الخروج من الذات لملاقاة الآخر!
رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ:
الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد
.
كتب: د. الواثق كمير
.
الحلقتان الثامنة والتاسعة
الحلقة (8)
بيت منصور: دوَّار العُمدة!
شكَّل سَكَني بجوار منصور نقطة تحوُّل في علاقتنا الممتدَّة، فكُنتُ ألتقيه كثيراً طالما لم تحجبه أسفاره المتعدِّدة عني، وكانت سانحة تعرفت عليه خلالها عن قُربٍ أكثر، فتوطَّدت العلاقة بيننا منذ ذلك الحين حتى فارق دُنيانا. فبمرور الأيام، لم يعُد منصور هو المُفكِّر والكاتب والدبلوماسي ورجُلُ الدولة السِّياسي فحسب، الذي أتعاملُ معه من على مسافة، بل أضحى صديقاً، أُجِلُّهُ واحترمُهُ، وأخاطبه عفوياً وبتلقائيَّة. كان “بيت” منصور بمثابة “دوَّار العُمدة”، نتردَّدُ عليه كثيراً ونتحلَّقُ حوله، وفي أحيانٍ نُكسر بروتُوكُولاته فنُداهمه دون علمه، فيُطعمنا ويسقينا. كانت تعمل معي كمديرٍ بمنزلي فتاة إثيوبيَّة في منتصف العمر، تُدعى أباينش، خلوقة ومتديِّنة وتجيد الطبخ، مقارنة بالإثيوبيين عموماً. حدَّثتُ منصور عن مزايا وقُدرات أباينش واقترحتُ عليه أن أطلب منها العمل معك طالما دارك مفتوحة للضيوف من كُلِّ حدبٍ وصوب، فأنت تحتاج لها أكثر مني لتدبير شئون المنزل، فلم يتردَّد منصور في قُبُول العرض، كما وافقت هي على الانتقال إليه. أصبحت أباينش مضرب مثلٍ لكُلِّ السُّودانيين والأجانب في الخدمة ومُقابلة حاجة الضيوف، فلم يتوان منصور في استقدامها للعمل معه في نيروبي بعد أن غادر أديس قبل سُقوط نظام منقستو في مايو 1991، حيث عَمِلت معه لسنواتٍ، حتى غادر نيروبي إلى القاهرة. لكم حزنتُ على انقطاع التواصل مع أباينش بعد مغادرة منصور لنيروبي وعودتها هيَّ إلى إثيوبيا، وحزنتُ أكثر بعد علمي المُتأخر أنها قد توفيت، رحمها الله، في يوليو 2005.
كثيرون ممن لا يعرفون منصور، فيما عدا أنه كان أعزباً، بالطبع قد لا يخطُر ببالهم أنه “ربَّ بيتٍ”، يُديرُ شئون المنزل بحرصٍ ودقة، ويُشرفُ على الصغيرة والكبيرة. كما كان يُعنى بترتيبات الأثاثات التي يختارها بعناية وذوق خاص، وبوضع مقتنياته الثمينة، كُلٌ في مكانها، فتسُرَّ الناظرين وتُبهج قُلُوبهم، وسأُفرِدُ حيِّزاً مُقدَّراً من هذه المقالات لـ“بيت منصور”. فمنصور كان هو من يتولى تحديد الاحتياجات، بمساعدة أباينش، ويذهب بنفسه للتسوُّق، خاصة فيما يلي اللحوم، حمراء كانت أم بيضاء. صحبتُهُ أكثر من مرَّة إلى الجزَّار الذي يتعامل معه، في حي “أمباسدور” في وسط مدينة أديس، وكُنتُ أتعجَّبُ لإلمامه الدقيق بخبايا “البهيمة” من الضأن والعجالي، وصبرُهُ الخُرافي لاختيار ما يريده، وأفضِّل انتظاره في السيارة مع سائقه الشاب تون. للمُفارقة، قد يكون منصور دقيقاً في مواعيده ومواظبته في حُضُور الاجتماعات، ولكنه لم يكُن منضبطاً في حالة السَّفر، فعادة ما يصل إلى المطار في وقتٍ مُتأخر يكاد أن يكون كاونتر الخُطوط الناقلة قد أُغلِق. كانت لي تجربة طريفة معه في مطار نيروبي، في منتصف التسعينات، حين تصبَّبتُ عرقاً وانقطعت أنفاسي وأنا أركض صوب الكاونتر لأبلغهم بأنَّ منصور قد وصل، وما كان ليُسافر لولا أنَّ تذكرته في الدرجة الأولى شفعت له.
