العزيمة تقهر الظروف السالبة

0 64
كتب: جعفر عباس
.
ولدت ليز مري في نيويورك في عام 1980 وكان والداها مدمنين للمخدرات، ثم اصيبا بالإيدز، وظلت ترعاهما وهي صبية صغيرة، ثم توفيت أمها وانتقل ابوها الى دار للمشردين، وهكذا وهي في ال15 التحقت ليز بمدرسة ثانوية وأكملت دراستها فيها في غضون سنتين وهي تعيش في الشوارع والحدائق العامة وتلتقط طعامها من مقالب القمامة، ثم حصلت على منحة دراسية في جامعة هارفارد قدمتها صحيفة نيويورك تايمز وواصلت دراستها حتى حصلت على الدكتوراه في علم النفس، وأصدرت عن تجربتها كتاب Breaking Night
الذي صار من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا وبريطانيا، ولديها الآن مؤسسة لرعاية المشردين والمحرومين من التعليم وفرص الحياة الأخرى كما تطوف انحاء العالم لتحفيز الشباب على المثابرة والعمل على قهر الظروف الصعبة
خلال عملي بالتدريس في المرحلة الثانوية كان لي طالب في ذات مدرسة يتسم بالأدب والهدوء و”الهمود” ولم يكن يرفع يده ليطرح او يجيب على أي سؤال وإذا سألته حصلت منه على إجابة مُرضية، ثم علمت من زملائه ان هموده وهدوءه يعود الى تعاطيه البنقو بصورة شبه منتظمة، وأنه ينتمي الى عائلة دون الفقر بكثير وانه ظل منذ سن العاشرة تقريبا يعمل في السوق حمالا او “مرسالا” لكسب بعض المال ثم لما قوي عوده صار يقوم بمهام تفوق امكانياته الجسمانية في مجال البناء، المهم انه وبعد كثير من اللف والدوران استطعت مفاتحته بأنني أعرف ظروفه العائلية وانه يتعاطى البنقو، وأدهشني انه لم ينكر ذلك وأبلغني انه يقضي بعض ساعات كل يوم وهو يعمل في موقع ما، وانه زملاء عمل قدموا له البنقو كي “ينسى” وبالتالي وجد فيه ملاذا. ولم يتطلب إقناعه بالإقلاع عن تعاطي البنقو جهدا كبيرا خاصة وان إدارة المدرسة رتبت له إعانة مالية شهرية
انتقلت من تلك المدرسة الى غيرها وغيرها ثم غادرت السودان، وبعد نحو عشر سنوات كنت في السوق الافرنجي في الخرطوم عندما وقف قبالتي شاب طويل وانيق الهندام دون ان يقول حرفا، فرجعت الى أرشيف ذاكرتي الفوتوغرافية وصحت فيه: يا ابن الإيه.. إيه الحلاوة دي؟ كان ذلك الشاب هو الولد “المسطول” في المرحلة الثانوية وبعد الاحضان والسلام ابلغني انه يحمل بكالريوس محاسبة ويعمل محاسبا لدى شركة خاصة، وأدخل يده في جيبه ومد لي ورقة مالية لا أذكر فئتها قائلا: منذ ان تخرجت كنت أتمنى ان التقيك لأقدم لك هدية ولكنني مسافر غدا الى **** للالتحاق بوظيفة كبيرة.. ثم دارت السنين وعلمت انه نال زمالة المحاسبين القانونيين، ويعمل حاليا في شركة كبرى متعددة الجنسيات (واحتفظت بتلك الورقة المالية سنين عددا)
من أجمل ما قاله لي ان فلان وفلان وعلان في تلك المدرسة الثانوية كانوا أيضا يتعاطون البنقو وانه نجح في إقناعهم بالتوقف عن التعاطي، وأضاف انه كان مندهشا لأنه لم يجد أي معاناة بالتوقف عن التعاطي، ولاحقا شرح لي طبيب نفساني ان الانسان لا يدمن البنقو إلا بقدر ما يدمن السجائر، أي أنه لا توجد آثار جسمانية مرهقة ومؤلمة عند التوقف عن التعاطي كما هو الحال في الكوكايين والهيرويين والكبتاجون والترامادول إلخ
هاتان حكايتان عن شخصين تحديا ظروفا سلبية للغاية، لعل فيهما عظة لمن يدمنون الشكوى من الظروف دون العمل على قهر تلك الظروف و”على قدر أهل العزم تأتي العزائم”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.