الذكرى (75) لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني (2)
كتب: تاج السر عثمان بابو
.
1
أشرنا سابقا الي أن نشأة الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) كانت امتدادا لتطور الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال والسيادة الوطنية ، وكما أشار عبد الخالق محجوب في مؤلفه ” لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الوسيلة، ط 3 1987)، ص 40 إن نشأة الحركة السودانية للتحرر الوطني- الحزب الشيوعي فيما بعد ” لم يأت قسرا أو عن طريق الاستيراد كما يدعي أعداء الشيوعية في السودان، بل كان تطورا منطقيا للفكر السوداني وحاجة ماسة فرضتهاالظروف التي واجهتها البلاد”.
بالتالي كانت امتدادا لتقاليد الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي إنبلج فجرها بتأسيس جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الابيض واندلاع ثورة 1924م، ونهوض الحركة الثقافية والأدبية والرياضية، وخروج المرأة للعمل والتعليم، وتطور التعليم المدني الحديث، وظهور الصحافة الوطنية (الحضارة السودانية، النهضة، الفجر) التي اسهمت في رفع درجة الوعي الثقافي والفكري والسياسي. وبالتالي جاء ميلاد الحزب الشيوعي تطورا طبيعيا ومنطقيا للفكر السوداني..
ليس ذلك فحسب ، بل أن بعض مؤسسي الحزب الشيوعي كانوا أبناء لثوار 1924 وتاثروا بهم مثل:
عبد الخالق محجوب الذي كان والده محجوب عثمان مرتبطا بالنضال ضد الاستعمار في جمعية اللواء الأبيض ، كما يشير د. محمد محجوب عثمان شقيق عبد الخالق في مقال له بعنوان ” عبد الخالق محجوب اسم وضىء في سماء الوطن” عن سبب اسم عبد الخالق:
” سألني واحد مرة، أن كانت تسمية الرجل جاءت مجاراة لاسم عبد الخالق ثروت باشا، رئيس وزراء مصر عام 1922 بعد نفي سعد زغلول، وبعض أعضاء حزبه، حزب الوفد عام 1919، والمعلوم أن عبد الخالق ثروت باشا ينتمي إلى عصبة الباشوات الأتراك الذين كانوا يحكمون مصر وعلى رأسهم الملك فؤاد، وكان جل اولئك الباشوات من ملاك الأراضي أو الإقطاعيين الأغنياء الذين أذاقوا الشعب المصري العسف والعذاب. قلت ردا على هذا أن الصحيح أن الوالد قد سماه عبد الخالق تخليدا لوطنية وشجاعة مأمورا يسمى عبد الخالق حسن حسين عمل في ظل إدارة الحكم الثنائي للسودان، والذي في وفاته خرجت أول مظاهرة ضد الانجليز عام 1924م في مدينة أم درمان، وكان ذلك حدثا فيه كثير من الدلالات والترميز لنضال شعبي مصر والسودان المشترك ومثلت نهوضا للحركة الوطنية السودانية”. ( محمد محجوب عثمان ، الميدان : الخميس: 23 يوليو 2009).
2
لم يكن صدفة أن تصدر أول صحيفة جماهيرية للحزب الشيوعي عام 1950 باسم ” اللواء الأحمر” ، وكان ذلك تعبيرا عن أن الحزب امتداد لجمعية اللواء الأبيض التي كانت تصدر صحيفة “اللواء الأبيض” السرية ، وكذلك أصدر عبد الخالق محجوب مجلة فكرية ثقافية عام 1957 باسم “الفجر الجديد” التي توقفت بعد انقلاب عبود ، وعاد صدورها بعد ثورة أكتوبر 1964 ، وتوقفت بعد حل الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965. وكان ذلك تعبيرا عن أنها امتداد لمجلة الفجر التي أصدرها عرفات محمد عبد الله من قيادات ثوار 1924 في أوائل ثلاثنيات القرن الماضي، علما بأن مجلة “الفجر الجديد ” كانت من الصحف الشيوعية المصرية التي صدر العدد الأول منها في : 16 مايو 1945م ( راجع رفعت السعيد : الصحافة اليسارية في مصر : 1925- 1948 ، دار الطليعة بيروت، 1974)، ربما جاء الاسم عليها، لكن الغالب أنها امتداد للمجلة التي اصدرها عرفات محمد عبد الله.