في أديس أيضاً، في ذلك الوقت تعرَّفتُ على، ونشأت بينا صداقة، على مجموعة مميَّزة من القيادات الشابة في حزب الأمَّة، من ضمنهم: د. صديق بولاد وأستاذ صلاح جلال وأستاذ عبدالحفيظ عباس وأستاذ بشير على آدم، والدبلوماسي نجيب الخير (الذي كان قنصل السفارة ورفض الانصياع لقرار رُجُوعه للخُرطوم). كما قرَّرت القيادة الشرعية أن يكون لها حضوراً في أديس أبابا بغرض إحكام التنسيق مع قيادة الحركة الشعبيَّة، فاستأجروا منزلاً كان يقيم فيه بالتناوُب الفريق أوَّل فتحي أحمد علي والفريق عبدالرحمن سعيد واللواء الهادي بُشرى، والعقيد السِّر العطا والعميد الرشيد عبدالله. من جهة أخرى، كان هناك أصدقاءٌ آخرون في المدينة، منهم ياسر عرمان (وكان حينها في إذاعة الحركة)، حسن النور عثمان (مبعوث الجامعة العربيَّة لمنظمة الوحدة الأفريقيَّة حينئذٍ)، والأستاذ محمد بشير (كبير المترجمين في المنظمة)، والصديق الشاب إبراهيم إسماعيل (مهندس الطيران في الخُطوط الجويَّة الإثيوبيَّة)، الأجنبي الوحيد، الذي لم يُقصِّر منصور في مساعدته لتجديد عقد عمله بحُكم علاقاته بالنافذين من الإثيوبيين، المهندس الصديق الهادي الرَّشيد، الذي قضى بعض الوقت معنا، والأستاذ الأمين زروق (مستشار الطيران لمفوضيَّة الأمم المتحدة الاقتصاديَّة). كان بيت منصور هو ملاذُ وملجأ كل هذه المجموعة، زُرافاتٍ ووحدانا، ولم نكن لنتذوَّق طعم العيد بدون منصور حادينا وهادينا، وننتظرُ عودته بشوقٍ حينما يسافر.
فقد كانت هذه المجموعة تتحلَّق بأريحيَّة كاملة حوله أوَّل أيام العيد ليُفاجئنا منصور بالجلابيَّة، التي كان نادراً ما يرتديها، ويدخل المطبخ بنفسه لإعداد “ملاح النعيميَّة” والعصيدة “اللقمة” التي كان يجيد صنعها باللبن الزبادي. كنا نجلس معه لساعاتٍ طويلة بعد الإفطار بعد أن تقوم أباينش بقلي البُن لنستنشق رائحته الزكيَّة، التي ترُد الرُّوح، ثمَّ تقدِّم القهوة “البُنَّه” بِكراً وتِنياً وبركةً. لم تخلُ تلك اللقاءات الوُديَّة مع منصور، في بيته أو أي مكانٍ آخر يضُمُّنا في المدينة، من تبادُل القفشات والقصص الطريفة معه. بل، كنا نجرُؤ على المزح والدعابة معه ونعامله كراعٍ لنا وصديق، وليس كمنصور العالم والمُفكِّر، دون تجاوُزٍ لمكانته الرفيعة، وكان سعيداً بذلك ويحثنا دوماً على زيارته. كان المرحوم حسن النور كبير المُشاكسين لمنصور. ففي ذات مساء، قدَّم حسن دعوة للعشاء بمنزله شَمِلت منصور ودينق ألور وياسر عرمان ومبارك الفاضل وصديق بولاد. والجلسة على وشك النهاية، وجَّه حسن سؤالاً إلى دينق وياسر: «مش البنضمَّ للحركة لازم يتدرَّب عسكرياً؟