الشَيخْ يُوسفُ أبْشَرَا: بَنكُ الأَطْفال

0 120
كتب: عبد العزيز بركة ساكن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَدِينةُ خَشَّمْ القِرَبَةْ، تلك الحسناء الراقدة علي ضفاف نهر بَاسَلام، أو سيتيت، أو نهر عطبرة، وهي بعض أسماء أعظم نهر في شرق السودان – حيثُ ينبع من الهضبة الإثيوبية، ويصب في نهر النيل عند مدينة الدامر، ويأخذ إسمه وفقاً للغة القوم الذين يمر بأرضهم.
يتوسد رأسُ المدينةِ منطقة “الرميلة” وتفرد شعَرها الأخضر إلي “الشقراب” وقريباً من “الشواك” وسطها في مُشْرَعْ السقايين ورجليها في متنزه الصفصاف.
تلك المدينة الصغيرة الساحرة الإستراتيجية، التي عُرفت في الحرب العالمية الثانية بمعارك طاحنة بين الإيطاليين والإنجليز، وكانت مقابر الجند القتلى إلى وقت قريب ظاهرة علي سطح الأرض قريباً من “وابور الدونكي”وبيت الشياطين.
الان يقع هذا المكان شرق معسكر اللاجئين الارتريين. وقد غنت الفنانة السودانية الشهيرة، عائشة الفلاتية، اغنية تخلد تلك الحرب والمدينة متمنية الخروج الآمن للجنود منها:
“ودوه خشم القربة
يا رب عودة سلامة للعاصمة.”
أجمل ذكريات طفولتي فيها مرتبطة بالشيخ “يُوسف أبشرا” وبالنهر. وأعترف دائماً بحبي لذلك النهر وخوفي منه. وكتبتُ أولى رواياتي وأنا طفلاً يافعاً لم أبلغ الحلم بعد “بعنوان تحت النهر” وهي حكاية عنه وفيه.
ونهر سيتيت عبارة عن مصرف مائي طبيعي دائم الجريان في معظم شهور العام وعند الصيف يتحول الي خُويرات كثيرة توفر المياه للرعاة وتحتفظ بالحياةِ المائية البرية إلى مَوَسم الخَرِيفِ.
بعد بناء خزانٍ للمياه علي مجرى النهر في أوائل ستينيات القرن الماضي تشكلت بُحيرةٌ كبيرةٌ غرب السد منها يُسْتَسَقَى مشروع خشم القربة الذي بُنِي لاستيطان النُوبة المهجرين من أراضيهم في حلفا القديمة من أجل بناء السد العالي واستيطان العرب الرُحَّلْ.
وهذه المرة سوف لا أتحدث عن موسم “دَقْ السمك”، وهو مَوَسِم كما تعلمون شهي، حيث تخرج الأسماك من النهر في أغسطس ويلتقطها الناسُ بالأيدي إلتقاط – ولكنني سأكتب عن السيد “يُوسف أبشرا” ، وهو من الآباء المؤسسين للطريقة القادرية العركية، كما انه جَد الشيخ والسياسي “أزرق طيبة”. والشيخ “يوسف أبشرا” من الذين شملهم قول السيد الحسن لتلامذته ومريديه:
(يا أبنائي من لم يستطع منكم زيارة الحجاز فليزر “أبوحراز” )
وهو يشير إلى مراقد شيوخ القادرية بأبي حراز. وقد كُتبت فيه قصائد تتحدث عن كراماته مثل تلك التي مطلعها:
حباب يوسف أُحباب شرق
البيدرك للمضيق في لمحة برق
وكان هذا الفقيه محبوباً وله شعبية كبيرة، لدرجة أن النساء ما زلنَّ الي يومنا هذا يذكرنَّه في أغنيات البنات والسيرة، مثل:
“جاياك، جاياك يا أبشرا.
جاياك، جايا (أفتو) معاك يا أبشرا.”
وطبعا كلمة “أفتو”، تعني أن أقول لك أسراري كلها، وأستريح منها. فلقد بَيَّنَ الشيخ “يوسف أبشرا” وحَلَّمَ في مدينة خشم القربة. هنالك أغنية سودانية مشحونة بتلك المصطلحات الصوفية، قد تسعفنا في خطف معني حَلَّمْ وبَيَّنْ:
سِيدي الحَسَن حَلَّمْ ….. بخشمو ما اتْكَّلمْ
وفعل يحَلٍّم او يبيَّن يعني ان يَحْلمَ احدُ الصالحين أو المريدين او الأحباب بالمدينة، بأن الشيخ جاءه في المنام وقال له كذا وكذا وأنه يريد مزاراً في الموقع الفُلاني من المدينة، أو ان مكاناً محدداً في المدينة يظهر فيه ضوءُ أخضر، ومن ثم يأتي في المنام لأحدهم ويخبره بان ذلك الموقع هو ايضا أحد مراقده، ويقوم الناس بوضع الأعلام الخضراء والبيضاء ويحيطون المكان بسياج من الحجارة ويعتبر موقعا مقدساً.
