكم الإعدام بحقّ المفكّر الأستاذ محمود محمّد طه في يوم 18 يناير 1985م. وهي المرحلة التي لا نزال نعيش فيها حتّى اليوم.
وعليه، تنامي الحركات التّكفيريّة الذي نعيشه الآن، أكان ذلك على مستوى السّودان أم على مستوى المسلمين جميعاً، يقع داخل الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وعمليّات تزييف الوعي وتزييف الواقع، ثمّ الإقصاء الذي يبلغ مداه في تجريد المرء من حقّ الحياة بحجّة الكفر ومفارقة الملّة. وهنا علينا أن نتذكَّر حقيقة هامّة، ألا وهي أنّ التّكفير لا يوجد في القرآن، بل هو في المرويّات عن النّبي محمّد. فالقرآن لا يُشير إلى أيّ حكم يتعلّق، ذلك لأنّ الإسلام الدّين يقوم على الضّمير، بينما في الإسلام الدّولة، يصبح الإيمان بالإسلام أحد شروط حماية الدّولة، بينما أصبح عدم الإيمان بالإسلام شكلاً من أشكال الخيانة العظمى. وكل هذا حدث عبر المرويّات عن النّبي. وبالطّبع، لم تتوقّف مؤسّسة الدّولة على ما كانت عليه في القرن السّابع الميلادي؛ بل تطوّرت إلى أن بلغت مصاف الدّولة الوطنيّة غير المعنيّة بالضّمير، إذ تركت الضّمير للثّقافة والانفتاح والحرّيّة.
كيف نواجه الحركات التّكفيريّة وجائحة الهوس الدّيني؟
يحدّثنا التّاريخ بأنّك لا يمكنك أن تتحاور مع الهوس الدّيني والعنصريّة. فكما يقول المثل إنّك لا يمكن أن تعقلن الأشياء مع العنصريّة، يصحّ أيضاً القول إنّك، مهما فعلت، فلا يمكن أن تعقلن الأشياء مع الجنون you cannot reason with madness؛ فالعنصريّة شكل من أشكال الجنون. ويحدّثنا التّاريخ أن الهوس الدّيني والعنصري إمّا أن يسحقك، أو أن تقوم أنت بسحقه either it crushes you, or you crush it .
هذا ما يحدّثنا به التّاريخ! ولكن ليس للتّاريخ وصفة واحدة لا يعدوها إلى غيرها، وإلاّ لم يعد هو التّاريخ. فكما قلنا، إنّ التّاريخ ليس فقط هو الماضي، بل هو ثلاثي الزّمن يشمل الماضي والحاضر والمستقبل. فاليوم في عصر العولمة وما بعد الحداثة، مع الانتقال السّريع للمعلومات بحيث أصبح العالم مجرّد قرية ـــ في هذا العصر، يبقى التّعويل كبيراً على سرعة انتشار المعلومة المفكّرة التي تملك القدرة على تفكيك تصلّب وتحجّر الأيديولوجيا بحيث تنجاب غشاوتها عن العين وتستعيد الرؤوس عقلانيّتها وتتحرّر من جنون الهوس الدّيني والعنصري. هذا ما يُبقي جذوة الأمل فينا تتلألأ ذُبالتُها برغم رياح الأيديولوجيا العاتية التي تهبُّ الآن من كلّ حدبٍ وصوب. ففي النّهاية سوف تنتصر الثّقافة لا محالة، بينما ستنهزم الأيديولوجيا.
