التّفكير بعقليّة نخّاس الرّقيق! نعي الصّادق المهدي لمنصور خالد
بقلم / محمد جلال هاشم
غيّب الموتُ في صبيحة يوم 23 أبريل 2020م أحد أبرز وأعظم من أنجبتهم الأمّة السّودانيّة منذ فجر وظُهر أمجادها عبر التّاريخ وإلى لحظتنا الرّاهنة حيث يخيّم الظّلامُ على وجه أمّتنا الزّاهر النّاضر، ألا وهو الكاتب والباحث والمحقّق ثمّ المفكّر، فالدّبوماسي، فالسّياسي، فالثّوري، فرجلُ الأدب، فالآفروعمومي التّحريري النّحريري، فالرّجلُ الوطنيُّ، الإقليمي، العولمي، العالميُّ، منصور خالد، ولا نزيدُ، إذ لا مزيدَ لأحدٍ بعد هذا. وما موتُ منصور، ونحن في حالتنا الحالكة هذي، إلاّ كما لو غاض نهرُ النّيل، أو رحل عنّا، أو كما لو اندكّت جبالُ التّاكا وجبالُ مرّة ثمّ جبالُ تركاكا، وانساخت الهضبةُ الإثيوبيّةُ وكذلك هضبة البحر الأحمر عن قوائمها فخارت ثمّ انهارت، وتواصلت الزّعازع وانفلتت الأوتادُ من مغارزها حتّى انشالت رمالُ الصّحراء في هبوبٍ صرصرٍ لا تُبقي ولا تذر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. إنّ الموتَ حقّ وقد سبقت به كلمةُ الله سبحانه وتعالى في خلقه منذ أن خلقهم، بما في ذلك الأنبياءُ والرّسل وخيار الرّجال والنّساء، ولكنّما في الليلةِ الليلاءِ والحَلْكةِ الظّلماء يُفتقدُ البدرُ كما لو لم يطلع على الآفاق أبدا! فإنّا والله لفراقك ولموتك يا أيّها الخالدُ المنصور لمحزونون. بل نحن مرزوئون في سودان ما قبل السّودان الجديد، ذلك حتّى تنقشعَ عنّا غاشيةُ الإنقاذ بوجوهها القميئة الثّلاث (الأولى المهزومة المندحرة، والثّانية المتخندقة والمتآمرة، والثّالثة الرّاهنة الواهنة)؛ وكذلك نحن مرزوئون حتّى تزولَ عنّا جائحةُ الطّائفيّة التي تمثّل آخر مراحل مؤسّسة العبوديّة والرّقّ؛ فكلاهما (الإنقاذ والطّائفيّة التي سلخت عمرك الحافل المديد وأنت تناهضهما) تهون دونهما جائحة الكرونا، ما مضى منها وما هو حالٌّ منها بنا الآن وما سيحلُّ منها بنا في مقبل أيّامنا نحن شعوب العالم الثّالث التي تريد قوى الإمبرياليّة العالميّة أن تجعلنا حقلاً لتجاربها. فاذهب يا أيّها الخالدُ المنصور إلى ربّك راضياً مرضيّاً من ربّك ونفسك وشعبك، وفي مثلما قدّمت لوطنك وللإنسانيّة، ثمّ لأُخراك، فليتنافس المتنافسون!
***
ونحن في غمرة فُجاءة غياب القمر في ليلته الرابعة عشر، وبينما تنثالُ كتابات المفجوعين بغياب منصور خالد، مبلّلةً بالدّمع، مشيّعين، مؤبّنين، للفارس إذ ترّجل عن فرسه الشّهباء، إذا بنعيٍ يأتي من قبل الصّادق المهدي الذي تمنّى له منصور خالد قبل أن يرتحل عن هذه الفانيةِ أنْ لو كان فعلاً صادقاً وكان فعلاً مهديّاً. جاء نعي الصّادق المهدي كما لو كان مكتوباً بصديد الكراهيّة والبغض، لا بحبر الأقلام النّقيّة السّمراء، ومغلّفاً بكريم الآيات من الكتاب الحكيم، وببعضٍ من ثياب عاداتنا الكريمة في مثل هذه المواقف، حيث جاء نعيُه وهو يتزيّاها كما تزيّى الثّعلبُ من يوماً ثمّ برز في ثياب الواعظينا. وما كان هذا لَيُدْهِشُنا في شيءٍ إذ درج الرّجلُ على أن يعتلي أيّ منبر ولو كان منبر كيل المديح للأبالسة من قبيل جعفر نميري وعمر البشير وكلّ من جرى مجراهما في التّنكيل بشعبهم. ولكن الرّجل في هذه المرّة تفوّق على نفسه، كاشفاً عن شيء ما كان له أن يمرّ بنا دون أن نقف عنده.
