النّظرة للعلاقة بيْن دولتَي السّودان من ثُقْب الباب أم من بوابة التّاريخ والجغرافيا والثقافة والمصالح

0 104
كتب: ياسر عرمان
.

في البدء أسمحوا لي ان اتقدم بوافر الشكر لصحيفة الوطن، وللصديق مايكل كرستوفر على هذه اللفتة البارعة ، واتوجه بالتحية لجميع المشاركين من القادة والوزراء وجميع الحاضرين في هذه الندوة التي تأتي بعنوان ( سلام السودان وأثره على استقرار جنوب السودان) ونحن تعلمنا من مجتمعنا واساتذتنا ان يحتل جنوب وشمال السودان نفس المساحة في العقل والقلب والخاطر ، وحبنا لدولتي السودان لا ينقضي ولنا دائماً موعداً مشتركاً حاضراً ومستقبلاً لبناء علاقات استراتيجية بين البلدين وهيهأت ننسى الموعدا.
ودعوني في هذه السانحة ،ان اتوجه بالشكر للوساطة ولحكومة جمهورية جنوب السودان ولشعب جنوب السودان على استضافة مفاوضات السلام السودانية في العاصمة جوبا ، الامر الذي يعد حدثا تاريخيا يقوي ويدفع بالعلاقات المشتركة بين البلدين الى الافضل.
إنّ الالتباس التاريخي الذي صاحب العلاقة بين شمال وجنوب السودان والذي امتدت امواجه لاحقاً الى دولتي السودان هذا الالتباس متجذر في أعماق التاريخ وقضايا البناء الوطني التي واجهت السودان منذ العام 1956 وقبله وتواجه اليوم دولتي السودان معاً .
والسلام في دولتي السودان واثره عليهما وعلى الاقليم والعالم نعتقد انه المدخل الصحيح لندوة اليوم ، فالبلدين يسهمان في سلام كل من الاخر مع خصائص مختلفة لعملية السلام في كل بلد .
عملية السلام الحالية في كل من البلدين ومساهمة قيادة البلدين في كل من العمليتين السلميتين اثرها لن يكون قاصراً على الاستقرار فحسب بل يجب ان يمتد الى ابعد من ذلك ليصب في محاولاتنا المستمرة في انتاج علاقة جديدة تتعافى رويداً رويداً من التباسات وملابسات التاريخ وتستفيد من روابط التاريخ والجغرافيا والثقافة والدم والمصالح بالوصول الى علاقة استراتيجية تؤدي في خاتمة المطاف الى اتحاد سوداني بين دولتين مستقلتين يحترم سيادة كل منهما .
علينا ان لا ننظر من ثقب الباب للعلاقة بين جنوب وشمال السودان فهي اوسع من ذلك بكثير وذات امتدادات عميقة في تاريخ حضارات وادي النيل ودون رد للاعتبار للروابط التاريخية والثقافية بين الشعبين سيكون ثمة امراً ناقصاً في محاولاتنا لاعادة انتاج هذه العلاقة على نحو يتفق فعلياً مع المصالح والروابط والدماء والجغرافيا والتاريخ والثقافة ، فاذا اردنا ان نذهب الى الامام علينا ان ننظر من اين اتينا حتى ندرك الى اين سنذهب .

لاتزال السودانوية تشكل رابطاً لن تمحوه الحدود ،فالسودانوية حبل سري من العلاقات المتصلة بين شمال وجنوب السودان وعلى الرغم من اننا الان في واقع مختلف وفي بلدين ولكن لايزال معظمنا في اعماقه الدفينة سودانوياً ويحن الى السودان الغير موجود الان ، والى الروابط الاستراتيجية بين دولتين التي تمليها المصالح الانية والتاريخية ويمكن ان نرى ذلك بوضوح مثلما كان مايكل انجلو يرى بعينه في الصخرة تمثالاً بديعاً ويسقط الزوائد قبل ان يبدأ في نحت التمثال نفسه، وهكذا عبر عن ذلك مايكل انجلو نفسه ونحت علاقات استراتيجية بين البلدين لن يمر دون عوائق مثل النحت في الصخر ولكنه ممكناً وضرورياً ومطلوباً ، مثلما فعل مايكل انجلو قبل ان ينتج تماثيله من قلب الصخور وهي مادة خام .
ان سلام السودان في جوبا يعطي فرصة اخرى لاصلاح الخطأ التاريخي في العمل السياسي السوداني الذي ادى إلى انفصال جنوب السودان في داخل السودان ومشروعه الوطني القادم وبين دولتي السودان ، فجوبا نفسها كتاب تاريخٍ مفتوح لاخطاء مركز الدولة السودانية ،فلو احسنا التعاون مع قضايا البناء الوطني لما احتجنا الى تأشيرة دخول الى جوبا.