ما هو المعيار لتحديد أنّ فقهاً دينيّاً بعينه ينتمي للثّقافة أم إلى الأيديولوجيا؟
في رأينا أنّه لا بدّ من تحديد المعيار الذي عبره يمكننا أن نحكم بأنّ الأيديولوجيا قد سيطرت على الدّين أم لا. وفي البدء لا بدّ من أن نُشير بأنّ تعبير “سيطرة الأيديولوجيا على الدّين” ليس سوى تعبير مجازي في حدّ ذاته. فالأيديولوجيا، أيّ أيديولوجيا، لا يمكنها أن تسيطر على أيّ دين طالما كان ديناً. الأيديولوجيا تسيطر على الفهم الفقهي للدّين، ثمّ تخلق الوهم بأنّها قد سيطرت على الدّين نفسه، ولكن هيهات. وهذا هو مُناط استخدامنا للتّعبير على مجازيّته. المعيار، في رأينا، هو أنّه كلّما قلّت واضمحلّت حريّة التّفكير وحرّيّة التّعبير في أيّ فقه ديني، ذلك بأن تحتلّ المحرّمات والممنوعات، بجانب المحظورات، كلّ أو أغلب الصّفحة، كلّما كان ذلك مؤشّراً إلى أنّ الأيديولوجيا هي قد سيطرت على ذلك الفقه. ومن ثمّ تعمل الأيديولوجيا على خلق الوهم بأنّ هذا الفقه المُحرِّماتي هو الدّين وما عداه فالباطل. هنا نلاحظ أنّ حرّيّة التّعبير وحرّيّة التّفكير ومجمل الحرّيّات الأساسيّة الأخرى قد اضمحلّت وأصبحت تشغل هامش الصّفحة الرّئيسيّة التي تحتلُّها المُحرّمات والممنوعات .. إلخ. بهذا يتحوّل الدّين (ممثّلاً في مذهب فقهي بعينه، وليس على وجه التّحقيق الدّين نفسه).
وفي المقابل، كلّما شغلت الصّفحة في عمومها الحرّيّة الفقهيّة بما يعني حريّة التّفكير وحرّيّة التّعبير ومجمل الحرّيّات التي تقع ضمن الحقوق الأساسيّة، وأصبحت الممنوعات والمحرّمات والمحظورات تحتلّ هامش الصّفحة، كلّما تحوّل الدّين إلى طاقة ثقافيّة تتّجه دالّتُه نحو البناء والتّعمير وتحقيق التّغير المنشود. وبهذا يتحوّل الدّين إلى قوّة وطاقة ثقافيّة جبّارة تخلق الحضارة والنّهضة. فالدّولة الوطنيّة نفسها، بوصفها منتجاً حضاريّاً، جاءت كأثر لحركة تحرّر ديني هي حركة الإصلاح الدّيني بقيادة مارتن لوثر في عام 1517م. وعليه، كلّما اتّجهت المذاهب الفقهيّة الدّينيّة إلى الانفتاح الثّقافي، كلّما تحوّل الدّين إلى طاقة نهضويّة؛ وبالعكس، كلّما اتّجهت المذاهب الدّينيّة إلى الانغلاق الأيديولوجي، كلّما تحوّل الدّين إلى قوّة هدم وتدمير.
الدّين الإسلامي ومشروع الاستنارة
في الظّنّ أنّه لا يمكن تحقيق أيّ قدر من الاستنارة الدّينيّة، فيما يلي المسلمين، ما لم يتمكّنوا من ابتناء فقه ديني استناري يقوم بدوره على فكر ديني استناري أيضاً. فمواجهة الهوس الدّيني بجملة من الآراء الفقهيّة المتطايرة Volatile والمتناثرة دون منهج متكامل، يعني في حقيقة الأمر خوض هذه المعركة الضّميريّة والثّقافيّة بالدّرجة الأولى والمسلمون متسلّحون بنفس أسلحة الهوس الدّيني الأيديولوجيّة، وليست الثّقافيّة. فالقاعدة الأساسيّة هنا هي مواجهة ظاهرة الهوس الدّيني والعنصري بفكر ديني متكامل فقهيّاً، وليس مجرّد العمل والبحث بين تلافيف النّصوص والمقولات الدّينيّة عن موقف يعارض ويناقض حجّة بعينها يستند على المهووس دينيّاً.
بجانب هذا، يبقى أن نقول إنّ أهمّ قاعدة يُنصح باتّباعها في مواجهة جائحة الهوس الدّيني والعنصري هو العمل في سبيل تحقيق الاستنارة الدّينيّة عبر الحوار Dialogue، مقابل الاستغلاق، أي “الإيديولوق” Ideologue. ولا يمكن أن تتحقّق هذه الاستنارة الدّينيّة إلاّ بتحرير الدّين الإسلامي من الأيديولوجيا التي شابته خلال عمليّة تحوّله إلى ثقافة، أي عندما تنزّل من اللاهوت إلى النّاسوت. فبينما ينتمي الدّين في سماحته (على ألوهيّته) إلى الثّقافة في حال تنزّله بين البشر، ينتمي الهوس الدّيني إلى الأيديولوجيا. فالدّين ثقافي، في معنى أنّ غاية أيّ دين هي أن يتحوّل إلى ثقافة. هذا بينما التّيّارات الاجتماعيّة غير الثّقافيّة تنحو إلى اختطاف الدّين عبر أدلجته.
