الذكرى الثانية والستون لاتفاقية مياه النيل 1959.

0 90

كتب: تاج السر عثمان بابو

.

نتابع في هذه الدراسة بمناسبة الذكرى الثانية والستون لاتفاقية مياه النيل في 8 نوفمبر 1959م جذور مشكلة مياه النيل بين السودان ومصر، والآثار التي ترتبت على السودان من الاتفاقية.

• أولًا: جذور المشكلة واتفاقية 1929:
ترجع جذور مشكلة مياه النيل بين السودان ومصر إلى بداية القرن العشرين، عندما فكرت الإدارة البريطانية في إدخال زراعة القطن في السودان، وبرزت مخاوف مصر من أن بريطانيا تقصد التدخل في توريد المياه لها، ونتيجة لذلك شُكلت لجنة من الخبراء في عام 1925م لبحث مسألة مياه النيل، وتقديم مقترحات متعلقة بالأساس الذي يمكن أن تُوزع به مياه الري مع الاعتبار الكامل لمصالح مصر دون الإضرار بحقوقها القومية والتاريخية (محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان، ترجمة هنري رياض وآخرون، المطبوعات العربية، الطبعة الثانية 1987م، ص 120).

والحق أن لجنة الخبراء كانت استمرارًا للجنة مشاريع النيل المكونة في عام 1920، والتي عُيّن أعضاؤها تعيينًا رسميًا من جانب الحكومة البريطانية والمصرية، ولها صفة ذات صبغة دولية.

فقد كانت لجنة عام 1920 مكونة من رئيس هندي الجنسية وعضو معين بواسطة جامعة كامبردج، وعضو منتخب بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أوصت في تقريرها بوجوب إعطاء مصر الحق في استخدام مياه الصرف في موسم التحاريق، وأن يستخدم السودان مياه الفيضان، ولكن لم يكن من الممكن الوصول إلى اتفاق وقتئذ (بشير، المصدر السابق، ص 120).

مهدت حوادث عام 1924 والإنذار الموجه إلى مصر السبيل إلى إعادة النظر في التوصيات السابقة وعلى أساس تقرير عام 1920 استطاع الخبراء الوصول إلى اتفاق عام 1929، وضمن هذا الاتفاق مصالح مصر في مياه الري، فقد نصت اتفاقية مياه النيل لسنة 1929 على الآتي:
1- أنه لا يجوز للسودان أن يستعمل قطرة من مياه النيل إلا إذا فاض ذاك الماء من حاجة مصر، وخاصة في زمن التحاريق.
2- إن السودان قطر يعتمد على الأمطار، فلا يجوز أن يلجأ للزراعة بالري الصناعي إذا بحث إمكانيات الري بالمطر بحثًا وافيا.
3- إن مشروع الجزيرة قد يزرع القطن طويل التيلة، وفي هذا ما فيه من مضاربة للقطن المصري في الأسواق العالمية.
4- إن مصر في حاجة للتوسع الزراعي لضمان المعيشة لنسلها المتزايد وللمحافظة على ميزانها التجاري.

• ثانيًا: المشكلة بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي:
في الفترة :1952- 1956م برزت مشكلة مياه النيل مع بدء المحادثات مع الجانب الإنجليزي بعد اتفاقية فبراير 1953 للحكم الذاتي، ومع بدء المباحثات مع الجانب الانجليزي – المصري.
وبعد فترة قصيرة من إبرام اتفاقية 1953 جرت أولى مفاوضات مياه النيل، وكان الرأي السوداني يتلخص في: “أن اتفاقية مياه النيل 1929 طرفاها هما إنجلترا ومصر، والأولى لم يأت توقيعها على الاتفاقية باسم السودان، كما هو الحال في غيرها من الاتفاقيات، ولأن السودان يحتاج إلى الماء الذي حُرم منه بواسطة هذه الاتفاقية، وعليه فأن السودان يطالب ب 35 مليار متر مكعب باعتبار أن مستقبل الرخاء في السودان يقوم بلا شك على التوسع في المساحة المروي” (عبد الشافي صديق: مشكلة مياه النيل في العلاقات السودانية المصرية “53- 1968م”، صحيفة الميدان 11/11/ 1985، 12/11/ 1985م).

