الذكرى (75) لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني (1)

0 68

كتب: تاج السر عثمان بابو 

.

 1

يصادف يوم 16 أغسطس الذكرى (75) لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني في 16 أغسطس 1946، أو العيد الماسي للحزب، وبهذه المناسبة، نتابع في هذه السلسلة من الحلقات، الجذور والنشأة والارهاصات التي سبقت بداية تكوينه، باعتبار أن نشأة الحزب لم تكن معزولة عن تطور الحركة الوطنية السياسية الحديثة، فقد جاء الحزب كما أشار الشهيد عبد الخالق محجوب في كتابه “لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي” “كان ميلاد الحركة السودانية للتحرر الوطني كجزء من التحركات الوطنية أثره في مستقبلها، إذ أنها شرعت فورًا في النضال العملي ضد المستعمرين، وأصبح صفة من صفاتها الثابتة حتى اليوم. إن النضال والعمل الجماهيري صفات اكتسبتها الحركة السودانية منذ نشأتها، بل هي وليدة النضال، وقد أصبحت هذه الحقيقة سرًا من أسرار منعتها ونمو جانبها” (ص 42، طبعة دار الوسيلة1987)، إضافة إلى أن نشأته كانت ضرورة موضوعية فرضتها احتياجات التطور الوطني الديمقراطي في البلاد بعد الحرب العالمية الثانية.

فقد كانت نشأة الحزب الشيوعي امتدادًا لتطور الحركة السياسية الوطنية الحديثة، وتنظيماتها الحديثة التي انبثقت منها، والتي قامت على أهداف سياسية، لا على قبلية أو دينية أو عنصرية أو طائفية مثل: جمعية الاتحاد السوداني وبعدها اللواء الأبيض التي كانت تطورًا أوسع لها، يعزز ذلك الآتي:

جاء في أهداف جمعية اللواء الأبيض في الرسالة التي نشرها عبيد حاج الأمين من قيادات اللواء الأبيض في صحيفة الأهرام بتاريخ: 6 أغسطس 1924، أكدت تلك الرسالة الأهداف السياسية التي قامت عليها، رغم اختلاف وجهات النظر حول وحدة وادي النيل تحت التاج المصري، يقول عبيد في رسالته:

*”- جمعية اللواء الأبيض جمعية سودانية قبل كل شيء ، سودانية بأوسع الكلمة.

– غرضها الأساسي تحرير الوطن المعذب من رق العبودية وخلاصه من المستعمر الغاصب.

– تتوسل الجمعية بكافة الوسائل المشروعة لبلوغ مقصدها، وأول هذه المجاهرة أمام العالم المتمدن، ورفع صوت الأمة في كل ناد.

– ليست الجمعية جمعية دسائس أو مكائد سرية ضد أي فرد أو مجموع أو أمة، وهي تخدم كل الآراء المنزهة عن الأغراض السيئة مهما كانت مغايرة لمبادئها.

– لا تتحيز الجمعية لحزب دون آخر، وهي تحمل للجميع كل اخلاص واحترام.

– تعمل الجمعية لتحقيق غرضها السامي دون سواه، فهي لا تخدم أية سياسة أجنبية، معتمدة على قوة حقها وصدق جهادها، واثقة بالنجاح.

– الجمعية موطدة الأساس متينة الجوانب معضدة من سواد أهل السودان، ولا تزيدها تصرفات الغاصب إلا قوة على قوتها.”

(للمزيد من التفاصيل: راجع: مها عبد الله حاج الأمين، عبيد حاج الأمين، جزيرة الورد، ط 2، 2017، ص 184- 185).

 

2

* كانت الجمعية لا تؤمن بالفوارق الاجتماعية ولا بالعنصرية، بل حاربت العنصرية والقبلية والطائفية التي وُلدت وترعرعت في أحضان الإدارة البريطانية وغذتها ورعتها السياسة البريطانية لتكون سلاحًا لضرب الشعب السوداني.

حاربت الجمعية القبلية في أبسط صورها، بل أن الجمعية كانت بوتقة انصهرت فيها كل الفوارق الاجتماعية لتصب في قالب الوحدة. (المصدر السابق، ص 102).

من الأمثلة على رفض العنصرية، احتجاج علي عبد اللطيف على المقدمة التي كتبها سلمان كشة في مقدمة كتاب “نسمات الربيع” التي ورد فيها “شعب عربي كريم”، أشار علي عبد اللطيف في احتجاجه بعبارة “شعب سوداني كريم”، إذ لا فرق بين عربي وجنوبي أو زنجي، وكان علي عبد اللطيف رغم أصوله الزنجية رئيسًا لجمعية اللواء الأبيض تكريمًا له.