في هذا الصّدد (تحقيق الاستنارة الدّينيّة عبر الحوار)، فإنّ الصّدق مع النّفس في عمليّة تحقيق الاستنارة الدّينيّة يحتّم التّقيّد بمبدأ الارتباط engagement مع ضحايا ظاهرة الهوس الدّيني، ذلك بدلاً عن فكّ الارتباط بهم disengagement واعتزالهم. وما نعنيه بالارتباط يختلف تماماً عن العمل على إلحاق الهزيمة بهم بتفنيد موقفهم الضّعيف فكريّاً وبنيويّاً وسلوكيّاً، فهذا أدخل في اعتزالهم عبر شوطنتهم. إذ مهما بلغت بهم درجة الهوس الدّيني والعنصري، تبقى هناك حقيقة أنّهم بشر، ما يعني كامل استحقاقهم في أن يُعاملوا بالقدر الضّروري واللازم من الإنسانيّة، إيماناً بإنسانيّتهم المجروحة بالأيديولوجيا، ثمّ أملاً في إنسانيّتهم بأن تسود وتستعيد نقاءها وذكاءها الثّقافيّين.
هناك مؤسّسات ضروريّة في عمليّة تحقيق الاستنارة الفكريّة، أوّلها (كما سبقت إلى ذلك الإشارة) هو اختطاط منهج ديني يحقّق للدّين تنزّلاته الثّقافيّة بحيث يحمي المجتمع من أيّ تيّارات لاختطافه أيديولوجيّاً. أمّا الأمر الثّاني، فهو مؤسّسات الإبداع، وعلى رأسها المسرح (وتشمل عندنا كلّ مؤسّسات الدّراما الحديثة). فما يفعله المسرح من كشف للاستغلاق مقابل الانفتاح الثّقافي، بجانب وضع الضّمير الفردي والجمعي (أي الثّقافي) في مواجهة التّبلّد والاستغلاق، يكشف عن قدرات هائلة في إحداث التّغيير عبر قدراته الفائقة في إدارة الحوار بين الفرد والفرد، وبين الفرد وضميره. بعد هذا تأتي المؤسّسات العدليّة، الدّستوريّة والقانونيّة، بجانب مؤسّسات إنفاذ القانون، من حيث حماية الفرد والمجتمع بما يحققّ ويضمن قيم الحرّيّة والعدل والسّلام، أي القيم الثّقافيّة.
في هذا الصّدد نرى أن نركّز حديثنا عن المسرح. فالأيديولوجيا، برغم أنّها تورّث الغباء الأيديولوجي (وهو معيار قياسي عام وسلبي)، بمثل ما تورّث في خاتمة أمرها الغباء الشّخصي ولو بلغت معدّلات الذكاء في دماغ الشّخص المعني درجاتٍ عالية. انظر لحركة الإخوان المسلمين في السّودان وكيف قادتها الكوادر المتعلّمة التي تلقت تعليما أعلى في أرقى الجامعات الوطنيّة والعالميّة، ما يعني انفتاحهم على المنتج الحضاري العالمي في أرقى صوره. ثمّ قارن كيف تنكّبوا محجّة الدّيموقراطيّة الغرّاء (1985م ــــ 1989م)، فدبّروا انقلابهم في 30 يونيو 1989م، ثم أقاموا دولتهم التي لم ينازعهم فيها الأمر أيّ قوّة أخرى لمدى ثلاثين عاماً. في كلّ هذا، ظلموا النّاس كما لو كانت رسالتُهم هي ظلم الشّعب والاقتصاص منه؛ ثمّ أفسدوا في الأرض فساداً لم يسبقهم عليه حتّى الاستعمار المصري التّركي الذي قام على الرّيع دون تحقيق الحدّ الأدنى من التّعمير الذي استمدّ مصطلح “الاستعمار” اسمه منه؛ ثمّ فرّطوا في الوحدة الوطنيّة وقسّموا البلاد، بل باعوا بعد أقاليمها (ومن يبيع الوطن، كمن يبيع أمّه في المزاد) رشوةً وثمناً لحماقاتهم وأخطائهم القاتلة في حقّ جيرانهم؛ ثمّ أكثر وأخطر من هذا، فقد أثبتوا بالدّليل العملي أنّهم لم يتمكّنوا (وبكلّ أسف حتّى هذه اللحظة) من فهم ما تعنيه “مؤسّسة الدّولة الوطنيّة”، وكيف أنّ عًلمانيّتها ليست سوى شرط بنيوي لها بدونه سوف يتفكّك بنيان الدّولة طوبةً إثر طوبة. تأمّل في كلّ هذا ودلّني والقرّاء لما فيه مقدار خردلة من الذّكاء، الشّخصي والوجودي! إذ ليس أدلّ على الغباء الأيديولوجي ممّا فعلته هذه الحركة التي رفعت شعار الدّين عالياً، ثمّ برغم هذا تمرّغت في زخم الفساد كما يتمرّغ الخنزير في قاذوراته. لقد فعلوا كلّ هذه الأفاعيل باسم الإسلام، فتبصّر وتأمّل!