وكان الجانب المصري في مفاوضات 4/4/ 1955م في القاهرة يقترح أن يُعطى السودان 4 مليارات فقط أو ثمانية مليارات بما فيها الفاقد، بينما يُعطى 76 مليار لمصر بذات الشروط. (عبد الشافي، المرجع السابق)، ورفض الجانب السوداني الاقتراح المصري.

وظل الجانب السوداني يكرر القول أننا لا نريد إلا نصيبًا عادلًا من الماء غير المحجوز الذي يذهب إلى البحر باعتبار أن هناك مسائل ثابتة كحقائق غير مختلف عليها وهي: إن ماء النيل في أسوان معروف المقدار 84 مليار متر مكعب، وما تستهلكه مصر 48 مليارًا، وما يستهلكه السودان أربعة مليارات.

وكان الجانب المصري يرى أنه لا يمكن النظر في تقسيم غير المحتجز إلا بعد بناء السد العالي (عبد الشافي، المرجع السابق). ووصلت المفاوضات من الجانبين إلى طريق مسدود.

وتأثرت هذه المفاوضات بالصراعات الداخلية بين حزب الأمة المناوئ لمصر والأحزاب الاتحادية، وانحياز الحكومة للأحزاب الاتحادية.

• ثالثا: إعلان الاستقلال 1956 واتفاقية 1959م:
بإعلان الاستقلال السياسي للبلاد، كان من الطبيعي أن تبرز من جديد المسائل المتنازع عليها مع مصر لارتباط تلك المسائل بقضايا ما بعد الاستقلال كقضايا التنمية والسيادة الوطنية.

بوصول حزب الأمة إلى سدة الحكم أعلن سكرتيره العام ورئيس الوزراء عبد الله بك خليل عدم اعتراف حكومته باتفاقية مياه النيل لسنة 1929م باعتبار أن السودان لم يكن طرفًا فيها، وعلى ذلك الأساس طفقت حكومة عبد الله خليل في تنفيذ المشاريع المائية السودانية بعيدًا عن اتفاقية 1929م، خلافًا لتوقع الجهات المصرية، بل ومضت الحكومة السودانية خطوات أبعد باحتجازها المياه خلف خزان سنار في أول يوليو 1958م، واحتجت حكومة مصر على ذلك في مذكرة بتاريخ: 15/8/1958، اتهمت فيها السودان رسميًا بالتسبب في خسارة مصر مبلغ 1,150.000 مليون جنيه من جراء حجز مياه النيل (عبد الشافي، مصدر سابق).

وردت الحكومة السودانية برفضها للمذكرة المصرية بحيثية قانونية فحواها “أن دولتي الحكم الثنائي تقدمتا للسودان مباشرة بعد إعلان الاستقلال بسؤال – عما إذا كان السودان يود الالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعناها نيابة عنه – وهنا طلب السودان تلك الاتفاقيات ليدرسها قبل أن يعطي رأيًا بذلك، غير أن حكومة الجمهورية العربية المتحدة لم تكن تنتظر من السودان أن يعطي اعتبارًا لتلك الاتفاقية”.

وظل الشد والجذب محتدمًا بين الجانبين المصري والسوداني، وكان الجانب السوداني يدعم حججه بالآتي:

1- أن هذه الاتفاقية (1929م) ظالمة ومجحفة بحقوق السودان، وأن الاتفاقية أنبنت على أساس أن الأراضي الصالحة للزراعة لا تزيد عن مليون فدان، والحقيقة أنها تزيد على أربعة أمثال هذه التقديرات بالإضافة إلى هذا الخطأ في التقدير، فإن عدد سكان السودان وسرعة التعمير فيه قد تضاعفت منذ توقيع الاتفاقية (نفسه).
2- كما كانت الحكومة الوطنية بعد الاستقلال تهدف لتحقيق مشاريع زراعية ضخمة كامتداد المناقل لمشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الواقعة على النيل وفروعه، وذلك بغرض زيادة وتنويع المحاصيل النقدية.

