الشريك .. المخالف !!
)لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
صدق الله العظيم
.
كتب: د. عمر القراي
.
نقلت الأخبار أن محاولة انقلاب فاشلة، حدثت في فجر يوم الثلاثاء الماضي. ولقد سمعنا بفشل المحاولة قبل أن نسمع لها حساً، ثم علمنا من وسائل التواصل الاجتماعي، أن الانقلابيين وصلوا مبنى الإذاعة والتلفزيون ليذيعوا بيان الانقلاب، ولكن أحد الفنيين رفض أن يقطع لهم الإرسال، بحجة أن رئيسه لم يخبره بإيقاف البث العادي، فما كان من الانقلابيين إلا أن تركوه ورجعوا خائبين دون إذاعة بيانهم مما أفشل انقلابهم !! ثم أن الانقلاب قد كتبت عنه الصحفية “نسرين عمر” قبل أيام، وعلق على مقالها الأستاذ ياسر عرمان، فهل قرأ الانقلابيون هذا، ثم أصروا على تنفيذ انقلابهم في نفس تاريخه المحدد؟! أم قرأ المكون العسكري الأخبار، فقام باعتقال الانقلابيين، قبل أن يصحوا من نومهم، في فجر يوم الانقلاب ؟! لقد دلت خطابات رئيس مجلس السيادة ونائبه، على أن ما تم لم يكن الانقلاب، وإنما كان “بروفة” له، تم التراجع عنها، بسبب رفض المجتمع الدولي لها، ودعمه للتحول الديمقراطي والحكومة المدنية.
ولقد كان المفترض أن يخاطب رئيس مجلس السيادة، والقائد العام للقوات المسلحة، الفريق ركن عبد الفتاح البرهان الشعب السوداني، ويعلن عن المحاولة الانقلابية، ومن الذي قام بها ولماذا قام بها في هذا الوقت بالذات؟ وما علاقتها بحركة تِرك التي قطعت الطريق، ولم يعتقل قادتها؟ ثم تشكل محاكم عسكرية عاجلة، لتبدأ في محاكمة العسكريين الذين قاموا بالمحاولة الانقلابية، وتوجه النيابة العامة بفتح بلاغات ضد المدنيين منهم، على أن تكون المحاكمات علنية ومذاعة، ليعرف الشعب من هم الذين يريدون الإطاحة بأمنه واستقراره، وذلك لأن الانقلاب على حكومة جاءت بها ثورة، جريمة نكراء، وليست حدثاً عادياً، يكون خلاصته تبادل الاتهام بين مكونات الحكومة، بدلاً من الانشغال بالعدو الذي اراد أن يطيح بكلا شقيها. ولقد كان المكان المناسب للوم المكون المدني أو نقده هو الاجتماع المشترك، وليس الإعلام العلني، الذي يشي بالخلاف بين أطراف الحكومة، التي ينتظر منها الاستقرار والإنجاز، حتى تنتهي الفترة الانتقالية.
وعندما ظهر السيد رئيس مجلس السيادة، في حفل تخريج القوات الخاصة بوادي سيدنا، لم يكن يبدو عليه الحزن أو الغضب من الانقلابيين، بل لم ينشغل بهم، وكأنهم فرقة عسكرية قامت بتدريبات، وليس بانقلاب. وبدلاً من إدانة المحاولة الانقلابية، والتشديد على عقوبة من قاموا بها دون هوادة، حماية لأمن الوطن كان خطابه هجوماً على المكون المدني شريكه في الحكومة !!