من يومها، يُزار بل يُستخدم تُرابه من أجل نَيل البَرَكَةِ وعلاج الأمراض المستعصية، وتحتفظ ربات البيوت بصُرة منه في قماش من الدمور الطاهر، حتى يبعد عن بيتها شرور الدنيا من عين وحسد وجن وأبالسة.
يقع هذا المكان قرب نهر سيتيت عند مدخل مُشْرَع السقايين قريباً من شجرة “اللالوب” العجوز. وكانت النسوة يزرنَّه كل يوم إثنين علي – ما اظن وجمعة- ويتقربنَّ إليه ببعض النُذر من مال وذبائح وبلح وزلابية كل حسب حاجتها، وكلما كبُر الطلب كبُر النذر. وجميع من تزوج في المدينة لابد أن تذهب بهم لواري السَيرة التي تستقدمها عربة تاكسي – يقودها المرحُوم العم “حسن كوكريب” أو المرحوم “العم النيل”، حيث لا تُوجد بالمنطقة غير اللوري، وهذين “التكسيين” – إلي مزار الشيخ “أبشرا” ليباركهم، ومن ثم إلى النهر لنيل بَرَكةٍ أخرى من الماء، وهي عادة ورثها الناسُ من عبادات نوبية قديمة وطقوس نيلية.
والنساء اللائي لم يرزقنَّ بمولود أيضاً ينلنَّ منه حاجتهُنَّ، كما أن مظاليم المدينة من المريدين وغيرهم يأتون اليه في حالة صفاء، ويسرون إليه بما لا يَنْقال لغير حبيب وصديق حميم.
وكانت هذه الزيارات يقوم بها المسلمون جنباً إلى جنب مع المسيحيين من الأحباش والجنوبيين.
وعلي الرغم من إقامته في الدار الآخرة، إلا ان الشيخ يوسف أبشرا، أدخل الكثيرين من الناس في الإسلام، عندما تحققت بكراماته حاجاتهم المستعصية، وأجاب كل ذي سؤالْ – اذ كان الشيخ يوسف أبشرا في مدينتنا سُلطة روحية وإجتماعيه بحب وطيب خاطر وجمال:
علي الرغم من وجوده الرمزي في تلك البُقعة المزيِنة بالأعلام الملونة عند شاطئِ نهرٍ مُهملٍ.
أما نحن الاطفال – في ذلك الوقت – بالنسبة لنا كان مزار الشيخ يوسف “أبشرا “سوبر ماركت” في أوقات الزيارات وبنكاً صغيراً جميلاً مُدهشاً وكريماً في اوقات أخرى، وكنا نستمتع بكراماته النقدية بصورة خاصة – حيث إننا نرتاده في الصباح الباكر جدا مع ورود “السقايين” الي المُشْرع. او قُبيل المغرب عندما تنقطع الارجل من الزيارات يومي الجمعة والإثنين.
ونقوم بتقليب الحجارة وتنقيب الأرض حول المزار في التربه الهشة الرطبة وعند وسطه، وتحت قواعد البيارق والأعلام، لنجد نقوداً من فئة الشلن والقرش والتعريفة بوفرة وكان ذلك يفرحنا جداً ويجعلنا نجري في مجموعات نحو دكان عم النعيم عليه الرحمة لنشتري الحلوى والبسكويت والأنابيب ونحن نحكي لبعض كيف كان ملمس القرش وكيف تمت مشاهدته وهل كان لامعاً، أم به بعض الصدى، أم أنه كان بين حجرين، أو تحت كومة كبيرة من التراب، وبعض ذوي الخيال الثر يتحدثون عن صوت الشيخ “يوسف أبشرا” وهو يدلهم علي مكان الشلن أو الريال وهي عملات كبيرة.
بالتأكيد قد تحدث لي كثيراً ودلني علي نقود ليست في مزاره فقط بل في النهر قُرب مورد الماء في مُشرع السقايين. علي كلٍ، كنت في طفولتي ثَريا خاصة طفولتي المُبكرة، حيث تأتي إليَّ الاشلانُ والقُروش النُحاسيَّة الجميلة اللامعة في أوقات ضيقٍ كثيرةٍ. أما من لَدُنِّ بنوك الأولياء الصالحين مثل “يوسف أبشرا” أو الجن والأبالسة: وتلك قصصٍ وأحاجي اخرىْ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.