“».. فردَّا عليه بالإيجاب، فواصل: «طيِّب، منصور ده حتدرِّبوه متين؟».. انفجر الجميع من الضَّحك، وكالعادة استخدم منصور عبارته الشهيرة، التي لا تخرُج عن حُدُود الزَّجر السَّاخر، موجِّهها إلى حسن: «يا حيوان، إنت أيه دخلك؟». ومن الطرائف مع منصور، كان هناك أحد ضُبَّاط الجيش الشعبي، من أبناء الدينكا، متوعكاً صحياً، وقد سَمَحَت له قيادته الميدانيَّة بالسَّفر إلى أديس أبابا لتلقي العلاج. ألحَّ على ياسر عرمان أن يصطحبه معه إلى دكتور منصور ليتعرَّف به ويطلب منه بعض المُساعدة، وحالما وصلا إلى البيت، قدَّم الضابط التحيَّة العسكريَّة ممَّا أربك منصور الذي لم يعتد على ذلك. بعد انتهاء الزيارة، ومغادرتهما بيت منصور، سأل الضَّابط ياسر بعفويَّة: «الزول الكبير بتاعنا ده مُزوِّج كم مَرَه (امرأة)، عندو نُسوان كتير، مش كده؟». وحين أبلغه ياسر أن منصور لم يتزوَّج أبداً، لم يصدِّقه بحسب ثقافة الدينكا، بل ازدادت دهشته، ولم يكن مستوعباً أنَّ رجلاً في مكانته ومقتدرٌ وفي مقام “بَنْجْ” غير متزوج. فحكى لي ياسر الواقعة ولم تُطاوعني نفسي على الاحتفاظ بالقصة أو تجاهُلها، فاتصلتُ مساء نفس المساء ورويتها لمنصور مازحاً معه. وما أن التقينا بمنصور في اليوم التالي ومعي ياسر، زَجَرَني بطريقته الساخرة وعبارته المعهودة: «إنت يا حيوان تصحِّيني من النوم عشان تقول لي كلام فارغ زي ده من حيوان زيك؟!». ضحكنا وانطوى الأمر، وواصلنا الحديث لنخرُج من بيته كالعادة غانمين.
منصور ومحمد وردي!
بجانب شغف منصور بالغناء والمُوسيقى والطرب والفنون عامَّة، كما سأتطرَّق إلى ذلك في محطاتٍ مُتعدِّدة، كان له حُبٌ خاص وإعجابٌ استثنائي بالفنان الكبير محمد وردي، يُشاركه د. جون قرنق في هذا الوله به. فقد كان لوردي حسٌ وطنيٌ وانحيازٌ للعَدْل ومواقف ضدَّ الاستبداد، سجَّلها له التاريخ، وأضفت نكهة خاصة على أغنياته وزادت أدائه الطروب عُذوبةً. وكما أشرتُ سابقاً إلى أنَّ وردي كان فاعلاً في اجتماعات التجمُّع الأولى قبل وبعد توقيع الحركة الشعبيَّة على الميثاق في نهاية مارس 1990. كان ياسر عرمان مُبادراً في الحديث مع د. جون لدعوة محمَّد وردي، ومن ثمَّ التقى به منصور ودينق وياسر عند حُضُورهم للقاهرة حيث تفاكروا معه حول إمكانية تلبيته الدعوة لزيارة معسكرات اللاجئين التابعين للحركة على الحُدود الإثيوبيَّة-السُّودانيَّة، وبالطبع كان ردُّه إيجابياً مُفعماً بالصِّدق والحماس. فحين وصلتُ القاهرة في منتصف مايو 1990، كان وردي يسكُن بجواري في حي حدائق المعادي بالقاهرة، قبل انتقاله للجيزة، حيث كنا نلتقي بانتظام ومعنا الصديق طه جربوع. شكَّلت دعوته لزيارة المعسكرات الموضوع الأساس لجلساتنا وما تقتضيه من ترتيبات وما تستدعيه من تواصُلٍ مع منصور وياسر، من جهة، ومكتب الحركة الشعبيَّة بالقاهرة (ماجوك أميوم)، من جهة أخرى. لعب ياسر ومارتن مانييل (رئيس مكتب الحركة في أديس) دوراً رئيساً، بدعمٍ من قائد الحركة، بمُشاركة مبارك الفاضل في هذا الجهد الذي تكلل بالنجاح ووصول وردي وفرقته المُوسيقيَّة في النصف الأوَّل من 1990.