فبعد أن اتهم الحكومة المدنية بالانقسام والانشغال بالكراسي، وإهمال المواطن، وعدم احترامها للمكون العسكري، قال (مافي زول جا بانتخابات ورغم أنف كل زول نحن وصيين على وحدة وأمن السودان… والقوات دي هي البتحمي التغيير دا وبتسوقو سواقه محل ما دايرة توديهو مافي زول بسوقو تاني)(التيار 23 سبتمبر 2021م). والحقيقة هي أن حكومة الثورة، قد جاءت بإجماع أكبر من أي حكومة منتخبة، في تاريخ السودان منذ الاستقلال. والفريق برهان ليس وصياً على الثورة والثوار، ولا هو وصي على المكون المدني في هذه الحكومة، ليسوقها (محل ما داير)!! ولو سلمنا بأن السيد رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، هو الوصي على أمن ووحدة السودان، فإنه قد فشل فشلاً ذريعاً في القيام بواجبات تلك المهمة. فالسودان لا زالت أرضه في حلايب محتلة بقوات أجنبية، وأمنه مهدد بمجموعة قبلية، لا تمثل إلا شرذمة من الفلول، قطعت الطريق وهناك مجموعات من العصابات، التي سماها المواطنون “تسعة طويلة”، تنهب العزل بالسواطير، لم يستطع القائد العام للقوات المسلحة، أن يوجه فرقة عسكرية بحسمها. ولقد ذكر الفريق البرهان الفوضى التي يقوم بها تِرك فنفى (أن تكون للقوات المسلحة علاقة بما يجري في الشرق والذي وصفه بأنه أحداث سياسية يجب حلحلتها قبل ان تتفاقم)( التيار 23 سبتمبر 2021م). فإذا كان قيام مجموعة متمردة على الشرعية، بقطع طريق قومي، وتهديد سيادة الدولة على أراضيها، ومنع الصادرات والواردات، والسعي لتجويع الشعب، لا علاقة له بالقوات المسلحة، فما هو واجب القوات المسلحة؟ وما هي فائدتها؟ وهل جريمة تِرك عمل سياسي؟ ولقد رفض ترك التفاوض مع الحكومة المدنية، وقبل التفاوض مع الفريق البرهان، فكيف سيحلحلها قبل أن تتفاقم؟!
ومما قاله الرئيس البرهان أيضاً (أين السلام أين الحرية وين راحت الشعارات دي راحت الشعارات دي بين الكراسي وبين الولايات واجبنا أننا ننبه دايرين قوى الثورة والناس الكانوا في ميدان الاعتصام والناس الإخوانهم استشهدوا ومرقوا وناضلو نقول ليهم استنهضوا أقيفوا ما بنقول ليهم ” هبوا أيها الجماهير لحماية ثورتكم” دا كلام ما في زول بقبله. من منو الجماهير يحموا ثورتهم؟ مننا نحن؟ نحن الحارسنها ونحرسها منهم هم ذاتهم العاوزين يختطفوها ديل)(وسائط التواصل الاجتماعي 22 سبتمبر 2021م). إن البلد أعلن فيها عن انقلاب، فما هو الفرق بين أن تقول للشعب “استنهضوا وأقيفوا ” وبين أن تقول لهم “هبوا لحماية ثورتكم” ؟! ولماذا اعتبر البرهان أن كلام الفكي عضو مجلس السيادة يقصده هو؟ فقال “يحموا ثورتهم مننا نحن؟” ولقد ذكر البرهان الشهداء، والذين كانوا في ميدان الاعتصام، فمن الذي قتلهم؟! فلم ير الناس جماعة خرجت من مسجد السيد علي ببحري، تحمل أسلحة وفضت الاعتصام، ولا جماعة خرجت من مسجد الأنصار بودنوباوي، تحمل أسلحة، وفضت الاعتصام، ولا مجموعة خرجت من دار الحزب الشيوعي بالخرطوم اثنين، وفضت الاعتصام. ولا بعثيين، ولا مؤتمر سوداني، ولا أي جماعة مدنية. إن الذي فض الاعتصام قوات نظامية، ولهذا فإن المسؤول الأول عنها هو الفريق البرهان، حتى لو لم يعطها أوامر بذلك. لأنها لو كانت مجموعات خارجة عليه، ثم لم يحسمها، حتى بعد أن فضت الاعتصام، لأنه لا يعرفها، أو غير قادر على حسمها، فهذا أيضاً تقصير الفريق البرهان، وليس قصور المكون المدني في الحكومة.
لقد تحدث في نفس حفل التخريج، الفريق محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، وقائد قوات الدعم السريع، وسار بكل أسف في نفس خطى الرئيس البرهان.. وقال (إن السبب وراء محاولات الانقلاب على السلطة هم السياسيون الذين انشغلوا بالصراع على المناصب وأهملوا المواطن ومعاشه ما خلق حالة عدم رضا وسط الشعب)(الجريدة 23 سبتمبر 2021م). وكان البرهان قد ذكر ضعف مرتبات الجيش وتردي وضعه الاقتصادي.
