شكّل الاختراق الذي سجّلته قوات الدعم السريع في 18 كانون الأول الجاري في ولاية الجزيرة إثر سقوط عاصمتها، مدينة ود مدني الاستراتيجية، تطوّراً دراماتيكياً جديداً. الولاية السودانية ذات ثقل اقتصادي وزراعي وموقع استراتيجي يربط بين الشرق والشمال والجنوب. والحدث، الذي قيل إنّ أسراراً وراءه بسبب انسحاب مثير للجدل لقوات الجيش من المنطقة، أطاح بروح التفاؤل التي خرجت بها قمّة استثنائية لقادة ورؤساء دول الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” عُقدت في جيبوتي في 9 كانون الأول الجاري.
جرى الحديث هناك عن لقاء مرتقب بين جنرالَيْ السودان خلال أسبوعين من تاريخ القمّة بما يؤسّس لتفاهمات تقوم على اتفاق بين أصحاب الخلاف شخصياً قبل ترجمته بديباجات سياسية لاحقة. غير أنّ لغة النار ما زالت ديدن المتقاتلين، خصوصاً إذا ما بات القتال ضرورة لتحصيل مكاسب تقوّي أوراق المتفاوضين.
الخيار العسكري هو الفيصل
ما زال الخيار العسكري هو الفيصل في المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وما زال المتقاتلون لا يجدون في المبادرات السياسية العربية الإفريقية الدولية ما يمكن أن يحمل تسوية جادّة لإنهاء الحرب. والأرجح أنّ الطبيعة العسكرية التي قام عليها الطرفان لجهة التميّز بما يمتلكانه من قوة نارية تجعل من الحرب هدفاً بحدّ ذاته لا يجيدان منذ نشوئهما استخدام غيرها سبيلاً لحلّ الصراعات.
الحرب المندلعة بشراسة منذ 15 نيسان الماضي تسبّبت في مقتل أكثر من 10 آلاف شخص ونزوح ما لا يقلّ عن 6.7 ملايين شخص فيما تقدّر وكالات الإغاثة أنّ أكثر من 6 ملايين شخص في السودان معرّضون لخطر المجاعة. والحرب لا تجري بين سلطة ومعارضة أو بين عسكر ومدنيين، أي أنّها ليست بين نقيضين أيديولوجيَّين. وحتى لو أنّ الطرفين يدّعيان الدفاع عن قماشة أيديولوجيّة أخلاقية تبرّر لجوءهما إلى الاحتكام للغة النار والدمار، غير أنّ حقيقة الأمر تفضح انهيار شراكة طويلة تتحدّر من عهد الرئيس السابق عمر حسن البشير بين الجيش والميليشيا، وبين قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (الملقّب بحميدتي)
إذا ما يَعِد حميدتي بالقضاء على “دولة الكيزان” المتناسلة من حكم الإسلاميين في ظلّ نظام “الإنقاذ” في عهد البشير وإقامة الدولة العادلة، فإنّ “قوات الدعم” التي يقودها هي نتاج النظام البائد وتشكّلت بقرار من البشير الذي مأسس وجودها بعدما كانت ميليشيا عربية محلّية تقاتل ميليشيات معادية في إقليم دارفور. وإذا ما يتوعّد البرهان بالقضاء على “الميليشيا المتمرّدة”، فذلك لا ينفي أنّ “الدعم” كانت شريكة للجيش في الإطاحة بالحكم السابق بالانقلاب على البشير واعتقاله وقادة نظامه ثمّ قيادة مجلس السيادة لاحقاً.
للتاريخ فإنّ الجسمين العسكريَّين لم يكونا يوماً جدّيَّين في تنفيذ خطّة طريق تقود إلى تسليم السلطة للمدنيين. كما أنّه كان مستغرباً من القوى المدنية، على الرغم من تنامي شعبيّتها في الشارع السوداني، أن تصدّق أنّ قوّتها باتت توفّر شرعية للانتقال الطوعي من “دولة الاستقلال” إلى دولة مدنية حديثة على منوال ما كان يطالب المجتمع الدولي. وإذا ما يأخذ حميدتي على البرهان قيامه بالانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك في تشرين الأول 2021، فإنّهما في ذلك يتقاسمان مسؤولية الفعل وردّ الفعل وإن اعترف حميدتي لاحقاً بخطأ هذا الانقلاب.