.
الحلقة (9)
وردي يصدَّح في أديس وإيتانق!
تمَّ تنظيم أوَّل حفلٍ لوردي في 21 أكتوبر بالمسرح الوطني الإثيوبي في أديس أبابا، كانت الحفلات تقامُ ظُهراً وتنتهي بحُلول المساء، وكان منصور حُضُوراً في الصفِّ الأمامي. وفي 26 أكتوبر رافقنا وردي أنا وياسر في رحلة على ظهر “تاتشر” استغرقت ستة وثلاثين ساعة لقطع المسافة من أديس أبابا إلى قامبيلا. كان سلفا كير ميارديت على رأس المُستقبلين لوردي ومرافقيه وليُبلغه اعتذار د. جون عن الحُضُور وأنه سيكونُ غداً مُشاركاً في الحفل المُعَدِّ له في معسكر “إيتانق”، الذي كان يأوي أكثر من 500,000 لاجيء، وأنه أيضاً يطلب من وردي أن يُحيي حفلاً ثانياً في معسكر “فينجدو”، على مرمى حجر من الحُدُود السُّودانيَّة، وهذا ما حدث بالفعل. للمُفارقة، كان مدير معسكر “إيتانق” آنذاك هو تعبان دينق قاي، النائب الحالي لرئيس دولة جنوب السُّودان. لم يتمكَّن منصور من السَّفر معنا في هذه الرِّحلة، ولكنه كان ينتظر عودتنا على أحرِّ من الجمر لنحكي ونروي له الأحداث شفاهة ومشاهدة. قبل السَّفر إلى قامبيلا، استضافت الحركة وردي في فندق “وابي شبيلي”، الذي انتقل منه إلى منزل الصديق محمد بشير محمود، وكُنتُ أقضي معهم بعض الليالي. ظلَّ منصور يُلاحق محمَّد بشير حتى أكمل له نسخ شرايط تسجيلات الفيديو للحفلات الثلاث، وما كان ليرتاح باله إن أغفل التوثيق لهذه المناسبة الهامَّة لفنانٍ يُعِدُّه من القامات السامقة.