إن حديث الرئيس البرهان ونائبه حميدتي، ومزايدتهما بالوضع الاقتصادي لا مكان لها.، وذلك لأن أكثر من 70% من ميزانية الدولة، ومنذ العهد البائد، تصرف على القوات النظامية. والشركات التابعة للقوات المسلحة والتي تعمل في كل شئ من تصنيع السلاح والعربات، وحتى بيع البيض والفراخ، تستحوذ على 82% من موارد البلاد، ومع ذلك لا تدفع هذه الشركات التي تربح الملايين، مرتبات الضباط والجنود، وإنما تدفعها وزارة المالية، مما تتحصل من ضرائب ورسوم خدمات، يدفعها المواطن المسكين. أما قوات الدعم السريع، فهي تمتلك شركات لتعدين الذهب، فأين تذهب عائدات الذهب؟! ولماذا يهرب كما ذكر حميدتي من قبل، ومن الذي يهربه عن طريق مطار الخرطوم الذي يجب أن تحرسه قوات نظامية؟! قال السيد محمد إبراهيم الحاج الأمين العام للجنة التمهيدية لاتحاد الصاغة (أكثر من 70% من إنتاج الذهب يتم تهريبه بطرق غير رسمية)(الجريدة 23 سبتمبر 2021م)، ومع ذلك تستلم مرتبات جنود وضباط قوات الدعم السريع، مثل الجيش من وزارة المالية. وهناك الصندوق الخيري لدعم القوات المسلحة، الذي حصل على مبالغ طائلة. فإذا كانت مرتبات الضباط والجنود في القوات المسلحة، وفي الدعم السريع ضعيفة، ووضعهم الاقتصادي مزري، فإن هذا يدل على أن فئة محدودة، من كبار القادة، تستولي على أموال القوات النظامية. ولهذا فإننا نطالب الفريق البرهان، بتكوين لجنة عليا برئاسة المراجع العام، لتراجع أموال القوات النظامية، وتوصي بتحسين أوضاعهم بناءً على نتائج تلك المراجعة.
لقد اتهم الفريق البرهان والفريق حميدتي الحكومة، بالانشغال بمحاصصات الأحزاب عن مشاكل المواطنين، وهو اتهام جدير بالاعتبار من جانب السيد رئيس الوزراء، واتجاه التصحيح فيه لا يتم بالكلام ولكن بوضع الكفاءات المهنية والثورية في مواقع القيادة، والتخلص من الوزراء الضعاف، والمنسوبين للفلول وحلفائهم، والإصرار على تنفيذ الأحكام على قتلة الثوار، وتسليم البشير وزمرته للمحكمة الجنائية الدولية، وتفكيك نظام الفلول البائد ومصادرة الأموال التي نهبها من الشعب، ووضع مشاكل المواطنين اليومية في قمة الأولويات.
إن ما منع الانقلاب من النجاح رفض المجتمع الدولي له، ولذلك فإن مخطط الانقلاب الحقيقي الذي يخطط له الفلول الآن سيتجه إلى المزيد من التفلت والفوضى. فإذا كان الفريق برهان والفريق حميدتي حريصين فعلاً على الشعب، وعلى الفترة الانتقالية، ويريدان ان يثبتا وطنيتهما، فلابد لهما من حسم الفوضى التي يثيرها الفلول الآن عن طريق ترك، والعصابات المتفلتة. وإلا فلن يقنعا أحداً بأن مهمة أمن المواطنين ليست من أولوياتهما، ثم هما مع الثورة والثوار. كما سيتجه تخطيط الفلول الانقلابيين إلى إغراء بعض المدنيين، من أعضاء بعض الأحزاب، ليتواطؤا معهم في الانقلاب القادم، الذي يرتدي رداء إصلاح الحكومة المدنية، حتى يقنع المجتمع المدني بأن ما يحدث ليس انقلاباً على المدنية، بدليل مشاركة بعض المدنيين فيه. ولكن هذا الشعب واعي ولا تفوت عليه مؤامرات الإخوان المسلمين الخائبة.
لقد ساق الله الانقلاب الفاشل، ليعطي السيد رئيس الوزراء الفرصة الأخيرة، لينحاز إلى شعبه بوضوح، ليس بالكلام، وإنماباتخاذ القرارات التي تمثل تطلعاته. أما الفلول فإنهم يحق فيهم قوله تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).