إلاّ أنّ أخطر ما كشفوه من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي هم عدم قدرتهم تماماً (اللهم إلاّ قلّة قليلة لا يُعتدُّ بها) على فهم طبيعة الثّورة الشّعبيّة المجيدة التي أطاحت بحكمهم في 18 ديسمبر 2018م. فقد أثبت الإخوان المسلمون (وكلّ من والاهم في مواقفهم الأيديولوجيّة التي تقف كشاهد حيّ لحالة من حالات الغباء الأيديولوجي والشّخصي الفريدة) أنّهم كآل البوربون، لم ينسوا شيئاً، كما لم يفهموا شيئاً بالمرّة. فقد عجزوا عن أن يفهموا ما تعنيه ثورة شعبيّة أجمع العالم كلّه على أنّها غير مسبوقة في تاريخ البشريّة، دع عنك تاريخ الشّعب السّوداني الذي اجترح ثورتين قبلها اعتمدتا على سلاح السّلميّة. كما لم يفهموا ويستوعبوا طبيعة الأخطاء القاتلة التي ارتكبوها ودرجة الانحطاط الأخلاقي التي انحدروا إليها وتحدّروا بها بالشّعب. فالحكم الرّاشد يُخرج أطيب ما في الشّعب، بينما يخرج الحكم الفاسد أسوأ ما في الشّعب. ولكن، كما قلنا، فإنّ الثّقافة تنتصر في النّهاية دون حاجة لاستخدام القوّة المادّيّة وعنف الدّولة. كلّ هذا عجزوا عن فهمه ولا يزالون يقيمون في ضلالهم القديم، إذ يحلمون باستعادة حكمهم. كيف؟ عبر تأليب الغوغاءMob Mobilization ! أي بنفس تكتيكاتهم التي أوردتهم موارد الهلاك، هذا دون أن يتعلّموا شيئاً ودون أن ينسوا شيئاً.
إنّ هذه الجائحة من الهوس الدّيني والغباء الأيديولوجي لا يمكن مواجهتها بالفكر وحده، ولا بالتّسامح وحده، ولا بالقانون وحده، بل، في الحقِّ، لا يمكن مواجهته بكل هذا مجتمعاً. فكيف نواجهه؟ نواجهه بالإبداع! بالفنّ عموماً، أكان شعراً أم قصّةً أم غناءً، وعلى وجه الخصوص بالمسرح والدّراما والسّينما! وقد أشرنا في كتبنا إلى هذا بإسهاب، فليُراجع في مظانِّه. فالفنّ له قدرة عجيبة في التّغلغل داخل ضمير الفرد والجماعة وإيقاظ روح الإنسانيّة النّائمة والمخدّرة؛ والفنّ قادر على إحياء الضّمير الميّت للفرد وجعله قادراً على استعادة إنسانيّته التي ربّما لم تبقَ منها غير الرّسوم والجسوم دون المحتوى. لا غرو أنّ جماعات الهوس الدّيني والأيديولوجي ليس فقط لا يعرفون الفنّ بمختلف ضروبه، بل يكفّرونه.