وفي 17 نوفمبر 1958م كما هو معلوم وقع الانقلاب العسكري وبدأت المفاوضات بين الحكومة المصرية والسودانية، في ظل ديكتاتورية الفريق عبود وغياب رأي شعب السودان وأحزابه.

وبدأت تلك المفاوضات في 10 أكتوبر 1959، وترأس الجانب السوداني اللواء محمد طلعت فريد عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة ووزير الإعلام، وترأس الجانب المصري زكريا محي الدين وزير الداخلية، وأعلن أن المفاوضات لبحث الشؤون المعلقة بين البلدين “ما عدا نزاع الحدود” (عبد الشافي، مرجع سابق).

وفي الثامن من نوفمبر 1959م جرى التوقيع على الاتفاقية الجديدة لتقسيم مياه النيل بين مصر والسودان والتي نال السودان بموجبها 18,5 مليار متر مكعب، ونالت مصر 55.5 متر مكعب، وهناك 10 مليار تمثل فواقد السد العالي “متوسط الايراد عند اسوان يبلغ 84 مليار متر مكعب”.

واشتملت الاتفاقية على ملحق نص على سلفة قدرها 1,5 مليار متر مكعب من حصة السودان لمصر في حالة حاجة الأخيرة لها تنتهي عم 1977م. (علمًا بأن السودان لم يستخدم نصيبه كاملًا لغياب المشاريع الكافية).

ونصت ملاحق الاتفاقية على دفع مصر 15 مليون جنيه كتعويض عن الأراضي التي ستغمر بمياه السد العالي ولتهجير سكان وادي حلفا، ونشير هنا إلى أن مفاوضات الحكومة السابقة كانت تطلب 35 مليون جنيه كتعويض (مذكرة مواطنو حلفا، كتاب “ثورة شعب”، إصدار الحزب الشيوعي السوداني، 1965، ص 269- 270- 271).

• رابعًا: آثار اتفاقية 1959:
كان من آثار الاتفاقية وقيام السد العالي وإغراق منطقة حلفا التاريخية والأثرية وتهجير السكان، أن عارض سكان وادي حلفا والقرى التابعة لمركز حلفا عملية التهجير وتلخصت مطالبهم في الآتي:

1- أن يكون الموطن الجديد هو جنوب الخرطوم بدلًا عن خشم القربة.
2- أن تُمنح التعويضات على أساس تقديرات اللجنة القومية.
3- أخذ رغبات المواطنين النوبيين بما يضمن توجيههم للحفاظ على قوميتهم والعمل على تطويرها ضد عوامل الانقراض (محمد أحمد المحجوب، الديمقراطية في الميزان، بدون تاريخ، ص 182).

كما قامت مظاهرات النوبيين في حلفا وعطبرة والخرطوم وشندي وبورتسودان المنددة بتلك الاتفاقية، فما هي الآثار التي ترتبت على الإغراق؟

* ضياع الآثار والبحث الأثري:
أما عن المنطقة التي ستغمرها مياه السد العالي في بلاد النوبة السودانية من الحدود الجنوبية لمصر إلى مسافة تبلغ مائة وثلاثة عشر ميلًا داخل الأراضي السودانية (تبدأ من “فرس” وتنتهي في “دال” بأرض الحجر)، ويتصف هذا الجزء من السودان بضيق واديه وكثرة ما يعترض مجري النيل من جنادل، ويقلل القيمة الإنتاجية لهذه المنطقة ضيق الشريط الذي يمكن زراعته على جانبي النهر وأكثر من كل هذا، فإن الإقليم عديم المطر لا يصيبه إلا بعض الرزاز أحيانًا، وعلى هذا فقد ارتبطت حياة السكان بالنيل منذ قديم الزمان والآباد، فكانوا يزرعون الأراضي الضيقة التي يغمرها النهر عند فيضانه، وينحسر عنها وقت انخفاضه. أما الزراعة الرئيسية فكانت تعتمد على السواقي التي لا تروي إلا مساحات محدودة، ولو أن استعمال الطلمبات قد انتشر في الفترة موضوع الدراسة في الجهات التي نجد فيها أراضي فسيحة، وهذا الإقليم كان يقطنه خمسون ألف نسمة من النوبيين، تمّ ترحيل خمسة وأربعين ألف منهم إلى خشم القربة في شرق السودان على نهر عطبرة (نجم الدين محمد شريف، انقاذ آثار النوبة، مصلحة الآثار، رسالة المتحف رقم 6، بدون تاريخ، ص 2).