ونحن في جوبا تطوف وتحوم حولنا في هذه القاعة ارواح بنجامين لوكي زعيم حزب الاحرار، وهو القادم من لانجا ودائرته الانتخابية التي تبعد عدة اميال من جوبا، والقس سترلينو من شرق الاستوائية وفرانكو ويل قرنق من واو بحر الغزال وبوث ديو وبولنت الير من أعالي النيل ، الذين تناولوا قضايا البناء الوطني في افادات جريئة وقوية من داخل البرلمان الاول واعمامنا هؤلاء الباذخين لو استمعنا اليهم؛ لما كان هذا حالنا ولازال ماقاله فرانكو ويل قرنق عن أنهم لايضمرون الشر بالسودان وان امر السودان لن يستقيم مالم يستقيم امر الجنوب وانه دون الاستجابة لمطالب الجنوبين فان الجنوب سيخرج مثلما خرجت باكستان من الهند ، كان ذلك قبيل بزوغ فجر الاستقلال ، ولا زال سلام السودان يواجه نفس المعضلات القديمة والمتجددة في كيفية الوصول الى عملية جادة وجدية للبناء اللوطني قائمة على المواطنة بلا تمييز ،ولذا فان مساهمة جمهورية جنوب االسودان ليست مهمة فقط من زاوية استقرار جنوب السودان بل مهمة من زاوية الوقائع السودانية نفسها وتجنب اخطاء الماضي ،بما في ذلك تصحيح الاخطاء السياسية الفادحة بين دولتي السودان واستعادة العلاقة الاستراتيجية بينهم برؤية صافية مدخلها السلام في البلدين.
أهمية المفاوضات في جنوب السودان ترتبط باهمية العلاقات بين دولتي السودان نفسهما ،فجنوب السودان هو الدولة الوحيدة في الاقليم التي تجاورنا جغرافيا وذات علاقة عضوية بالثلاث المناطق التي تدور فيها الحرب في السودان ( النيل الازرق ، جبال النوبة / جنوب كردفان ، دارفور) وجنوب السودان يربطه النيل والتاريخ والثقافة والقيم والمصالح والحدود والامن القومي والمستقبل المشترك بالسودان .
ان عملية السلام الحالية هي فرصة لتحويل الكارثة في علاقات البلدين الى منفعة، وتحويل الانفصال الى اتحاد سوداني بين دولتين مستقلتين ، ان حدود البلدين لايفصلها بحر او محيط بل تضم أكثر من 10 مليون من الرعاة على ضفتي السودان وهي حدود كانت مربوطة بالنقل النهري والسكك الحديدية والطرق وهي حدود تمتد على مدى أكثر من (2018 كيلو )وتشكل اهم حدود للامن القومي في الدولتين ، وربما كانت تساوي طول الحدود الدولية بين دولة جنوب السودان وبقية البلدان الاخرى، ان جنوب السودان يمكن ان يتبادل اكثر من ( 137 ) سلعة من دولة السودان ، كما ان منتجات جنوب السودان الذي يماثل مناخه شرق افريقيا ستجد سوقا ارحب في دولة السودان ،وعلينا أن نستعيد روابط النقل النهري والبري والسكة حديد حتى يزدهر اقتصاد كلا البلدين .ان دولتي السودان لديهما اكثر من 140 مليون فدان صالح للزراعة واضخم ثروة حيوانية في القارة الافريقية والذي ينقصنا هي الرؤية والعبور نحو علاقات استراتيجية على اسس جديدة .
ان الازدهار والانهيار المتزامن هو ايضا مصير البلدين وعليهما ان يزدهرا لا ان ينهارا ، أن مشروع السودان الجديد الذي خرج من جنوب السودان اولاً هو مورد اخر للربط بين البلدين ، وهو عملة صالحة للتداول كما برهنت ثورة ديسمبر المجيدة في السودان .
ان الربط الاقتصادي والامن والدفاع المشترك هي اجندة لكلا البلدين وقابلة بان تطور سياسياً الى اتحاد سوداني بين البلدين .
ان الاتحاد السوداني يمكن ان يتطور الى شراكة اقليمية تضم لاحقا تشاد واثيوبيا وارتريا ومصر ، وكينيا وليبيا وافريقيا الوسطى والكنغو ويمكن ان يسهم في اطار العلاقات الافريقية العربية العريضة ويمكن ان يهد كثير من جدار العزلة .