* كانت حركة اللواء الأبيض ذات طابع قومي، وضمت في قيادتها وعضويتها أفرادًا من قبائل وأجناس مختلفة تعكس تنوع السودان ومناطقه المختلفة، وأصوله العربية والأفريقية مثل: الملازم علي عبد اللطيف، عبيد حاج الأمين، صالح عبد القادر، موسى لاظ ، عبد الفضيل الماظ، الطيب بابكر، مزمل علي دينار (من دارفور) ابن السلطان علي دينار، وكذلك شيخ العلماء الأمين ابوالقاسم أحمد هاش… الخ (للمزيد من التفاصيل راجع مها عبد الله: مرجع سابق)، وكان لها قسم على القرآن والإنجيل للمسيحيين، وتطورت الحركة وأصبح لها فروع في: بورتسودان، ودمدني، عطبرة، الأبيض، سنار، حلفا وكل أرجاء السودان.

كان شعارها علم أبيض رُسمت عليه خريطة وادي النيل، وفي ركن العلم المصري الأخضر، وكُتب عليه عبارة “إلى الأمام” (المرجع السابق).

 

3

* لم تكتف الجمعية بالشعارات والأهداف السياسية أعلاه، بل ربطت أهدافها بقضايا اقتصادية واجتماعية نوعية تتعلق بالنضال ضد الاستعمار، كما في رفض:

– اغتصاب أرض الجزيرة بطريق الايجار حتى جعل سعر الفدان عشرة قروش صاغ في السنة.

– مصادرة أملاكهم (الأهالي) وتسليمها لشركة استثمار السودان، وحرمان الايتام والأرامل من إرث الأملاك، حتى أوقفوا تنفيذ أحكام المواريث والأوقاف الشرعية في الجزيرة. (رسالة أحمد عمر باخريبة، الأهرام: الخميس: 31 /7/ 1924، العدد (14435، في المرجع السابق).

إضافة للأهداف الاجتماعية والنوعية الأخرى مثل:

– زيادة التعليم، وتعليم المرأة، وارسال الطلاب لمصر للتعليم.

– نزع احتكار السكر من الحكومة ووضعه في يد التجار.

– اسناد بعض الوظائف للسودانيين.

(للمزيد من التفاصيل راجع منشور: ناصح مخلص أمين، في كتاب حسن نجيلة “ملامح من المجتمع السوداني”).

* مع نشأة الحركة السياسية الحديثة ظهرت أشكال جديدة في الكفاح والنضال مثل:

– قيام الجمعيات والاتحادات السرية “الاتحاد السوداني، وبعدها اللواء الأبيض”.

– تأسيس الأندية الاجتماعية “أندية الخريجين، وأندية العمال والثقافية والرياضية”.

– ظهرت أساليب نضالية جديدة مثل: الإضرابات والمظاهرات، حملات التضامن لإطلاق سراح المعتقلين، جمع المال لسفر الطلاب للدراسة في مصر وتهريبهم سرًا، المنشورات والكتابة في الصحف، الخطب في المساجد، انتفاضات وتمرد الجنود السودانيين “تمرد الأورطة السودانية 1900، مقاومة العسكريين المسلحة في 1924″، ثورة 1924.

– الجمعيات الأدبية والثقافية التي تكونت بعد هزيمة ثورة 1924 “جمعية أبى روف وجمعية الفجر”.

– ظهور مجلة “النهضة السودانية “وبعدها “الفجر”.

– ظهور حركة تحرير المرأة ونهضتها والدعوة لتعليمها وخروجها للعمل.

– تطورت حركة الأدب والفن والمسرح والأغنية السودانية.

– ظهور الصحافة الوطنية التي لعبت دورًا كبيرًا في الوعي، وظهور حركة الدفاع عن الحريات والسلام.

– استمرار إضرابات العمال من أجل تحسين الأجور وشروط الخدمة، وإضراب طلاب كلية غردون 1931 بسبب تخفيض الأجور بعد الأزمة الاقتصادية 1929.

– تكوين مؤتمر الخريجين عام 1938، ومذكرته الشهيرة عام 1942 التي طالبت بتقرير المصير.

