الإنقاذ يومذاك في تسلُّطيَّة نازيَّة (1 من 2)
بُعيد الانتفاضة الشعبيَّة واقتلاع النظام “الإنقاذي” في 11 نيسان (أبريل) 2019م أظهرت وسائط التواصل الاجتماعي صوراً لصبية وسط حزمة من الأسلحة البيضاء (السكاكين والسواطير والسيوف وغيرها من أنواع الأدوات المستخدمة في الطعن والقطع)، وقد قيل حينها إنَّهم يتبعون لعصابة النيقرز (Niggers)، وذلك بالمعنى العنصري للكلمة في دول الغرب. والسِّلاح الأبيض مصطلح يُطلق على طيف من الأسلحة الفرديَّة اليدويَّة غير النَّاريَّة، التي تُستخدم للهجوم والدفاع، وأحياناً تكون أداة للقتل، ولا يعني الإشارة لها باللون أنَّها محدَّدة بلون معيَّن. ومع أنَّ اللفظة جاءت من لون نصال الأسلحة القاطعة كالحراب والخناجر، فكلمة بيضاء تشير لنوعها. مهما يكن من شأن، فقد كان النظام المباد يستغل هؤلاء الصبية، ويستعين بهم لترويع الثوَّار وإدخال فوضى في الأحياء عن طريق عمليَّات السطو الليليَّة، وانتشار الجريمة المنظَّمة في سبيل إفشال الانتفاضة الشعبيَّة في أحياء العاصمة المختلفة، ثمَّ كانوا يعملون تحت إشراف جهاز الأمن والاستخبارات الوطني. ولعلَّ البعض أو كثراً من النَّاس لم يول المسألة أهميَّة في بادئ الأمر ونهايته. إذاً، هل كان لهذا التعاون البشع مثيل في التأريخ؟ ومن ذا الذي ابتكر شيئاً من هذا القبيل من قبل؟
الجدير بالذكر أنَّه في خلال الأربع سنوات التي فيها أمست فرنسا تحت نير الاحتلال النازي إبَّان الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م) قُتِل حوالي 900.000 من رجال المقاومة الفرنسيين بواسطة النازيين. بيد أنَّ ملاييناً كثيرة من الفرنسيين لم يفعلوا شيئاً لعرقلة الاحتلال الألماني، بل أنَّ بعضهم استغلوا الاحتلال ليبنوا إمبراطوريَّات إجراميَّة، ويعتاشوا على خيرات الأرض، وأموال النَّاس بالسُّحت، ويثروا ثراءً فاحشاً. غير أنَّ العزاء الوحيد للضحايا هو أنَّهم – أي هؤلاء المجرمين – قد انتهوا تحت وابل من رصاص الإعدام حين جاءت ساعة الموت، وهم ينظرون.
ففي كتاب “ملك باريس النازيَّة” (The King of Nazi Paris) للمؤلِّف كريستوفر أوثين يستعرض الكاتب حياة الشخصيَّة المحوريَّة في الكتاب وهي هنري تشامبرلين المعروف ب”لافون”. ففي سنوات الفراغ، التي سبقت الحرب، وحين كانت الجمهوريَّة الفرنسيَّة الثالثة على وشك الانهيار، كان لافون يقضي حياته في السجن تارة، وخارج السجن تارة أخرى، وكان صديقه الرئيس هو مفتش شرطة سيئ السيرة فائل الرأي قبيح السمعة يُدعى بيير بوني. كان بوني ذائع الصيت في بادئ الأمر، لكنه طُرِد من الخدمة في منتصف الثلاثينيَّات بسبب الفساد. إذ سرعان ما علت ثروة لافون حين احتلَّ الألمان فرنسا، حيث ساعد استهداف الألمان لليهود أن يمسي لافون وبوني ثريين سراعاً عن طريق انتهاب ممتلكات اليهود في باريس، وبيعها بأسعار باهظة في السوق السوداء. وما هي إلا لحظات حتى كوَّنا عصابة أخذت تُسمَّى “الشركة”، وباتت تعمل بكل حريَّة لأنَّها كانت تعطي النازيين جزءاً من أموالها، وتغمرهم بعظائم الهبات، فضلاً عن المعلومات الاستخباراتيَّة التي كانت تتحصَّل عليها عن عناصر المقاومة للإطاحة بها.
