الانقلاب في صناعة الإعلام
كتب: د. ياسر عبد العزيز
.
لم تتوقف صناعة الإعلام عن التطور والتغير منذ اكتملت مقوماتها في القرن الفائت، لكنّ القفزات الواسعة التي حققتها تلك الصناعة في السنوات الأخيرة تُنبئ بتحولات جذرية ستؤسس لأوضاع جديدة وتقوّض مفاهيم راسخة.
نحن نعرف أن كل وسيلة إعلامية يمكن تقييمها عبر ثلاثة عناصر رئيسية، هي: مكانة «الاسم التجاري» الذي تحمله الوسيلة (Brand)، و«دائرة الصناعة» التي تعتمد عليها في توصيل رسائلها إلى جمهورها (Service)، ثم «المحتوى» (Content) الذي تبثه عبر تلك الدائرة.
من هنا يصبح بإمكاننا رصد مقدّرات كل وسيلة، ومن ثم كل منظومة إعلامية. وعلى سبيل المثال، فإن شبكة مثل «سي إن إن» تتمتع باسم تجاري عالمي مرموق، يُمكّنها من حصد قدر وافٍ من النفاذ والثقة. وهي لتصل إلى تلك المكانة استخدمت دائرة صناعة على أعلى مستوى، لتأمين عمليات الإنتاج والتوزيع بشكل يفوق معظم المنافسين، ثم هي تُظهر قدراً مناسباً من الحرص على أن يكون المحتوى الذي تبثه جاذباً ومؤثراً.
إلا أن القدرة على تأمين الاستدامة والحفاظ على تلك المكانة المميزة لشبكة إعلامية ذات نطاق خدمة دولي كـ«سي إن إن» تظل مرهونة بعنصرين أساسين؛ أولهما يتمثل في ضمان نطاق تعرض (توزيع) واسع ومتجدد، وثانيهما يتصل بالقدرة على توفير الموارد المناسبة في كل الأحيان لإدامة الخدمة والتقدم في مضمار المنافسة.
تأتي مشكلة الموارد على رأس المشكلات التي تواجه صناعة الإعلام في مختلف دول العالم؛ ومهما كانت الدولة التي تنشط فيها تلك الصناعة ثرية، فإن بعض الوسائل تعجز لأسباب متباينة عن توفير الموارد الكافية لضمان الاستدامة فضلاً عن التطوير والتوسع.
وتتوزع الموارد التي تحيا عليها صناعة الإعلام على ثلاثة مصادر: أولها هو عائد التوزيع والاشتراكات لقاء الحصول على المحتوى، وثانيها هو عائد الإعلان، أما ثالثها فهو المال السياسي الذي تضخّه جهة ما في وسيلة إعلام ما بغرض ضمان التزامها بسياسة تحريرية محدّدة.
ويُعد عائد التوزيع والاشتراكات والإعلانات عائداً صحياً في مجال صناعة الإعلام؛ إذ يرتبط هذا العائد بكفاءة الوسيلة الإعلامية وقدراتها على التأثير والإدارة الرشيدة لمقوماتها، كما أن تأثيره في توجهاتها المهنية يُعد مفهوماً ومن الممكن تقويمه في كثير من الأحيان. أما المال السياسي، فهو وإن كان يتدفق بكثافة أحياناً، لكنه يُخلّف مشكلات، ولا يقوم كمصدر اعتماد مؤتمن؛ إذ يمكن انقطاعه بلا مقدمات، كما أن تأثيره في التوجهات التحريرية لا يمكن تقويمه أو مقاومته في عديد الأحيان.
لذلك، فإن وسيلة إعلامية قادرة على جلب عوائد الإعلانات والتوزيع بسبب مقوماتها الذاتية، ستكون في وضع أفضل لجهة الحفاظ على الاستدامة والقدرة على التطور، في مقابل تلك الوسائل التي تعتمد بشكل رئيسي على المال السياسي في توفير نفقات تشغيلها.
أما الإشكال الذي تواجهه صناعة الإعلام التقليدية فيكمن في تضعضع مفهوم العلامة التجارية وغياب اليقين في استمرار عوائدها، في ظل ظهور المؤثر الفرد وتمتعه بدائرة التوزيع والتأثير عبر الوسائط الرقمية. كما أن انصراف عائدات الإعلان والتوزيع عن الإعلام التقليدي بشكل مطرد وتوجّهها بوتيرة تصاعدية إلى مجال الإعلام الرقمي قد يُفقد كثيراً من الوسائل ذات المكانة القدرة على الاستدامة والتطور، وسيعزّز دور المال السياسي في رفدها بأسباب الحياة.
قبل أيام، صدر تقرير مهم عن مؤسسة «كانتار» (Kantar) للبحوث والاستشارات، يفيد بأن الوسائط الرقمية ستشهد زيادات قياسية في المداخيل الإعلانية خلال عام 2022 مقابل تراجع ملحوظ أو زيادات طفيفة في معدلات الإنفاق الإعلاني عبر الوسائط التقليدية. ويقول التقرير، الذي استند إلى نتائج دراسة استقصائية استطلعت آراء أكثر من 900 من كبار المسوّقين العالميين، إن إعلانات الفيديو عبر «الإنترنت» ستزيد بنسبة 76%، كما يُتوقّع أن ينمو الإنفاق الإعلاني عبر المؤثّرين بنسبة 71% لصالح العلامات التجارية العالمية.
يشير ذلك إلى تحوّل خطير في الصيغة التي قامت عليها صناعة الإعلام لقرون. إذ ستذهب المخصّصات الإعلانية باطِّراد إلى القطاع الرقمي، وسيحصل المؤثرون من الأفراد على حصة كبيرة منها، بينما ستُترك للقطاع التقليدي حصص أقل تتقلص باطراد، ما سيزيد تعرّضه لتلقي الضغوط التي تخلقها أنماط التمويل غير المستدامة.
يُعد ذلك نقضاً للأسس التي أرستها الصناعة ونظّرت لها الأكاديمية لعقود؛ إذ يُغرى بـ«ماركة» الوسيط التقليدي، وتُختزل دائرة الصناعة في هاتف محمول أو جهاز كومبيوتر، وتتدفق العوائد على المؤثر الفرد، ولا يخضع معظم ما يقدمه من محتوى لأي قيد سوى ما يرتضيه لذاته.