الدولة العميقة والدولة الموازية

0 89

كتب د. النور حمد
كنت قد تناولت في عدد من المقالات، قُبيل اندلاع ثورة ديسمبر 2018، المجيدة، معضلة ما أسميتها: “الدولة الموازية”، التي بدأت مع إنفاذ الإسلاميين، لسياسات “التمكين”. أفرز التمكين، عبر سنوات حكم الإنقاذ المضطربة، المليئة بصراعات مراكز القوى، ما سُميت سياسة “التجنيب”، التي جعلت قدرًا من المال العام، واقعًا خارج نطاق رقابة المراجع العام. أما التمكين، فما لبث أن تحول من خدمة مصالح الحركة الإسلامية، ليصبح في خدمة الرئيس البشير، وأهله، وبطانته. حرست تلك الصورة الجديدة للتمكين دائرةٌ باطشةٌ، مكونَّةٌ من عسكر الجيش، والدعم السريع، والأمن، والشرطة. يُضاف إلى ذلك، دائرة سياسية، من إسلاميي المؤتمر الوطني، الذين آثروا مصالحهم الشخصية، على مصلحة “المشروع الإسلاموي”.
باختصار، ورثت حكومة ثورة ديسمبر المدنية، التي ولدت مشلولةً، دولتين: الدولة الأصلية، الموروثة منذ الاستقلال، التي أصبحت مفلسةً، حد الإدقاع، وتلك الأخرى الموازية، التي وضعت يدها، بتخطيط ٍ من الرئيس البشير، على أهم موارد الثروة. وقد ورثت القوى الحاملة للسلاح، بمختلف فئاتها، هذه الدولة الموازية، الغنية، بعد إزاحة الرئيس البشير. وبحكم الذهنية التي شكلتها عقود حكم الرئيس البشير، يصر هؤلاء الورثاء، حاملو السلاح، على إبقاء الأمور على ما كانت عليه. أي، أن تبقى تلك المنظومة الأخطبوطية من الشركات العاملة، برؤوس أموالٍ ضخمةٍ، في مختلف المجالات الاقتصادية، محجوبةً عن رادار الدولة الأصلية، المتمثل في السلطة الرقابية على المال العام.

تعمل كل من الدولة العميقة، التي تمثلها منظومة الفساد في كل الدوائر الحكومية، والدولة الموازية، التي تمثلها الشركات الكبيرة المرتبطة بكبار المتنفذين وأجهزة الدولة، الحاملة للسلاح، بدأبٍ شديدٍ، كل واحدةٍ بمفردها، لحراسة ما ورثته من الحقبة الانقاذية المبادة. وأصبح الوطن ومصلحة المواطن، هما الضحية لهذا الصراع الكتيم، الذي تقف وراءه المصالح الفردية والجهوية، التي ترى في المصلحة العامة، عدوًا لها. يجري تهريب السلع الاستراتيجية عبر الحدود. كما تشير عديد الأصابع، إلى أن الذهب، يجري تهريبه عبر مطار الخرطوم. أيضًا، يتزايد اتهام المواطنين للشرطة والأمن بالتقاعس المتعمد، عن إنفاذ القانون وفرض هيبة الدولة. باختصارٍ شديد، تعمل الدولة العميقة، والدولة الموازية، في إضعاف سلطة المدنيين التي وُلدت، منذ البدء، ضعيفةً، متهالكة.

في تقديري، أن التحدي الرئيس لا ينحصر في تفكيك الدولة العميقة، وإنما في تفكيك الدولة الموازية، أيضًا. فتشبُّث الدولة الموازية، التي يحرسها العسكر بمختلف قواهم، بالمكاسب الاقتصادية التي ورثتها من حكم الرئيس البشير، هو الذي يحول دون تفكيك الدولة العميقة. خلاصة الأمر، لا مناص، البتة، من أن تتحالف السلطة المدنية مع طرفٍ قويٍّ من مكونات الدولة الموازية. ويبدو أن هذا هو ما جرى بالفعل، في تكوين الآلية الاقتصادية، التي أوكلت رئاستها للفريق أول حميدتي. غير أن الرجل، فيما ورد في الأخبار، تنحى لرئيس الوزراء. وقد كانت تلك، خطوة تكتيكية، لم يكن منها مناصٌ، لمواجهة الأزمة الخانقة في السلع الضرورية، ووقف انهيار الجنيه، مقابل الدولار. لكن، تبقى يقظة الشارع لحراسة ثورته، هي صمام الأمان، في نهاية الأمر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.