يقول محمد محجوب :”ولعلي هنا استدعى احدى الحقائق وهي أن القائد الوطني عرفات محمد عبد الله، قد لجأ إلى بيتنا متخفيا من ملاحقات قلم الاستخبارات أي جهاز الأمن على العهد الاستعماري، ولا استطيع أن اؤكد هنا أن شيئا من هذا قد رسخ في عقل عبد الخالق فقد كان طفلا انذاك. ولكن ترداد اسم وسيرة عرفات في أسرتنا لم ينقطع حتى بعد أن شب عبد الخالق عن الطوق، فقد ربطت بين عرفات والوالد علاقة عمل حيث عمل كلاهما في مصلحة البريد والبرق، وعلاقة سياسية – على درجة ما – في جمعية اللواء الابيض، فهل يكون هذا قد خلق اثرا في تكوين عبد الخالق العقلي بهذا القدر او ذاك؟ “.( محمد محجوب ، مرجع سابق).
كما تشير فاطمة محجوب عثمان شقيقة عبد الخالق في مؤلفها ” مذكرات فتاة شقية”، دار مدارات 2019 ، ص 40 ،عن حكايات والدها الذي يقول: ” علاقتي بعرفات توطدت حتى صارت أسرية فانا استقبله يوميا عندما يحضر من منزله في ( الدباغة) وهو حي صغير بعد ( ابوروف) وكثيرا ما كان يحضر راجلا رغم بعد المسافة ، ومرة علي ظهر الحمار متفاديا الترماي الذي كان ينتشر فيه الجواسيس والمخبرين الذين يتابعونه كالظل والذين يعرفهم جميعا. مجلة اللواء الأبيض التي كان يحررها في منزله كانت حاضرة لمراجعتها، واضافة ما يري مهم والتي كانت تخرج في ثوب أنيق بسبب اللغة والأفكار الموضوعية والترتيب المنطقي لأشياء، حقا كانت مجلة اللواء الأبيض واحدة من أقوى أسلحة النضال ضد الاستعمار، والتي ساعدات علي انتشار الوعي وسط جماهير الشعب السوداني”.
وهذا يشير الي أن محجوب عثمان والد عبد الخالق كان له دور كبير في العمل السري لجمعية اللواء الأبيض، في تأمين نشاط الجمعية وتحرير مجلة اللواء الأبيض. .
3
في علاقة المؤسسين بثوار 1924 يقدم الاستاذ التجاني سيرته الذاتية في دفاعه الذي قدمه أمام محكمة ديكتاتورية مايو في أكتوبر 1982 والذي جاء فيه:
“ليست هذه أول مرة اواجه فيها القضاء، فانا مناضل منذ الصبا الباكر، أي قبل اكثر من أربعين عاما، و الفضل في ذلك يعود إلى أبي و معلمي الذي كان قائدا لثورة 1924 في شندي و ظل وطنيا غيورا حتى وفاته قبل شهور، كما يعود إلى جيلنا العظيم جيل الشباب الذي حمل أعباء نهوض الحركة الوطنية و الديمقراطية الحديثة. وأنني أعتز بأنني كنت من المبادرين و المنظمين البارزين لأول مظاهرة بعد 24 و هي مظاهرة طلاب المدارس العليا في مارس 1946، و أعتز بأنني كطالب في مصر أديت نصيبي المتواضع في النضال المشترك مع الشعب المصري الشقيق ضد الاستعمار و حكومات السراي و الباشوات و نلت معه نصيبي المتواضع من الاضطهاد باعتقالي سنة و قطع دراستي، وأعتز بأنني شاركت مع رفاق أعزاء في كل معارك شعبنا من أجل الحرية و التقدم الاجتماعي و الديمقراطي، و قمت بدوري المتواضع في بناء الحركة العمالية و تنظيماتها و نقاباتها و الحركة الطلابية و اتحاداتها، و أعتز بأنني في سبيل وطني و شعبي شردت و اعتقلت و سجنت و لوحقت و أنني لم اسع الى مغنم ولم اتملق حاكما و لا ذا سلطة و لم اتخلف عن التزاماتي الوطنية كما أعتز بأنني ما زلت مستعدا لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التي كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن و سيادته تحت رايات الديمقراطية و الاشتراكية. و لست اقول هذا بأية نزعة فردية فانا لا أجد تمام قيمتي و ذاتي و هويتي الا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا و قواه الثورية، الا كمناضل يعبر عن قيم و تطلعات و أهداف ذلك النضال، الا عبر تاريخ شعبنا و معاركه الشجاعة التي بذل و يبذل فيها المال و الجهد و النفس دون تردد في سبيل الحرية و الديمقراطية و التقدم الاجتماعي، انني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد و هذه القيم و التطلعات النبيلة. إن هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الاولى و انما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي امثله و التطلعات التي أعبر عنها.. و لكن هيهات. وشكرا على سعة صدركم”..