بالرغم من كل هذا ففي الفترة موضوع الدراسة لم يجد هذا الجزء من السودان حظًا ملموسًا من البحث الأثري، إذ لم تمتد إليه يد العلماء والباحثين من قبل إلا بالقدر اليسير عندما قام بعض علماء الآثار في أوائل هذا القرن “العشرين” بتنقيب بعض الحصون الفرعونية تنقيبا جزئيًا في معظم الأحيان، فهنا مجال واسع للبحث العلمي الأثري لملء الثغرات التي نجدها في تاريخ السودان القديم (نجم الدين، المرجع السابق، ص 2).

وبالرغم من الجهد الذي بُذل في حملة انقاذ آثار النوبة السودانية التي انحصرت في مشكلتين أساسيتين:
أولاهما تتعلق بالأعمال الأثرية والثانية تتصل بنقل أربعة معابد من عصر الدولة المصرية الحديثة، ومقبرة من نفس العهد فريدة في نوعها من وادي حلفا إلى الخرطوم وإعادة تشييدها هناك (نجم الدين، ص 3)، بدأت حملة انقاذ آثار النوبة في ديسمبر 1958 بتضافر جهود مصلحة الآثار السودانية ومنظمة اليونسكو”.

على الرغم من تلك الجهود الجبارة والعظيمة التي بذلتها مصلحة الآثار ومنظمة اليونسكو والنتائج العلمية التي برزت من تلك الحملة، إلا أنه على حد تعبير د. عبد الشافي صديق “أن التهجير المتعجل للنوبيين أمام زحف مياه البحيرة قد حال دون الدراسة الاثنوغرافية والانثروبولوجية للحياة النوبية قبل ترحيل أهليها إلى بيئة أخرى جديدة ووسط وحدات عرقية متباينة، ولذا لا يمكن انكار أن قيمة علمية عظيمة قد ضاعت – هي الأخرى ضمن ما ضاع”.

كما يقول د. عبد الشافي: “إن هذه الاتفاقية جاءت حبلى بأجنة الاختلاف عليها في ظل أية حكومة تحرص على تحقيق السيادة الوطنية والديمقراطية (عبد الشافي، المصدر السابق).

“الجدير بالذكر أنه بعد نهاية مدة الاتفاقية (ثلاثون عاما)، جددت حكومة الصادق المهدي هذه الاتفاقية المعيبة”!!.

* تعويضات غير مجزية وفساد:
من الآثار أيضًا تعويضات غير مجزية وفساد في عملية التهجير:

فلم تكن التعويضات مجزية، فعلى سبيل المثال كانت تعويضات النخيل على النحو التالي:

القنديلة 45478 شجرة في 10 جنيه!!
البركاوي 66022 شجرة في 10 جنيه.
البرتمودة 9192 شجرة في 8 جنيه.
الجاوة 240140 شجرة في 5 جنيه.
البركور 12117 شجرة في 1 جنيه.
وبذلك تصبح جملة النخيل 371949 شجرة، وجملة التعويضات عنها 253 ,2,393 جنيه.

وإذا علمنا أن تقديرات اللجنة القومية لتعويضات النخيل كانت 33,589,947 جنيه، فإن الفرق بين هذا التقدير وبينما ما قررته الحكومة يصبح أكثر من 31 مليون جنيه للنخيل فقط (ثورة شعب، ص 287- 288).