ما بين الآفروعموميّة والإسلاموعروبيّة: أيّهما ثقافة وأيّهما أيديولوجيا؟
فيما يلينا هنا في السّودان، يمكن ملاحظة أنّ الإسلاموعروبيّة تعمل على تزييف وعي الأفارقة، المستعربين منهم وغير المستعربين، بأنّهم ليسوا فقط عرباً، بل هم عربُ العرب. هذا وسط سخريّة وهُزء العرب العاربة وسلقهم لمن يصادفونه من السّودانيّين بألسنةٍ حِداد، لا يرعون فيهم إلاًّ ولا ذمّة. الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة تفعل هذا ولو كان هذا على حساب سماحة الدّين وحنانِه، ولو كان هذا على حساب مستوى اللغة العربيّة في المدارس والجامعات، حيث أصبح لدينا، خلال سنوات دولة الإنقاذ الإسلاموعروبيّة الثّلاثين، خريجو جامعات لا يستطيعون أن يكتبوا جملة صحيحة باللغة العربيّة. وعلى هذا يمكن أن نخلص إلى أنّ الإسلاموعروبيّة هي أيديولوجيا وهو ليس سوى تكرار لما ظللنا نستعرضه في طول وعرض صفحات هذا الكتاب.
أمّا إذا جئنا إلى الآفروعموميّة Pan Africanism ، في السّودان بوجهٍ خاص، أوّل ما نلاحظه هو أنّها تعمل على ترفيع وعي السّودانيّين بهويّتهم الأفريقيّة السّوداء، ذلك من خلال الاهتمام ورعاية هويّتنا هذه عبر تطوير ثقافاتنا الأفريقيّة من عادات وتقاليد ولغات. هذا دون أن تحرم أحداً، فرداً أومجموعةً، من أن يزعم بأنّه عربي، ودون أن يحاول أن يعمّم هذا على جميع السّودانيّين. أي، باختصار، تعمل الآفروعموميّة على ترفيع الوعي بالهويّة السّودانيّة بوصفها ثقافة. وهذا وحده يحسم المسألة ويجعل أيّ عاقل وموضوعي يخلص إلى أنّ الآفروعموميّة ليست أيديولوجيا بل هي ثقافيّة. وبموجب هذا، ليست الآفروعموميّة بتيّار عنصري، ذلك بدليل أنّ موقف الآفروعموميّة في السّودان من الثّقافة العربيّة الإسلاميّة يكمن في جانبين ثقافيّين؛ الأوّل هو أنّنا عربفونيّون، بما يعني التقعيد الفكري الثّقافي، غير الأيديولوجي، لمسألة التحدّث باللغة العربيّة بمختلف لهجاتها، دون أيّ ادّعاء بأن جميع السّودانيّين هم عرب. الجانب الثّاني هو قبول وجود عرب بيننا ينبغي على الدّولة أن تحفظ حقوقهم بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من مكوّنات الهويّة السّودانيّة.
اليوم في السّودان، وفي ظلّ غلواء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة وسيطرة مؤسّساتها الاجتماعيّة على مؤسّسة الدّولة بما يهدّد وجود الدّولة نفسها، قد تمايزت الصّفوف! فنحن إمّا إسلاموعروبيّون أو آفروعموميّون. ففي ظلّ الاستقطاب الحاد الذي صنعته الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة، وطريقتها المعهودة في التّعامل مع النّاس بطريقة “إن لم تكن معي، فأنت عدوّي”، لا يبقى من موقف غير أن يحدّد الجميع مواقفهم. حتّى المجموعات التي تصنّف نفسها على أنّها عربيّة، يبقى عليها أن تحدّد موقفها. فالآفروعموميّة ليست وقفاً على الأفارقة السّود فحسب، بل هي مفتوحة لكلّ من يؤمن بعدالة قضيّتهم المتمثّلة في اضطهادهم لمجرّد سواد ألوانهم. أمّا السّودانيّون الأفارقةُ السّود الذين يقفون ما بين بين، فليعلموا بأنّهم لن يكسبوا بهذا الإسلاموعروبيّين بمثلما يفوتهم شرف الانتماء لهويّتهم الحقّة. هؤلاء يقفون في مرحلة لا تختلف إلى اختلاف مقدار، وليس اختلاف نوع، عن تلك المجموعات السّودانيّين الأفارقة السّود الذين لا يُنكرون أفريقيّتهم فحسب، بل يكرهون ذواتهم لمجرّد كونهم أفارقةً سوداً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.