من طرائف تلك الأيام، دعا صدِّيق بولاد، رئيس مكتب حزب الأمَّة، وردي وفرقته، وقدَّم الدعوة لمنصور، إلى مطعم “كارمارا” المشهور، الذي كان يُقدِّم فرق راقصة ومطربين شعبيين يؤدون الأغنيات والرَّقصات المختلفة لقوميَّات إثيوبيا المُتعدِّدة. ضمَّت فرقة وردي الموسيقية أمهر العازفين السُّودانيين، وضمَّ إليهم ثلاثة من الإثيوبيين، من بينهم “قيرما” مايسترو الفرقة، وهم: عبدالرحمن عبدالله (الكمنجة)، حمد إسماعيل (باص جيتار)، حمودة سليمان (الساكس)، طارق شنقة (الإيقاع)، عمر منصور (الكمنجة)، عبدالعزيز حسن محجوب عصفور (الأكورديون)، عبدالهادي (الفلووت)، كما كان من الحاضرين: صدِّيق بولاد، ياسر عرمان، حسن النور، وبشير علي آدم. وكالعادة، كانت إحدى الرَّاقصات تطوفُ على موائد الضيوف، خاصة من السُّودانيين والأجانب الآخرين، وتدعوهم بمرح لتحديها في الرَّقص على إيقاعات وموسيقى “القُراقي”، من أغنية للمطرب الكبير محمود أحمد. كان منصور طرباً ومستمتعاً بالمشهد ولكنه لم يتسجب لدعوة الرَّقص، بل دفعني ومعه الجميع للمُغامرة والدخول في التحدِّي مع الرَّاقصة، فدخلتُ الحلبة ورقصت معها بانفعالٍ ملحوظ لقي استحسان الجُمهور. عُدتُ إلى مكاني مُنهكاً، فعلَّق منصور بكلمتين فقط وبطريقته الساخرة وبصوت منخفض: «والله دي حكاية!»، وجلستُ إلى جوار صدِّيق الذي قال لي ضاحكاً أن منصور سبقه بالتعليق أثناء الرَّقص وقال له، مشيراً لي: «هسه هو عِرِف الرقيص من وين وتعلمو فين؟».. واستغرق الجميع في الضَّحك، خاصة وردي الذي كُنتُ أشاكسه كثيراً.
موقفان طريفان مع منصور في تلك الأيام لا أستطيع كتمهُما في نفسي لما لهُما من دلالاتٍ لأريحيَّة منصور وبساطته في التعامُل معنا بعيداً عن الرسميات والبروتوكولات. أولهُما، كان صديقنا المُشترك إبراهيم إسماعيل يعمل مهندساً للطيران مع الخُطوط الجويَّة الإثيوبيَّة، طائرات البوينق 727، والذي يعرف منصور عائلته من أمدرمان، جده عبدالرحمن عثمان وأخواله بابكر ومصطفى محمد علي، أصحاب “سُودان فولكلور هاوس” للأناتيك في عمارة أبو العلا الجديدة بالخُرطوم، لكن حسن النور هُو من عرَّفه به مباشرة. وكان لإبراهيم، بحُكم إقامته وعمله بأديس أبابا، العديد من الأصدقاء والصديقات الإثيوبيات، خاصة وأنه يتحدَّث الأمهريَّة بطلاقة. وكان إبراهيم كثيراً ما يدعونا سوياً لحُضُور حفلاتٍ خاصة كلما جاءت المناسبة وفيما ندر أن يخذلنا منصور بالاعتذار. في إحدى الأمسيات، دعانا إبراهيم إلى احتفالٍ بعيد ميلاد ابن زميلته في الإثيوبية ميري كوكب، وزوجها المالي دنبا بعيد زواجهما، فذهبتُ معه إلى بيت منصور لاصطحابه إلى مكان الحفل. الطريف في الأمر، أننا كنا بانتظار منصور في غُرفة الجُلوس، فتفاجأنا وهو يتجه نحونا ويحمل في يده كيس للهدايا، مما يعني أنه تهيأ للحفل تماماً، فهمس لي إبراهيم مبتسماً: «أشاغل ليك الدكتور؟!»