ان جنوب السودان غنيٌّ بانسانه وثقافاته قبل ارضه ومع ذلك فمساحته الجغرافية اكبر من يوغندا ورواندا وكينيا معا وان دولتي السودان معاً اذا نظرنا لهما بعين مليون ميل مربع وليس من ثقب الباب فهما الاكبر مساحة في كل افريقيا .
ان الاتحاد السوداني ذو قابلية لان يتحول الى اتحاد اقليمي وهو عنوان المستقبل بين البلدين ، ان دولتي السودان بمساحاتهما الزراعية الهائلة وأراضيهم الصالحة للزراعة هما من بين ثلاثة بلدان هي كندا واستراليا ودولتي السودان الذين بامكانهم توفير الطعام للبشرية كلها وللكرة الارضية مجتمعة وهذا يكشف بجلاء اهمية دولتي السودان .
ان القتال الذي يدور بدولتي السودان هو على حساب المستقبل لسكانهما ، وسكان دولتي السودان معاً لا يزيدان عن اكثر من 50 مليون نسمة بينما اراضي السودان قابلة لان يعيش فيها اكثر من 500 مليون نسمة ولذا فان الحروب تشكل خطراً على الوجود الاستراتيجي لسكان البلدين ، ومصالحهما الاستراتيجية ولذا فان السلام والتقدم نحو مشروع وطني ديمقراطي جديد قائم على المواطنة بلا تمييز هو مربط الفرس.
في لقاءاتنا هذه الايام مع قوى الحرية والتغيير اقترحت ان تقوم الجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير والوساطة بزيار لقبر عبيد حاج الامين في واو وهو احد اهم قادة ثورة 1924 ونحن على اعتاب الذكرى المائة لهذه الثورة العظيمة وثورة 1924 هي راسمال وطني ورمزي ومادي وكثير من قادتها ينحدرون من الشمال والجنوب وعلى راسهم الزعيم علي عبد اللطيف الذي امضى في السجن والمصحة سنوات تزيد على تلك التي امضاها ايقونة التحرر والنضال نيلسون مانديلا والشهيد القائد عبد الفضيل الماظ، الذي استشهد وهو ابن 28 عاماً ، وبينما تضم مدينة واو قبر عبيد حاج الامين وتضم الخرطوم قبر عبد الفضيل الماظ والقاهرة قبر علي عبد الطيف فان النيل وفروعه تضمهم جميعاً.
ان خروج الجنوبين من السودان وغيابهم مثل غياب ملح الطعام ، وان الجنوبين ايضاً يفتقدون الى حدود بعيدة دفء العلاقات التي ضمتهم مع الشمال فعلاقتنا لم تكن كلها تدور حول الحرب بل بها جوانب اكثر انسانية وتغوص في التاريخ والثقافة والدماء وتحتوي على كثير من الخير ، بل ان الحرب نفسها اذا تم كتابة تاريخها فرغم قبحها فقد احتوت على كثير من القيم الانسانية المشتركة وعكست انسانيتنا في بعض جوانبنا في اسوأ ظاهرة بشرية وهي الحرب ، فكم من الرجال والنساء الشجعان الذين ضمتهم ساحات الوغي من دولتي السودان .
ان الدولة الوطنية السودانية استمدت كثير من مواردها الوطنية في مجالات الثقافة والموسيقى والفن والعسكرية والمهنيين والفنيين والتمريض والتعليم والخدمة المدنية من مساهمات شارك فيها مواطني الدولتين وقدموا عرقهم ودمائهم وعلى الرغم من ان المصانع التي انتجت تلك الشخصيات الرفيعة قد اغلقت ابوابها ولكن لايزال الامل معقود باستعادة العلاقات .
ان من أهم الاشياء في وساطة جمهورية جنوب السودان لسلام السودان ان جنوب السودان لامطامع له تضر بالمصالح الوطنية العليا للسودان ، ومصالحه الفعلية هنا هي تصدير البترول والوصول الى معالجة حروب جمهورية جنوب السودان الداخلية ، ان السودان يمتلك كثير من الخبرات التي يمكن ان تساعد في بناء الدولة في الجنوب وهم الاقرب الى نفسية الجنوبين الاجتماعية كما ان دولتي السودان بامكانهما من خلال علاقة مشتركة ان يعززا الاستقلال والسيادة في الدولتين . وكما عبر الشهيد جوزيف قرنق في احدى عباراته السديدة حول طبيعة العلاقات بين النظام الجائر الاقتصادي العالمي والاستغلال داخل الدولة الوطنية “ان الذي يهرب من الاستغلال الوطني الى الاستغلال العالمي كمن يهرب من بيت المرفعين الى بيت الاسد ” ولذلك فان دولتي السودان تحتاجان بعضهما البعض لمواجهة هذا العالم المضطرب ومشاريع الاستغلال العالمي .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.