***
في أخريات عام 2007م، اتّجهتُ إلى جوبا بمعيّة منصور خالد، ذلك بدعوة كريمة من كلا مكتب الرّئاسة بقيادة لوكا بيونق ومؤسّسة كوش بقيادة الرّاحل دينق أجاك (عليه رحمةُ الله)، ذلك لللانضمام للجنة مختصّة بقراءة جملة قوانين خاصّة بجنوب السّودان، قبل إدراجها للجمعيّة التّشريعيّة بجوبا بغية إجازتها. وقد تزامنت تلك الأيّام مع صدور أوّل مقالات عبدالله علي إبراهيم عن منصور خالد وهي تحمل شناءة وشناعة عنوانها الذي ارتدّ كالقوس على صاحبه (منصور القوّال) من قبل عدد كبير طعن في مصداقيّة المصادر التي اعتمد عليها كاتب المقال. ونحن في لحظة صفاء، بعد وجبة الغداء، سألتُ منصور خالد عمّا بينه وبين عبدالله علي إبراهيم، فانبرى قائلاً بحماسته المعهودة:
“He is sick here (مشيراً بسبّابته إلى جانبي رأسه)! هذا الرّجل يفكّر يعقليّة نخّاس رقيق! إنّه يعتقد في قرارة نفسه أنّ الجنوبيّين، مطلق جنوبيّين، لا يمكن أن يجترحوا مشروعاً ضخماً مثل مشروع السّودان الجديد، هذا ما لم يكن هناك شخص شمالي يقف خلفهم ليدلّهم أوّلاً لهذا المشروع، ثم ليوجّههم ويرشدهم في مسيرتهم. فهذا الشّخص يفكّر بعقليّة نخّاس رقيق لا يرى في الجنوبيّين أيّ إنسانيّة رفيعة بخلاف أنّهم مجرّد عبيد منحطّين في قدراتهم العقليّة وبالتّالي في استحقاقاتهم الإنسانيّة. ثمّ تلفّت حوله فوقعت عينُه عليّ أنا منصور خالد واستقرّ في عقله المريض أنّني أنا هو ذلك الشّخص الشّمالي الذي يقف خلف كلّ هذا المشروع. وعليه، ينبغي توجيه الضّربة إلى رأس الحيّة وليس إلى ذنبها، أي إليّ أنا وليس إلى جون قرنق أو سلفا كيير أو أيّ شخص آخر من قيادات الحركة الشّعبيّة. ولهذا هو يهاجمني”. فكما قلت لك: He is sick here!
***
كان هذا ما قاله لي منصور خالد بمدينة جوبا، حاضرة جنوب السّودان، في منتصف ظهيرة ذلك اليوم من شهر نوفمبر من عام 2007م بخصوص عبدالله علي إبراهيم وموقف الأخير منه. وقد وقعت عندي كلماتُه تلك موقع الفتح المبين بالنّسبة لي فيما يتعلّق بالمدخل الصّحيح لتحليل سلوك العديد من مثقّفي السّودان الذين ينتمون في أعماقهم إلى الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة الغاشمة في تسخيرها لكلا الثّقافتين العربية والإسلاميّة السّمحتين لأغراض دنيويّة منحطّة ولا علاقة لها بهاتين الثّقافتين؛ فهؤلاء تعْمُر قلوبُهم بكلّ موبقات العنصريّة وكراهيّة البعد الأفريقي المركوز عميقاً في جُوّانيّاتهم، ثمّ لا يستطيعون مواجهته ولذلك يقومون بإسقاطه على من هم أكثر أفرقةً وسواداً منهم، فيصمونهم بمما يعانون هم منه. ولهذا تراهم يكرهون الأفارقة السّود في بلد اسمه “السّودان”، أي بلد “السُّود”، هذا بينما يتماهون في عروبةٍ مُدّعاةٍ، مستعدّين لتحمّل كلّ عنجهيّة وعنصريّة العرب العاربة إزاءهم.
***
في كلّ هذا كنت أنظر، ولا أزال أنظر، مثل كثيرين غيري، للصّادق المهدي على أنّه يمثّل أحد القيادات الرّمزيّة والرّوحيّة للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة في السّودان، ذلك بدليل مواقفه السّياسيّة ذات التّحميلات الطّائفيّة في الأساس التي تقوم على أنّ هناك سادة لا ينبغي مخاطبتهم دون التّصريح بلقب “السّادة”، ما يعني بالضّرور أنّ هناك “عبيد” لا ينبغي أن ينزعجوا أو يرفضوا أن يوصفوا بالعبيد. وهذه هي أيديولوجيا السّلطة في السّودان منذ تأسيس دولة الفونج، كونها تقوم على التّشريف Prestigmatization (من Prestige) مقابل التّعيير Stigmatization.