كما قدرت الحكومة العسكرية التعويض عن شجرة العنب ب 400 مليم، بينما كان سعر كيلو العنب 200 مليم!!

ومن ثم عارض النوبيون هذه التعويضات غير المجزية، وخرجوا في مظاهرات ومواكب ضد تلك التعويضات، هذا إضافة للفساد الذي صاحب تلك العملية من جانب الحكومة العسكرية.

نماذج من الفساد:
على سبيل المثال حول بناء المساكن في خشم القربة تقدمت بعطاء ثلاث مؤسسات من بلغاريا الاشتراكية ومن بريطانيا وألمانيا الغربية، وكان العطاء البلغاري يمتاز بأنه الوحيد المستوفي لشروط العطاء الأصلي ويبلغ 12,232,152 جنيه، كما أبدت جمهورية بلغاريا الشعبية استعدادها لتخفيض العطاء الأصلي بمقدار 22,500 جنيه، وأن تشتري قطنًا من السودان بما يساوي 25% من قيمة العطاء، كذلك عرضت جمهورية بلغاريا استعدادها لمنح السودان جميع المساكن التي تبنى على حساب الحكومة البلغارية لسكن الفنيين والعمال”.

وفي نفس الوقت تقدمت شركة (تيرف) الإنجليزية اسمًا والتي هي في الواقع من جنوب أفريقيا (التي أعلنت حكومة السودان مقاطعتها لما ترتكبه من أعمال فاشية ضد الوطنيين الأفريقيين، وخاصة سياسة التفرقة العنصرية).

تقدمت شركة تيرف هذه بعطاء يبلغ 13,137,585 جنيه، ولا يقوم على أساس مواصفات العطاء الأصلي إذ اقترحت الشركة بناء المساكن بالخرسانة المعشعشة، وجعلت وكلاء لها شركة ميتشل كوتس الإنجليزية، وجماعة من التجار بينهم زين العابدين صالح والمهندس حسن كرار وسيدة أجنبية تدعى فالفس.

عرضت الحكومة هذه العطاءات على المهندسين المستشارين لخشم القربة وهم شركة من ألمانيا الغربية تدعي (كوكس)، وقد كشف هؤلاء الألمان جميع العطاءات للمؤسسات الألمانية وخاصة شركة (فيلبس هانزمان) والتي قدمت في نفس الوقت للعطاء، وقد تمّ هذا الكشف عن طريق التاجر ميرغني ابو شمة وهو وكيل لشركة (كوكس) وشركة (هانزمان) في نفس الوقت”.

بالطبع كان موقف المستشارين الألمان معاديًا للعرض البلغاري السخي وحاولوا الطعن فيه بشتي الطرق حتى يبعدوا بلغاريا الاشتراكية عن هذا الميدان الحيوي، وليفتحوا الطريق أمام مؤسسات ألمانيا الغربية التي يمثلون مصالحها”.

وفي هذه المرحلة تقدمت للعطاء شركة (فيلبس هانزمان) من ألمانيا الغربية وبعرض يزيد على عطاء الشركة الإنجليزية (تيرف) بمبلغ 1,300,000 جنيه، وعلى عطاء بديل وليس العطاء الأصلي وبدون أي ضمانات مالية (ثورة شعب، ص 284- 285).

يتضح مما سبق الفرق الشاسع بين العطاء البلغاري والعطاءين الآخرين، وكما هو واضح فأن مصلحة البلد كانت في قبول العطاء البلغاري.

وقررت الحكومة بعد لجنة كونتها أن يعطى للبلغار ثلثي العطاء وللشركة الإنجليزية الثلث الآخر، ورغم ما في هذا القرار من خسائر لشعب السودان نتيجة للأرباح الباهظة التي ستجنيها الشركة البريطانية والغربية ظلت تضغط لتحطيم العرض البلغاري، حتى تهالكت الحكومة نهائيًا وقبلت العرض البريطاني كبديل للعرض البلغاري” (ثورة شعب، ص 286).