هذا اضافة للمؤسسين الآخرين الذين كانوا من أبناء ثوار 1924 تأثروا بهم وساروا في دربهم الثوري مثل:
– د.عبد الوهاب زين العابدين أول سكرتير للحركة السودانية للتحرر الوطني(حستو)، اضافة الي أنه كان سكرتيرا لمؤتمر الخريجين.
. – ثريا التهامي القيادية في الحزب الشيوعي والاتحاد النسائي كان والدها التهامي محمد عثمان من ثوار 1924، والذي انضم للحزب الشيوعي فيما بعد.
– د. عز الدين علي عامر كان والده من ثوار 1924 ، فعندما وُلد عزالدين عام 1924 كانت ثورة 1924 مشتعلة ، وسماه والده ” علي عبد اللطيف” تيمنا بقائد تلك الثورة ، الا أن الأسرة استعارت اسم عز الدين حفاظا علي المولود من بطش الاستعمار.
4
هذا اضافة لانتشار افكار التحرر الوطني والاجتماعي والتقدم والاشتراكية في ثلاثينيات القرن الماضي ، كما ظهرت في مجلة النهضة السودانية والفجر فيما بعد مثل : الفكر الاشتراكي الذي كانت بذوره موجودة في السودان قبل الحرب العالمية الثانية ، وتعرّف عليها المتعلمون والخريجون السودانيون من مصادر مختلفة وسنحاول إثبات ذلك من الأمثلة التالية :
– – في مجلة النهضة السودانية العدد (26) ص: 23 – 24 ، نجد قائمة بأسعارها لكتب عصرية حسب ما وصفتها مكتبة النهضة السودانية ، من ضمن هذه الكتب كتاب عن” روح الاشتراكية” ، ترجمة الأستاذ محمد عادل زعيتر وثمنه (22) قرشا وغالبا ما يكون بعض الخريجين أو المتعلمين السودانيين في الثلاثينيات قد تداولوا هذا الكتاب وتعرفوا ولو علي لمحات من الفكر الاشتراكي.
– في مجلة الفجر العدد (1) مجلد (3) الصادر بتاريخ 1 – 3 – 1937 م ، ص 8 – 10 ، نجد دراسة تحت باب دراسات اقتصادية بعنوان (لمحة عن الاشتراكية) للكاتب عبد الرءوف فهمي سمارة.
وبعد الحرب العالمية الثانية اتسع دخول الفكر الاشتراكي بمدارسه المختلفة من ماركسية وغيرها ، وتأثرت أقسام من العمال والمثقفين بها، اضافة للدور الذي لعبه بعض الجنود والمعلمين من الحزب الشيوعي البريطاني في توصيل الفكر الماركسي لبعض الطلاب والسودانيين مثل: الجندي مستر استوري ، ومستر دكنسون الذي كان معلما في المدارس الثانوية، ويذكر أحمد سلمان في كتابه :ومشيناها خطي 1983 أن مستر ديكنسون قدم محاضرة للجمعية الأدبية بمدرسة أم درمان الثانوية عام 1945 عن ” المادية الجدلية والمادية التاريخية، وكان رئيس الجمعية عبد الخالق محجوب ، وسكرتيرها التجاني الطيب بابكر، وواصل ديكنسون نشاطه الثقافي الي أن نقل الي مدرسة وادي سيدنا الثانوية.
