الثورة تستمر ولا تبدأ من جديد

0 62

كتب: البراق النذير الوراق

.

بدأها هذا الشعب هنالك، حيث القتل على الكيزان هيِّن والتعذيب منهم مُجاز، حيث كان علي فضل ورفاقه في بيوت الأشباح والمعتقلات بلا وجيع، حين تفرقت قيادات الحركة السياسية والنقابية والمهنية بين بيوت الأشباح وأحكمت عليهم ترابيس السجون. بدأها الشعب لما كان الأمير نقد الله يزأر وهو معصوب العينين وأطرافه مكبلة بالحديد وهم يتحسسون مواضع صفعاته على وجوههم التي عليها قترة، صفعات باللسان وبغيره، لما هزمهم سيد أحمد الحسين بثباته ودحرهم يوسف حسين ببسالته، عندما دبجوا لعلي حسنين تهمة التدبير لانقلاب مزعوم فواجههم بجريمة إنقلابهم المشؤوم، ولما كان فاروق أبو عيسى وأمين مكي يهتفان داخل محكمة الجور السياسي (عاش نضال الشعب السوداني).

خاضها الشعب كفاحاً لما جلجلت مواكب الطلاب في الطرقات حتف أنف الرصاص وكتائب السيخ ورغم الدماء التي لطخت القمصان -النص كم- والطرحات الملونة المغسولة بماء الداخليات، لتزيل عرق النهارات الحزينة وغبار التشييع للرفيقات والرفاق، الذين غدروهم ترصداً من يفترض أنهم زملاؤهم، فحملتهم النعوش لا كنبة الدرس.

بدأها الشعب هنالك حين كان يوسف كوة مكي يدحرج صخور الجبال بعقله ويحرك جيوش الوعي الثوري بتدبيره لفتح طريق الحرية، بدأها هذا الشعب عندما كانت أرواح الشهداء في قرى ومناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق تصعد وسط الدخان الذي خلفته البراميل المتفجرة وقذائف الهاون والقنابل والألغام المدفونة بالجوار أو في قلب قلب جوار الجوار.

بدأها هذا الشعب والرصاص يزهق النفوس البريئة في العيلفون وبورتسودان وكجبار وأمدوم والجريف ومدني وعطبرة والأبيض وسنار وكسلا ومروي وكريمة والخرطوم وامدرمان ونيالا وربوع السودان كافة في الشمال والشرق والغرب والوسط والجنوب الحبيب، ولما لم تكن سرادق العزاء تغيب عن حي أو قرية أو مدينة عند نهاية كل تظاهرات أو مواكب، في ٩٥، ٩٦، ٩٨، ٩٩، ٢٠٠١،٢٠٠٢ ، ٢٠٠٣ ، ٢٠٠٧، ٢٠٠٨ ، ٢٠٠٩ ،٢٠١٢ ، ٢٠١٣ ،٢٠١٨ ، ٢٠١٩ ، ٢٠٢٠،

بدأها هذا الشعب لما كان العنف ممنهجاً والقتل قتل الدولة والضرب ضرب الدولة والسلاح سلاح حكومي مصرح له بالانطلاق صوب الرؤوس والصدور في كل موكب، وحامله ومصوب فوهته محمي بالحصانات ومسنود بكلكل التنظيم الحاكم غلظة وتجبرا.

بدأها الناس عندما كان الموت متناثراً بين الصحاري والضهاري والحدود، وكانت المطارات تخاف- بسبب عسف السلطة- من عزف سيمفونية الوداع للمناضلين الشرفاء الذين أرغموا على الاغتراب وعلى تكبد مواصلة الدرب، بأقدام معلقة بين اوتاد الأرض وعقول مطوية تحت بساط الثورة وأرواح ملفوفة بغماط التغيير.

بدأنها النساء لما هتفن في كل المواكب وكانت زغرودتهن صفارة الحكم، وسلميتهن التي هي بالفطرة، عنواناً للثورة. بدأنها برفضهن للظلم وجهرهن بكلمة لا في كل محفل لنعم خائبة، ابتدرنها ضد القوانين الجائرة ولما هزمت حملاتهن قرارات تحديد أماكن ونوع العمل؛ الثورة قادتها النساء اللائي نزلت على ظهورهن سياط التشفي والانتقام مرة من نظامي مؤدلج، ومرة من جلاد فضحت شهوته عيناه وهو يصول بسوط غليظ متبسماً وسط جوقة المتلذذين بالصراخ، ومرة من مدعي للجنون مطلق العقال لا العقل!

بدأها الشعب وانتظر بصبر فمرَّت السنوات عجافاً وزحفت الأيام على صدر الوطن، فكانت كل ساعة تحمل خبر غياب المناضلين لتكالب الأمراض التي خلفتها حمأة التعذيب وبرودة الزنازين وبيئة المعتقلات المصممة للقتل البطئ هي ساعة للزاد وزيادة؛ وكانت كل لحظة لموت من صاغوا مشاعر النضال شعراً ولحناً وكلمة ورأي، لحظة للمؤونة ومونة البناء، فهؤلاء هم من أقاموا مسارحاً في الخيال لكيفية تخلقها وانتصارها، من لم يكفروا إلا بردِّة الشعب، ومن أجل ذلك ما انكسرنا بل ازددنا في غيابهم إصراراً على اقتفاء آثارهم في السكة مدا.

دعاة الإنقلابات لا يعرفون معنى الثورة، يعرفون فقط كيف يثيرون الفتن، وكيف يدبرون للاستبداد ويصنعون المهالك ويديرون دفة الخراب نحو المزيد من الخراب، فالثورة لها ناسها يعرفونها وتعرفهم، بهتافهم تعرفهم، بعزيمتهم تعرفهم، ببسالتهم وعطائهم وإيثارهم وخوفهم على بعضهم تعرفهم، بصبرهم وعنادهم تعرفهم، وهم يعرفونها متصلة غير منقطعة، هم لا يعرفون ثورة موصولة بالكالندر، فالكالندر في عقيدتهم لا يصنع الثورات بل تصنعه هي وتحيك له وبه أجمل حُلل التاريخ.

الثورة تستمر ولا تبدأ من جديد، فبدايتها كانت ضد الكيزان الذين ينادون اليوم ببداية جديدة من أجل عودتهم عفصاً لأهدافها ومكتسباتها، ودوساً على قبور الشهداء الذين اغتالوهم هم ذاتهم بالأمس وبالوطء على جراح لم تندمل، وأما استمرارها فهو قرار من بدأوها أو اشتركوا فيها أو قادوها؛ قرار يصيغونه كيفما شاءوا ومتى ما أرادوا وأينما حلوا.. وكيداً لمن أبى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.