وبعدئذٍ ارتقى لافون وبوني بواسطة الرعاية الألمانيَّة، حيث كان الألمان لهما أكبر ظهير وأقوى دعامة، حتى تحوَّلا من محتالين فاشلين إلى شخصين ناجحين، ومن ثمَّ أمسيا أحسن حالاً، وأنعمهم بالاً لما وجدا من الحظوة عند الألمان، وبعدئذٍ أخذا يقومان ببضع أعمال قذرة لرجال “الأس أس” (الشرطة النازيَّة) و”الجستابو” (الاستخبارات النازيَّة). إذ ارتأى المحتلون الألمان أنَّه من الأفضل لهم أن لا يُروا وهم يقومون بمثل هذه الأفاعيل الإجراميَّة، وبخاصة قتل النَّاس الأبرياء الذين لا حول ولا قوَّة لهم، وتتبُّع عناصر المقاومة، حيث يمسي الأمر سهلاً حين يكون المتابع من سكان البلد الأصلاء. وبما أنَّ العلاقات بين المحتلين الألمان وبين لافون-بوني كانت تسوء بين الحين والآخر، وبخاصة حين تتم سرقة مقتنيات من أحدٍ كان ينبغي أن لا تتم سرقته، إلا أنَّ روابطهما ظلَّت قائمة حتى حزم أسيادهما الألمان أمتعتهم وهربوا من باريس في آب (أغسطس) 1944م.
ففيما كانوا يؤدُّون أعمال النازين القذرة كان هؤلاء المجرمون يتَّخذون أنماطاً مختلفة من السلوك. فعلى سبيل المثال كانوا يخلون سبيل النَّاس إن هم دفعوا شيئاً من المال. وفي حال واحدة تركوا شخصاً على قيد الحياة حينما وجدوه رجلاً طيِّباً بعد أن كانوا قد ذهبوا إليه في سبيل تصفيته. وكان هؤلاء المجرمون قد مُنحوا بطاقات هُويَّة من “الجستابو” ليبرزوها فقط لرجال الشرطة الفرنسيين حتى يغضوا الطرف عن أعمالهم. هذا فقد بلغ نفوذ لافون مبلغاً قصيَّاً، حيث كان باستطاعته إخراج أي محكوم من السجن، مما يعني أنَّ عالم المجرمين كان تحت تصرُّفه حتى نهاية العام 1940م. وفي العام 1943م كان لافون أكثر الفرنسيين نفوذاً في باريس، حيث كان باستطاعته مقابلة الألمان العظماء من ذوي النفوذ أكثر من رئيس الوزراء الفرنسي الدمية بيير لافال الذي نصَّبه رجال الاحتلال الألمان. إذ طلب النازيُّون من لافون أن يجنِّد عصبة من مجرمي شمال إفريقيا ليذهبوا إلى الضواحي حول بلديَّة تول لاصطياد عناصر المقاومة. غير أنَّ كل ما فعله هؤلاء المجرمون هو السرقة والاغتصاب وقتل المحليين الأبرياء.
ومع ذلك كانت شبكة لافون الإجراميَّة تشمل كل الأصناف من البشر، فهناك – على سبيل المثال – جوزيف جوينوفشي، وهو الذي كان تاجراً يتاجر بالحديد الخردة. ونسبة لامتلاكه كميَّات ضخمة من المال، والخدمات الجليلة التي أسداها لرجال الاحتلال، قرَّر الألمان أنَّه ليس يهوديَّاً، وذلك برغم من يهوديَّته الصارخة. ورجل آخر هو أليكسندر فيلابلانا، وهو صاحب القدمين السوداوتين (Pied-noir)، وهو تعبير أُطلِق في خمسينيَّات القرن العشرين، وكان يُقصد به الفرنسيين من ذوي الأصول الشمال-إفريقيَّة وتحديداً الجزائر والمغرب سواءً كانوا يهوداً أم مسيحيين، أو بعبارة أخرى هو تسمية أمست تُطلق على المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا، أو وُلدوا في الجزائر إبَّان الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830-1962م)، وفشلت الدولة العثمانيَّة في استردادها. مهما يكن من شيء، فقد غادر أليكسندر الجزائر وكان عمره آنذاك 16 عاماً، حيث انتهى به المقام في أن يكون كابتن الفريق القومي الفرنسي لكرة القدم في مباريات كأس العالم الأوَّل العام 1930م. ومن ثمَّ استحوذ على ثروة ضخمة حين أمست كرة القدم الفرنسيَّة مهنة العام 1932م. وبما أنَّه كان قد اشترى فريقاً كرويَّاً، إلا أنَّه أخذ يرشي منافسيه ريثما ينهزموا، وإزاء ذلك طُرِد من المنافسة. وحين دخلت فرنسا في الحرب العالميَّة الثانية ضد ألمانيا كان أليكسندر سجيناً يواجه فترة حبس أخرى بسبب استلام بضائع مسروقة. ومن هنا ندرك أنَّه أمسى الشخص الطبيعي المناسب في عصابة لافون-بوني مع شخص آخر مريب مثل بييرو لا فاو (أو بيتر المجنون)، وحتى الرجل الأكثر تخيُّلاً “تشارلي المحموم”. ومن هنا ندرك أيضاً أنَّ أليكسندراً ارتخت أذناه، ورمشت عيناه، وسال لعابه لهذا العرض الإجرامي.
وللحكاية بقيَّة،،،