اضافة للآثر المصري عن طريق الكتب والمجلات ، فقد شهدت فترة الثلاثينيات وبداية الاربعينيات اصدار مجلات ماركسية يسارية في مصر مثل: “روح العصر التي صدرت في 14 فبراير 1930 ” ، و”شبرا التي صدرت في 26 أغسطس 1937″ و”التطور التي صدرت في يناير 1940″ ، اهتمت روح العصر بالاشتراكية ، وقدمت شرحا وتعريفا لها، وقدمت ترجمات لمؤلفات ماركس عن “العمل المأجور ورأس المال”، وكتابات ماركس عن الفهم المادي للتاريخ ، وعن مؤلفات لينين، وكتبت عن مشاكل الطبقة العاملة ، والتجربة الاشتراكية السوفيتية ، وخطر الصهيونية وضد اعتصاب اراضي الفلسطينيين، وحذرت من خطر الفاشية، ويوم العمال العالمي في اول مايو ، الخ ، وقد وصف رفعت السعيد مجلة روح العصر بأنها كانت مدرسة للفكر الاشتراكي، أما مجلة “شبرا” فقد ركزت علي قضايا الطبقة العاملة، واهتمت مجلة “التطور” بتحرر المرأة ومساواتها بالرجل وحقها في التعليم والعمل ، والأفكار التحررية في الأدب والفن . الخ.
( للمزيد من التفاصيل: راجع رفعت السعيد : الصحافة اليسارية في مصر: 1925- 1948 ، مرجع سابق)، لاشك أن كل ذلك كان له الأثر في تعرف المتعلمين والعاملين علي الفكر الاشتراكي. .
هذا اضافة للاهتمام بحرية الفكر ، وحرية التعبير والنشر والنقد ، كما ظهرت مقالات عن ذلك في مجلة النهضة السودانية السودانية مثل العدد ((24)، والعدد (31)، هذا اضافة للاهتمام بالفكر الفلسفي ونظرية التطوركما في الفجر العدد ( 2 ) الصادر بتاريخ : 16 –6 – 1934 م ، نجد مقالا فلسفيا لعبد الله عشري الصديق تحت عنوان ( مسائل الكون الكبرى – البداية ) ، ويخلص في نهاية المقال إلي أن ( كل ما توصل إليه الفكر البشرى حتى أيام الفلسفة العربية يتلخص في ثلاث نظريات لشرح أصل الكون وبدايته هي نظرية الخلق ، ونظرية التوليد ، ونظرية الخروج والانبعاث ، وقد وجدت كل من هذه النظريات أنصارها وناشريها ، وأخذت مكانها بين أخواتها كأخر حل يمكن الوصول إليه لهذه المسألة الغامضة ) . وفي البحث الفلسفي أيضا نشير إلى المقالات التي كتبها معاوية محمد نور بعنوان ( عالم القيم والنظريات ) التي ناقش فيها مذهب الشك الفلسفي ( معاوية محمد نور : مقالات في الأدب والنقد ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، المقالات كتب أغلبها معاوية في الصحف المصرية وجمعها رشيد عثمان خالد ).
كما نجد في العدد ( 20 ) للفجر بتاريخ 16 – 5 – 1935 م تحت باب العلوم سردا تاريخيا لتطور علم النفس وسردا تاريخيا للنفس الإنسانية.
وفي أعداد النهضة السودانية : 29 ، 30 ، 32 ، والصادرة بتاريخ : 20 – 11 – 1932 ، 27 – 11 – 1932 ، 11 – 12 – 1932 على التوالي ، نجد تحت باب أبحاث علمية حلقات عن مذهب النشؤ والارتقاء لداروين ، لعوض حامد جبر الدار ( استند الكاتب إلى بحث إسماعيل مظهر ً ملتقى البيبل ً وكتابات داروين Voyage of Beagle ، كما نشير إلى ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب داروين أصل الأنواع . ) ، وقدم الكاتب نظرية داروين المعروفة ، وأوضح حياته وأبحاثه العلمية والميادين التي طرقها ، وكيف توصل إلى قانون البقاء للاصلح ، ونظريته حول الخلق المتسلسل ولبس المستقل.
ويرى الكاتب في النهاية إن الاطلاع على نظرية داروين ضرورية ، وليس على الإنسان الإيمان بها ، بل بمجرد الاطلاع ، بل الإحاطة بها من وجهة تكوين الثقافة العلمية.
هذا اضافة للدعوات للتوسع في تعليم المرأة وحقها في العمل ، وتوسيع التعليم وتطويره، فقد نال التعليم اهتماما كبيرا من كتاب الثلاثينيات.
مؤكد أن كل تلك العوامل اعلاه ، كان لها الأثر في نشأة وتطور الحزب الشيوعي فيما بعد.