***
كما ظللت، كغيري، ألحظ اتّساع هوّة التّناقضات التي يخوضها بوصفه رجلاً يؤمن بأنّه (كما قال ذلك منصور خالد بنباهته المعروفة) مهدي من الله، وبالتّالي ينبغي التّسليم له بمهديّته هذه وطاعته في المنشط والمكره؛ ثمّ، من جانب آخر، بحكم تعويله على أن يبرز في الشّأن العام بوصفه مثقّفاً ومفكّراً حداثويّاً تخرّج في جامعة أوكسفورد، وكذلك بوصفه رجل دولة حديثة. هاتان خاصّتان متناقضتان كفيلتان بأن ينقصم منها ظهرُ الجبلُ إذا اجتمعتا فوق ظهره الوهيط. وما رُزئت أيّ جهة، جرّاء تناقضات الرّجل، كما رُزئ حزبُ الأمّة العتيق بأُخرةٍ، ذلك عندما جمع الرّجلُ القداسةَ (إمامة الأنصار) مع الرّئاسةَ (رئاسة حزب الأمّة)، وهما جِمّيعتان متناقضتان فعلاً، لكن الصّادق المهدي زاد عليهما درجة التّناقض، ذلك عندما استنكر على عمّه الهادي المهدي، في منتصف ستّينات القرن العشرين، أن يجمع بينهما، ثمّ ها هو الآن وقد جمع بينهما وكأنّه لم يفعل شيئا.
***
جاء ما يلي، ممّا يهمُّنا، في نعي الصّادق المهدي لمنصور خالد الصّادر بتاريخ 24 أبريل 2020م:
“ومع تقديري لقدراته لم يقم بيننا في حياته ود لأنني عتبت عليه بشدة دوره في دعم نظام مايو الاستبدادي، ودوره في الزج بقيادة الحركة الشعبية نحو تطلعات وهمية، بينما كان يمكن أن ترفد الصحوة الوطنية السودانية برافد بناء”.
ولنا تعليقان على ما قاله أعلاه!
***
أوّلُ التّعليقين هو أخفّهما، بما يشتمل من عدم صدقٍ جميعُنا شهودُه ولا نزال أحياء. فالصّادق المهدي يقول: “… لم يقم بيننا في حياته ود لأنني عتبت عليه بشدة دوره في دعم نظام مايو الاستبدادي …”. فكلُّنا نعلم أنّ استبداد نظام مايو استمرّ لمدّة 16 عاماً حسوما. وجميعُنا يعلم أنّ منصور خالد بدأ خطّ مفارقته مع ذلك النّظام بحلول عام 1977م، أي مع بدء تصالح الصّادق المهدي مع نفس نظام مايو الاستبدادي. كما جميعُنا يعلم أنّ نظام مايو قد بطش بقطاعات مقدّرة من الشّعب السّوداني، مثل الأنصار والشّيوعيّين، إلاّ أنّ أكثر فترات بطش نظام مايو بالشّعب السّودان بدأت بعد عام 1977م واتّجاه جعفر نميري نحو الأسلمة، وصولاً إلى نهاية النّظام في عام 1985م عبر ثورة أبيل الشّعبيّة الظّافرة. ويعني هذا أنّ منصور خالد شرع في مغادرة أسوار نظام مايو متسللاً في اللحظة التي كان الصّادق المهدي يدخل مايو من أوسع أبوابها، أي من باب الانضمام للنّظام المايوي وأداء قسم الولاء للاتّحاد الاشتراكي ثمّ البيعة، أداءً أو سكوتاً عنها، ذلك عندما أعلن جعفر نميري نفسها إماماً للمسلمين.
واليوم، يشهد التّاريخ بأنّه لا يوجد أيّ شخص ـــ أكرّر: أيّ شخص ــــ من قيادات أفنديّة مايو، تمكّن من البقاء to survive إلى ما بعد مايو، محتفظاً بموقعه كسياسي وكمفكر … إلخ ما بدأنا به أعلاه، بخلاف منصور خالد. وما ذلك إلاّ لأنّ منصور خالد لم يكن أبداً أفنديّاً، مثل عبدالله علي إبراهيم (وهذا لدينا كتاب عن أفنديّته هذه سوف يصدر قريباً بإذن الله)، كما لم يكن طائفيّاً مثل الصّادق المهدي (وهذا كفانا شرّ الكتابة عنه إلاّ لِماماً صديقُنا الصّدوق عمر القرّاي)، ولو أراد ذلك، لكانت له الحظوةُ والدُّولةُ، سيسةً ودولةً، ولم لا وهو من أرومة رجال دينٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما عملوا لدنيا وما خافوا غير ربِّهم، فأنعم بهم وبارك.