واختلفت شركة (تيرف) مع حكومة انقلاب 17 نوفمبر وانسحبت قبل انجاز المباني بعد أن ملأت جيوب السماسرة والوكلاء بالمال الحرام وهنا جاءت فرصة أخرى لملء الجيوب.

وأصبحت مباني خشم القربة غنيمة للوزراء ومحاسيبهم من المقاولين، وخلال عمليات النهب لم يكن مهمًا من سوف يقيمون بتلك المساكن، كل المهم أن تمتلئ الجيوب.

هذا اضافة لضآلة التعويض من الحكومة المصرية (15 مليون جنية) بينما تُقدر تكلفة المنازل بخشم القربة والمنشآت العامة عشرين مليون جنيه، إضافة لتكاليف خزان خشم القربة التي تبلغ 11 مليون جنيه، إن مجموع التكاليف للخزان والمنازل والمنشآت العامة 31 مليون جنيه، أي كان علي الحكومة أن توفر مبلغ 16 مليون جنيه كفرق، هذا غير تعويضات الأشجار، هذا إضافة إلى أن الحكومة العسكرية لم تقم بأي دراسة علمية لمنطقة خشم القربة، لم تدرس الآثار البيئية التي تنتج عن ترحيل أناس من مناطق معروفة بأنها أشد مناطق السودان بردًا في الشتاء وأحرها صيفا، وليس بها خريف، ما عدا أمطار شتوية لا تذكر (متوسط بوصة واحدة) إلى مناطق ممطرة متوسط الأمطار فيها سنويًا ما يربو على الأربعين بوصة (ثورة شعب، ص 282- 283).

• الخلاصة:
هكذا نخلص إلى الآثار الناتجة عن اتفاقية مياه النيل 1959 التي لم تكن عادلة بالنسبة للسودان، فتعويضات تهجير أهالي حلفا لم تكن مجزية، وضاع جزء عزيز من الوطن بتراثه الأثري والعلمي، إضافة للفساد الذي لازم تلك العملية، وعدم الدراسة البيئية لملائمة سكان حلفا لمناخ خشم القربة. إضافة لغياب شعب السودان، فالاتفاقية تمت في ظل نظام حكم ديكتاتوري صادر الحقوق والحريات الديمقراطية، ولا شك أن الوضع كان سوف يكون مختلفًا إذا كانت هناك حكومة وطنية وديمقراطية تدافع عن مصالح السودان وسيادته الوطنية، تم معها هذه الاتفاقية.

وعلي حد تعبير د. عبد الشافي “أن الاتفاقية دفعت كعربون من نظام ديكتاتورية عبود إلى مصر، وذلك بغرض إسكات أجهزة الإعلام المصرية عن انتقاد نظام عبود والذي تعول القوى الغربية عليه كثيرًا لتمرير المخططات الاستعمارية في أفريقيا، ولكون نظام عبود يشكل عازلًا عريضًا بين الثورة المصرية وقلب القارة.

ولعل ما يبرهن علي صحة ذلك، وما هو مثير للدهشة الترحيب المفاجئ الذي أبدته الحكومة البريطانية تجاه اتفاقية القاهرة الجديدة لمياه النيل، وكذلك الوصف الذي أورده المؤرخ البريطاني ب.م. هولت” بأن الاتفاقية تقيم عهدًا جديدًا مع مصر “، ويضاف إلى ذلك الصمت المطبق الذي التزمته لندن وقت جريان المفاوضات في القاهرة، ثم إسراع الحكومة البريطانية بعد ذلك في التعبير عن ارتياحها للاتفاقية، وهي التي كانت تكثر من المطالبة بضرورة اشراكها، وكذلك إشراك أقاليم شرق افريقيا” (د. عبد الشافي، مرجع سابق، وهولت: تاريخ السودان الحديث، لندن 1961).

هذا فضلًا عن الآثار التي ترتبت من الاتفاقية على هضم دول المنبع والتي انفجرت أخيرًا كما في اتفاقية عنتيبي وإعلان المبادئ، كما أوضحنا في دراسة سابقة عن “سد النهضة واشتداد حدة الصراع على الموارد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.