اللقاء الصعب بين الجنرالين
بدا أنّ الاتفاق السياسي الذي وُقّع في 5 كانون الأول 2022 بموافقة ومباركة الجنرالين حضّر المشهد للصراع الكبير. إن يستهجن البرهان ردّ فعل حميدتي من خطة لدمج قوات الدعم السريع داخل الجيش، فإنّ الأمر، على الرغم من طوباوية زوال الميليشيا لمصلحة مؤسسة الدولة العسكرية، هو كلام حقّ، لكنّه مشروع إطاحة بمصالح ونفوذ وحسابات محلية وإقليمية وحتى دولية من المنطقي، تفسيراً لا تبريراً، أن تدافع عن وجودها.
أتت محاولة “إيغاد” بعد أيام على تعليق المفاوضات في جدّة. حضر ممثّلون عن جميع الدول المعنيّة أو المنخرطة في شأن الحرب في السودان أعمال القمّة في جيبوتي، لكنّ جانباً من أسباب استمرار المعارك وتصاعدها قد يكون بسبب خلاف تلك الدول أساساً بشأن مستقبل السودان والسبيل الأنجع لإنهاء القتال. وإذا ما كان المجتمع الدولي بأطرافه، العربية والإفريقية والدولية، عاجزاً عن فرض إرادته على السودان ومتقاتليه، فذلك قد يعود أيضاً إلى غياب هذه الإرادة وربّما غضّ طرف القوى النافذة عن مزيد من حراك الميادين لعلّه يفرض واقع أمر أو إنهاكاً.
على الرغم من صفعة “ود مدني” وانتشار قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة وتعزيز الجيش بالمقابل لقواته شرقاً في ولاية القضارف، لحماية بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقّتة والمعقل الجديد لقادته، فإنّ الطرفين ما زالا يلمّحان إلى خيار التفاوض. يثير البرهان الأمر واعداً “بعدم التوقيع على اتفاق سلام مذلّ”، فيما تستقوي “الدعم السريع” بإنجازاتها العسكرية الجديدة والمحتملة وتشترط للقاء حميدتي بالبرهان أن يحضر الأخير بصفته قائداً للجيش وليس رئيساً لمجلس السيادة. غير أنّ الإنجازات العسكرية لـ “الدعم السريع” قد تغري حميدتي بالاستغناء عن فكرة التفاوض والتعويل على حسم عسكري يفرض الأمر الواقع.
يفرج الميدان كلّ يوم عن مفاجآت، ويعيش البلد على وقع حرب شائعات وتضليل تلمّح إلى احتمالات نشوب صراع داخل الجيش في ظلّ غياب الشفافية عن أداء العسكر واللغط الهويّاتي الذي لحق به منذ خروج قادة من النظام القديم من السجن ورواج حديث “قوات الدعم” عن نفوذ إسلامي يحاصر حراك البرهان ويملي عليه قراراته. وفق ذلك وجب أخذ الحيطة والحذر في تناول شأن بلد شديد التعقيد في بنيانه الاجتماعي والسياسي بحيث يسهل الوقوع في خطايا إطلاق أحكام تعوزها الدقّة والحصافة.
تحمل أنباء المعارك تحريكاً لخطوط المعارك على نحو ينبّه الولايات المتحدة إلى تضخّم فوضى غير محسوبة في موسم حربَيْ أوكرانيا وغزّة. يسهل رصد تحرّك في واشنطن، وعلى مستوى الكونغرس هذه المرّة، لدفع إدارة الرئيس جو بايدن للإمساك بالملفّ مباشرة وتعيين مبعوث جديد خاص لواشنطن إلى هذا البلد والتوقّف عن سياسة الحياد المعتمدة منذ تفجّر القتال في توزيع الملامة على جانبَي الصراع والذهاب بعيداً في السيطرة على الصراع هناك بصفته بدأ يمسّ بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ومصالحها في القارّة والعالم.
تتحدّث مصادر “إيغاد” عن مشاورات تتمّ لاختيار المكان والزمان بشأن لقاء الجنرالين. لكن وجبت هنا قراءة واقع السودان وتعقّد صراعاته في سياق الموقع الجيوستراتيجي للبلد داخل “لعبة الأمم”. ووجب تجنّب التعجّل في قراءة المشهد السوداني من خلال لاعبيه المحليين فقط من دون تفحّص مسارات التنافس الإقليمي والدولي داخل إفريقيا. فإذا ما كانت مصالح دول الجوار منطقية والمصالح الإقليمية مفهومة في سياق ما شهدته المنطقة في العقد الأخير منذ اندلاع “ربيع” العرب، فإنّ المشهد يصبح أكثر شراسة تحت مجهر صراع أميركي غربي روسي صيني يجد في صراع السودانيين ما يمكنه أن يحسّن تموضع الأطراف الدولية على رقعة التوازنات في العالم.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@