وعليه، يشتمل كلام الصّادق أعلاه على قدر كبير من عدم الصّحّة، فليته كان صادقاً فيما يقول.
***
النّقطة الثّانية التي تهمُّنا بقدر أكبر هي قول الصّادق المهدي: “… لم يقم بيننا في حياته ود لأنني عتبت عليه بشدة … دوره في الزج بقيادة الحركة الشعبية نحو تطلعات وهمية”. أوّلاً، نحن لا نعلم على وجه التّحقيق ما هي هذه التّطلّعات الوهميّة التي تمكّن منصور خالد من أن يزجّ قيادة الحركة الشّعبيّة فيها؛ كما لا نعلم على وجه التّحديد أيّ القيادات هذه، في فترة قيادة الشّهيد جون قرنق للحركة الشّعبيّة (1983م ــــ 2005م)، أم في فترة قيادة الرئيس سلفا كيير ميارديت للحركة الشّعبيّة (2005م ــــ 2011م)، أم في فترة قيادة مالك عقار وعبد العزيز الحلو وياسر عرمان للحركة الشّعبيّة (2011م ــــ 2017م)؟ أم يا تُراه يقصد فترة قيادة سلفا كيير ميارديت للحركة الشّعبيّة بدولة جنوب السّودان بعد أن أصبح الجنوب دولةً مستقلّةً (2011م ــــ وإلى الآن)؟ دون أن نعلم أيّ فترة من الفترات القياديّة للحركة الشّعبيّة يعنيها الصّادق المهدي، لا يبقى أمانا غير أن نُعمل عقلَنا وقدراتنا التّحليليّة لنعرف بالضّبط ما يعنيه الصّادق المهدي بكلامه هذا. ولكنّا لا نغادر دون أن نُشير إلى أنّ الكتابة بهذا الأسلوب ليس فقط أمراً مقصوداً، بل هذا هو دأب الصّادق المهدي (وكذلك كان حسن التّرابي عليه رحمةُ الله)، ذلك باستخدام اللغة كأداة لتغبيش الوعي، لا لتصحيحه وتكريسه.
ولكنّأ، إزاء هذا الأسلوب اللولبي (باستخدام ألفاظ منصور خالد)، لا نملك إلاّ أن نفترض أنّه يعني بذلك فترة قيادة جون قرنق دي مبيور للحركة الشّعبيّة. ما يدفعنا إلى هذا ما يعرفه الجميع من أنّ منصور خالد دأب على أن يبتعد عن أيّ موقع قيادي بالحركة الشّعبيّة في مرحلة ما بعد جون قرنق، أي منذ 2005م وإلى ساعة وفاته.
***
ثانياً (داخل النّقطة الثّانية)، لا يحدّد الصّادق المهدي ما هي تلك التّطلّعات الوهميّة التي قام منصور خالد بزجّ قيادات الحركة الشّعبيّة فيها؟ هل هي الحلم ببناء سودان جديد يقوم على العَلمانيّة وتفكيك الدّولة الدّينيّة، ثمّ الدّيموقراطيّة؟ هذ هز الموقف الأساسي الذي عُرفت به فترة قيادة جون قرنق للحركة الشّعبيّة، وهو عماد مشروع السّودان الجديد. إذن، فمنصور خالد هو المسئول، فكريّاً وتنظيميّاً، عن تبنّي الحركة الشّعبيّة الشّعبيّة لمشروع السّودان الجديد، وليس لقادة الحركة الشّعبيّة (الجنوبيّين والجباليّين بجنوب كردفان والنّيل الأزرق) أيّ فضل في تطوير ذلك المشروع بخلاف التّسليم والاتّباع لسيّدهم الشّمالي. فالعبيد لا يُفكّرون!
***
فإذا كان هذا كهذا، فعندها يكون الصّادق المهدي قد وقع في الحمى! وما الحمى هنا إلاّ وقوعُه تحت طائلة التّفكير بعقليّة نخّاسي الرّقيق، مثلُه في ذلك كمثل عبدالله علي إبراهيم وغيرهما كُثْرٌ، كُثْر!