، موجِّهاً له السؤال: «اليوم الأحد يا دكتور، لحقت اشتريت هدية كيف؟ وهسه كده حتحرجنا نحن»، وكان رد منصور جاهزاً: «إنت مالك يا حيوان!». ولكن دهشتنا تبدَّدت لاحقاً حين اكتشفنا أنَّ لمنصور دولاباً خاصاً يعِجُّ بالهدايا من كل الأصناف، بما فيها العُطُور، وما كان يحتاج لإخطار مبكر. وثانيهُما، كان منصور متفائلاً بأن نظام الإنقاذ لن يستمر كثيراً لفُقدانه الشروط الموضوعيَّة والذاتيَّة الخاصة بمنفذيه، وكان هذا هو الشُعُور العام بعد مرور عام ونيف على انقلاب الجبهة الإسلاميَّة. وكانت الأخبار حينئذٍ تتوارد من الخُرطوم عن مظاهراتٍ كبيرة في “الثورات” بأمدرمان وأحياء شعبيَّة أخرى، في أعقاب إعلان الزيادات على أسعار السُكَّر. ففي مساء أحد الأيام، اتصل بي منصور تلفونياً ليُبلغني بأخبار الاحتجاجات وأنه قد يكون لها ما بعدها، ولكنه طلب مني: «بالله بس أوعك تكلم حسن النور الحيوان ده!». ضحكتُ حتى استغرب صديقي الحميم الهادي الرَّشيد الذي كان معي في المنزل، فأبلغتُه بما قاله منصور، فضحك أيضاً ولكنه تفاءل خيراً، خاصة وأنَّ المحادثة كانت متأخرة ليلاً كغير عادة منصور. مرَّت بضع أيام ولم يحدُث ما توقعه منصور فيما بعد الاحتجاجات، فقرَّرتُ أن أُفشي السِّرَّ إلى حسن النور، كبير المُشاكسين له، فاتصلتُ عليه وحكيتُ له ما قاله منصور وتحذيره لي من نقل الكلام له، فأدهشني ردَّه: «بالله هو قال ليك كده؟! طيِّب، الكلمو منو مش أنا؟!».. لاحقاً، قلتُ لمنصور: «والله احترت أصدقك إنت ولَّا حسن!».
منذ مطلع عام 1991، جاءت الأخبار تترى عن استعداداتٍ جارية من قِبَل المُعارضة المُسلحة لنظام منقستو، الجبهة الثوريَّة الدِّيمُقراطيَّة لشُعُوب إثيوبيا، للهجوم على أديس أبابا والاستيلاء على السُّلطة. بلغ التوتر مداه خلال شهر مارس بعد سيطرة قُوَّات الجبهة على العديد من المناطق والحاميات العسكريَّة في طريقها إلى العاصمة، وأضحت كل المُؤشِّرات تدُلُّ على دخول وشيك لهذه القُوَّات إلى أديس أبابا. كُنتُ قد تحصَّلتُ في ذلك الوقت على عقدٍ استشاري آخر من مفوضيَّة الأمم المتحدة الاقتصاديَّة لإجراء بحث “مكتبي” حول “الجريمة والتنمية الاقتصاديَّة-الاجتماعيَّة في السودان”، ينتهي في يونيو 1991. فكُنا نذهبُ إلى منصور في بيته وعادة ما يكون معه ياسر ودينق حيث كان الموضوع الوحيد الذي كنا نطرقه هو السُّقوط الوشيك لمنقيستو وتداعياته على أوضاع الحركة الشعبيَّة، والخيارات المُتاحة أمامنا. باتت الكتابة واضحة على الجُدران، فشرعنا في الاستعداد والإعداد للسَّفر، فغادر منصور في الأسبوع الأوَّل بينما غادرتُ في الحادي عشر من الشهر.
