الثورة وإرهاصات النقلة البارادايمية

0 120
كتب: د. النور حمد
كلمة “بارادايم” paradigm كلمة مستحدثة، ولم أجد لها، فيما قرأت، ترجمةً منضبطةً في اللغة العربية. فأهل المغرب العربي يترجمونها “براديغم”، ويستخدمون نفس لفظها اللاتيني في كتاباتهم بالعربية، وذلك، ربما لكونهم تلقوها عن الفرنسية. أما في الإنجليزية، فتنطق “بارادايم”، وهكذا أكتبها، بحكم أنني تلقيت دراساتي فوق الجامعية باللغة الإنجليزية. تعني لفظة بارادايم، التصورات والمفاهيم والممارسات التي سادت في فترة بعينها. وأشهر من جر مفهوم “النقلة البارادايمية”، paradigm shift، إلى المجال الأكاديمي، الفيلسوف، وعالم الفيزياء الأمريكي، توماس كون. وقد كان المفهوم، أول ما بدأ، منحصرًا في مجال العلوم الطبيعية، حيث تسود مفاهيم علمية في فترة بعينها، لكن تصبح، بمرور الزمن، قاصرةً عن استيعاب التطورات المضطردة. فيتهيأ، تبعًا لذلك، الجو لنقلةٍ بارادايميةٍ، وهكذا يحدث الانتقال إلى بارادايم جديد. ثم، لا يلبث البارادايم الجديد، أن يضيق هو الآخر عن استيعاب المستجدات، فيفسح المجال لبارادايم آخر، أجد. لكن المفهوم، انتقل من مجال العلوم الطبيعية، وأخذ المفكرون والأكاديميون يطبقونه على النقلات في العلوم الإنسانية، وتفرعاتها المختلفة، في الفلسفة والدين والاقتصاد والاجتماع والتربية، وغيرها.
أحببت أن أمهد بهذه المقدمة المبتسرة أن أطبق المفهوم على الممارسة السياسية في سودان ما بعد الاستقلال. فكامل الممارسة السياسية السودانية، منذ الاستقلال وإلى اليوم، تمثل، في نظري، بارادايمًا واحدًا. ورغم أن هناك تباينات بين فصول هذا البارادايم الواحد، إلا أنها تباينات شكليةٌ، لا أكثر. ولا تزال عقابيل هذا البارادايم المحتضر، تتبعنا في هذه الفترة الانتقالية التي نمر بها. فكل بارادايم قديم لا يتوقف فجأة ليفسح المجال للبارادايم الذي يليه. فهناك منطقة يترادف فيها البرادايمان. في هذه المنطقة يضمحل البارادايم القديم ويقوى الجديد حتى يخلي البارادايم القديم الساحة تماما.
بدأ بروز احتشاد قوى البارادايم الجديد في العمل الشبابي في المنظمات الطوعية، كشارع الحوادث، ونفير، وصدقات، وغيرها، والتي شنت عليها حكومة الانقاذ حملةً شعواء. برز التشبيك القاعدي لتخلُّق البارادايم الجديد، في ذلك الطور، في انتفاضة سبتمبر 2013، التي قمعها النظام بصورة بالغة الوحشية. نفس هذه الوحشية تكررت، بصورة أبشع، في فض اعتصام القيادة، من قبل قوى البارادايم القديم التي أوجدت لنفسها مساحة في حراك التحول.
كان اعتصام القيادة بهتافاته وتضامن وتعاون وتآزر من قاموا به، وفي اشتراكيته وتكافليته، وجدارياته، وموسيقاه، ومجمل أجوائه، إرهاصًا للنقلة القادمة. تتضافر الآن قوى البارادايم القديم، حتى الذين زعموا أنهم جزء من الثورة، لتستبقي البارادايم القديم، في محله. هذه القوى، بمختلف مسمياتها، على جانبي اليمين واليسار، مارست السياسة والتكتيك السياسي، وفقًا لمفاهيم بالية عفا عليها الزمن. مفاهيم لا تعرف الشفافية ولا صراحة القصد، ولا الشغف بالصالح العام، بقدر ما تعرف الإخفاء، والتعمية والتآمر. وهي لن تستطيع الانتقال إلى الحقبة الجديدة المنتظرة، لأنها مثقلةٌ، بنيويًا، بإرث معتل. جيل الشباب هو المادة التي يتخلق منها الآن البارادايم الجديد المنتظر. لكن تقصير أجل المعاناة يعتمد على تعميق الوعي، وعلى خلق حاضنة سياسية جديدة للقوى الشبابية. فالمستقبل، سيكون حتمًا، لروح الثورة، ولنبل مقاصدها، في الحرية والسلم والتنمية وحكم القانون، مهما كثرت العراقيل، ولن يكون، بأي حال، لذلك البارادايم المعطوب الغارب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.