ولنفي هذا، يبقى على الصّادق المهدي أن يُميط اللثامَ عمّا يعنيه، أوّلاً، بقيادات الحركة الشّعبيّة، ثمّ، ثانياً، ما يعنيه بالتّطلّعات الوهميّة، وثالثاً ما يعنيه بمسئوليّة منصور خالد في حمل الحركة الشّعبيّة لتلك التّطلّعات الوهميّة. إلى حين ذلك، سوف نحمل الرّجلَ بموجب ما نفهمُه من أسلوبه اللولبي غير الواضح دون أن نمنحه أيّ قدرٍ من حسن الظّنِّ، كوننا قد منحناه له عندما قال في حملته الانتخابيّة عام 1986م إنّ قوانين سبتمبر لا تساوي المداد الذي كُتبت به، ثمّ حكمنا بها لثلاث سنواتٍ عجاف كان لها الفضل الأكبر في مساعدة حسن التّرابي وإخوان الشّياطين في تدبير انقلابهم الذي علم به ثمّ قرّر أن يصمت.
***
ثمّ لا نغادر مقالنا هذا دون أن نُشير إشارةً عابرة إلى مقولة الصّادق المهدي في خاتمة نعيه لمنصورنا الخالد، الا وهو قولُه: “… بينما كان يمكن أن ترفد الصحوة الوطنية السودانية برافد بناء”. هنا أيضاً لا يحدّد لنا الصّادق ما يعنيه بمقولة “الصّحوة الوطنيّة”، ما يجعلنا ننظر إلى هذا التّعبير المبهم على أنّه من ألاعيب الكلام التي يعتمد عليها الصّادق في إخفاء مقصود كلامه عن نُقّاده، بينم يستلهم أتباعُه المعنى المقصود كفاحاً [كذا]! فالصّادق المهدي اشْتُهر ببرنامج الصّحوة الإسلاميّة، وهو برنامج مطروح على المستوى السّياسي الوطني السّوداني، مع قابليّته (بحسب إيمان االصّادق المهدي) للاندياح خارج حدود الوطن. فهل يعني بذلك أنّ المجد الحقيقي الذي فشل منصور خالد في أن يناله كان يكمن في تسخيره لقدراته الكبيرة لتحقيق مشروع الصّحوة الذي بشّر به الصّادق المهدي؟ فهو هنا كما لو كان لا ينعي لنا منصورنا بقدر ما ينعي على منصور نفسِه خسرانه لمسعاه وبوار مشروعه، كما لو أنّ منصور خالد قد مات حسيراً كظيما. إذا كان هذا ما يعنيه الصّادق المهدي، فهذا عندي من قبيل إتباع الإساءة بالأذى. ولكن كلّ هذا عندي، إزاء الجبل الأشم الذي يمثّله عندنا منصور خالد، لَكَمِثلِما لو سَحَلَ الطّائرٌ وأَذْرَقَ وهو فوق طيلسان قمّة الجبل الدّهماء.
***
وبعد (بعيداً عن الصّادق المهدي وعبدالله علي إبراهيم وغيرهما من صُرحاء الأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة)، تُرى كم عدد الذين يفكّرون بعقليّة نخّاسي الرّقيق بينما هم في الظّاهر يرفعون عالياً شعارات السّودان الجديد؟ هؤلاء هم أكبر خطر يهدّد مشروع السّودان الجديد! لماذا؟ لأنّهم في الحقيقة يمثّلون الخلايا النّائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة الغاشمة، وما اندساسُهم وسْطَنا إلاّ لتفريقنا من الدّاخل في لحظة فرز “الكيمان” ((وعلم الله ما نحن الآن إلاّ في لحظة فرز “الكيمان”). هؤلاء هم الذين ينبغي أن نخشاهم أكثر من الصُّرحاء هذه الأيديولوجيا الغاشمة! وفي الحقِّ، ما كتاباتُنا هذه إلاّ بغرض كشف الخلايا النّائمة للأيديولوجيا الإسلاموعروبيّة التي دأبت مؤخّراً على أن تلبس لنا لبوسَ النّاصحين، الحريصين علينا، بينما هم يعملون على إسكات صوتنا، ولكن هيهات! فصوتُ الحقّ لا يسكت بموت الصّائح به، بل يرتفع إلى عنان السّماء والتّاريخ بموت الصّائحين به، وهذا ما يحكيه لنا التّاريخ ويؤكّده كلّ مرة. إنّ موتَ القائدِ لا يعني موتَ القضيّة!
MJH
26 أبريل 2020م
الخرطوم