– تكوين الأحزاب بعد الحرب العالمية الثانية، وانتزاع الطبقة العاملة لتنظيمها النقابي “هيئة شؤون العمال” عام 1947، وقانون النقابات لعام 1948 الذي قامت على أساسه النقابات وتم تكوين اتحادات العمال والمزارعين والطلاب والشباب والنساء والمعلمين والموظفين التي لعبت دورًا كبيرًا في معركة الاستقلال حتى انتزاعه عام 1956…

 

4

* نشأة وتطور الطبقة العاملة مع قيام مؤسسات الإدارة الاستعمارية الجديدة: السكة الحديد، النقل النهري، الخطوط البحرية، مشروع الجزيرة وبقية المشاريع الزراعية، والصناعات الحديثة، وبعدها انفجرت إضرابات ونضالات الطبقة العاملة السودانية التي ترجع جذورها بعيدًا إلى نشؤها وميلادها في بداية القرن العشرين، فالطبقة العاملة الحديثة الوليدة والتي نشأت مع تلك المشاريع بسبب الاستغلال البشع للاستعماريين كما هو الحال في ضآلة الأجور التي كانت تتقاضاها، إضافة إلى أن عمال الجنوب كانوا يعانون من اضطهاد طبقي وعنصري من خلال نظام الأجر غير المتساوي للعمل المتساوي مع عمال الشمال، كما كانت المرأة تعاني من اضطهاد طبقي وجنسي من جراء الأجر غير المتساوي بين الرجال والنساء، وكان جهاز الدولة الاستعماري هو المخدم الرئيسي والذي كان ينهب خيرات البلاد الاقتصادية ويصدر فائضها الاقتصادي للخارج، وبالتالي كان من مصلحته أن يعيش العمال والمزارعون وصغار الموظفين وبقية القوى الأخرى العاملة بأجر علي حد الكفاف ليجني أكبر قدر من الأرباح.

إضافة لنضال العمال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية، شارك بعض العمال في ثورة 1924، وتعرضوا للاعتقال والتشريد. (للمزيد من التفاصيل عن تلك الإضرابات والمشاركة في ثورة 1924، راجع: تاج السر عثمان: نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية، الشركة العالمية، 2007).

وفي مقال له بجريدة الأضواء السودانية يناير 1969م يذكر الأستاذ محمد سليمان، بعنوان: (صحائف مطوية من تاريخنا الحديث)، إن أولى المحاولات لإنشاء نقابات العمال بدأت في تلك الفترة فيقول: كما كانت ثمة محاولات تجري لتنظيم العمال في نقابات، بل كان هناك اتصال بما يسمى بمجلس العمال المصري لبعض العمال السودانيين وجاء في تقرير المخابرات في شهر يوليو عام 1924 ما يلي: وصلتنا معلومات تفيد بأن حزبا عماليًا قد تكون برئاسة علي أحمد صالح يضم النجارين والبناءين وصناع الأحذية وغيرهم بهدف حماية مصالح العمال، ويقال أن رئيس الحزب يسعي لضم حزبه مع حزب علـي عبد اللطيف).

إذن يمكن القول، أن أقسامًا من الطبقة العاملة الوليدة ارتبطت بأول تنظيم سياسي حديث في السودان قام على شعارات سياسية ووطنية، بعد هزيمة التنظيمات والانتفاضات السابقة التي قامت على أسس دينية وقبلية في بداية القرن العشرين.

 

5

* لم يكن ثوار 1924 بمعزل عن الأفكار التي كانت سائدة في العالم يومئذ، فقد تابعوا ثورات التحرر الوطني كما في: ثورة 1919 في مصر، وثورة الهند، والثورة الروسية 1917، والثورة الصينية الديمقراطية 1911، وأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان التي برزت بعد الثورة الفرنسية، والثقافة الغربية والعربية الإسلامية، وتأثروا بما كان يدور في مصر من معارك فكرية وسياسية، وكان لبعضهم مكتبات كبيرة مثل: عبيد حاج الأمين، وكانوا يتبادلون الكتب سرًا، وكسروا طوق تعليم كلية غردون الضيّق الذي وصفه معاوية محمد نور بقوله: “مناهج التدريس في كلية غردون غريب في رأيه، فليس هناك محال للعلوم الطبيعية أو التاريخ الحديث والآداب، وإنما معظمه تمرين على الآلة الكاتبة أو على شؤون الهندسة العملية والمحاسبة” (معاوية نور قصص وخواطر، ص 34).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.