مغادرة أديس أبابا
توالت الهزائم على جيش “الديرك” على يد قُوَّات الجبهة الثورية لشعوب إثيوبيا “الويَّاني”، حتى اكتسحت هذه القُوَّات أديس أبابا في 22 مايو 1991، وكان منقستو في رحلة داخليَّة ممَّا دعاه لتوجيه مسار الطائرة إلى زيمبابوي. على هذه الخلفيَّة، حطت طائرة مليس زيناوي القادمة من الخُرطوم، من طراز السِسْنة Cessna 404 التي كان يقودها اللواء طيَّار الفاتح عروة، في 28 مايو. كان وجودٌ وانتشارٌ ملحوظين لقُوِّاتٍ وآلياتٍ عسكريَّة سودانيَّة، مساندة لقُوَّات الويَّاني، بينما قاد عروة مجموعة من السُّودانيين العاملين في السفارة، أو المتعاونين معها، لمداهمة وتفتيش بيت منصور واستولوا على أثاثاته ومُقتنياته الثمينة، وصادروا عربته الكورولا بيضاء اللون. لم يقتصر الأمر على منزل منصور، بل قامت نفس هذه القُوَّة بحملة على كُلِّ منازل قيادات المعارضة، نجيب الخير وصدِّيق بولاد بمكتب حزب الأمَّة، واستولوا أيضاً على سيارتهم الكورولا. حقاً، لعب الأمن السوداني دوراً مفتاحياً في سُقوط نظام “الديرك” وهذا أمرٌ لم يُبلغني به أحد، أو أطلعت عليه في الأخبار، بل من من واقع ما شاهدته بأم عيني، في أقل من عام بعد سيطرة “الويَّاني” على الحُكم. فقد أصرَّ عليَّ الصديق محمَّد بشير، الذي كانت له صلة قرابة مع عثمان السيِّد، سفير السودان في إثيوبيا، في مساء 3 أبريل 1992، خامس أيام عيد الفطر، لزيارته في منزله على بعد خُطوات من السفارة، وعلمنا من زوجته أنه في المكتب. عرَّفني محمد بالسفير الذي شرحتُ له أني جئتُ للمُشاركة، بصفتي عُضوٌ مُنتخب، في اجتماع اللجنة التنفيذيَّة لمنظمة البُحُوث للعُلوم الاجتماعيَّة لشرق وجنوب أفريقيا ومقرُّها الرئيس في أديس أبابا. أكملنا الحديث واستأذنا للانصراف، خاصة وقد علمنا منه أنه ينتظر وصول سيوم مسفن، وزير خارجيَّة إثيوبيا، وهذا أمرٌ لم يُسمع عنه في أدبيات وبروتوكولات الدبلوماسيَّة، أن يأتي وزير خارجيَّة أي بلد ما لزيارة سفير لدى بلده في مكتبه بالسفارة! وما أن وصلتُ إلي الفندق الذي أقيمُ فيه على كل حال، فبالرغم من غضب وسُخط منصور على نظام الإنقاذ عمَّا حاق به في أديس، لم يُطاوعه طبعه المُتسامح ولا سجيَّته السَّمحة لحمل الضغينة والغِلِّ تجاه الناس مهما عانى من سُلوك بعضهم، فلم يقطع صلاته مع عروة، بل كانا يلتقيان كثيراً منذ عودة منصور إلى الخرطوم في أبريل 2005.
خطر ببالي موقفُّ طريف مع منصور ونحن على أعتاب مغادرة أديس أبابا بعد أن بات أمر سقوط نظام منقستو وشيكاً. فمنذ مطلع العام، طلب منصور من الصديق إبراهيم إسماعيل أن يكلف إحدى زميلاته، أو أحد زملائه في الخطوط الإثيوبية، أن يشترى له جاكت من الجلد الخالص من الهند، البلد المشهور بجودة الصناعات الجلدية. ولسوء طالع منصور، وصلت الجاكت الموعود بعد أن غادر ووقع في يدي، إذ طلب من إبراهيم أن أسلمه له حالما ألتقي به في القاهرة أونيروبي. المفارقة، أن الجاكت لازال قابعاً في منزلنا بتورونتو بعد أن انتقل معي من أديس إلى القاهرة وأبيدجان وتونس والكويت، إلى كندا. لم يسأل منصور عنه لا إبراهيم لا أنا رغم لقاءتنا المتعددة بعد مغادرتنا لأديس، ولم يذكره إلا بعد أن أبلغته بتحول ملكيته لي بوضع اليد ولم يتعد رده عبارته الساخرة “عجيب إنت والله!”.
بعد مغادرتنا لأديس أبابا في منتصف مايو، تجددت اللقاءات مع منصور في نيروبي، كينيا، وفي القاهرة، مصر، وفي أبيدجان، كوت دي فوار، التي سأتعرض لها في الحلقة التالية (10).