الهجرة العكسية ..الريف يفتح ذراعيه لسكان الخرطوم

0 120

الخرطوم، أو العاصمة “المثلثة”، كما يسميها السودانيون، ترتسم عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض وهما يندمجان معاً في نهر النيل، ليجسدا عند مفترقاتهما لوحة مدنها الثلاث: الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان، ويبدو أنها على الرغم من هذا البهاء الظاهري، لم تعد تحتمل كثيراً من سكانها، بعد الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السودان حالياً، وباتت مكاناً غير ملائم للعيش بالنسبة لعديد من أصحاب المداخيل المحدودة من الموظفين وغيرهم، ممن عجزوا عن تأمين تكاليف الحياة اليومية، خصوصاً بعد أن شهدت أسعار ايجارات المنازل والشقق تصاعداً جنونياً في الآونة الأخيرة.

جنون الإيجارات وتآكل الأجور وتصاعد التضخم تدفع السودانيين للعودة إلى قراهم

تزايد معدلات الهجرة إلى الريف

تزايدت في الآونة الأخيرة معدلات ما يعرف بالهجرة العكسية من العاصمة الخرطوم إلى القرى والأرياف بشكل ملحوظ، بسبب الارتفاع الجنوني لإيجارات المنازل والشقق، بنسبة تجاوزت 400 في المئة، فضلاً عن الزيادات المستمرة في أسعار السلع الأساسية ومعظم الخدمات، إذ طال الغلاء كل تكاليف المعيشة اليومية، بصورة جعلت الحياة بالعاصمة أصعب بكثير من أن تتحملها الطبقات الفقيرة، وحتى الوسطى منها، فصار الريف هو الملاذ الأكثر رأفة، والأقل تكلفة لمعظم تلك الشرائح.

وشهدت ولاية الخرطوم في السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في الكثافة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يقدر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى أصبحت تكاد تضم ربع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة)، على محليات ولاية الخرطوم السبع، وصل معظمهم إليها من الولايات أخرى، بحثاً عن الرزق.

وأصبح سكان الخرطوم اليوم مزيجاً من الموظفين العموميين ورجال الأعمال والمال والفقراء وأصحاب المهن الهامشية وموظفي القطاع الخاص والبنوك، إلى جانب شريحة كبيرة من أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة، أما الذين هاجروا أو نزحوا إليها، فقد امتهنوا في الغالب مهناً مغايرة، بعد أن كانوا حتى الأمس القريب من العاملين بالزراعة أو الرعي يمدون العاصمة باللحوم والخضار والفاكهة والألبان والأسماك.

تآكل الدخل وتصاعد الإيجارات

وتوقع الأمين العام للمجلس الأعلى للأجور، عماد داوود، أن تتناقص مساهمة الأجور في تكلفة المعيشة بدرجة كبيرة جداً، مع ثبات الأجور والارتفاع الكبير لمعدلات التضخم وتجاوزه نسبة 250 في المئة، إذ لا يتجاوز الحد الأدنى للمرتبات حتى اليوم مبلغ 3000 جنيه سوداني (نحو 10 دولارات)، ما يعني أن معظم العاملين في القطاع العام أصبحوا تحت خط الفقر. ووصف داوود وضع القطاع الخاص بأنه أسوأ بكثير من العام، لأن الحد الأدنى للأجور فيه لا يزال 425 جنيهاً فحسب (نحو 1.5 دولار)، بالسعر الموازي.

وكشف الأمين العام للمجلس الأعلى للأجور عن أن دراسة غير رسمية معتمدة على بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في شهر مايو (أيار) 2020، قدرت تكلفة الحد الأدنى للمعيشة بنحو 28.000 جنيه (93.5 دولار)، بالسعر الموازي، لتشكل مساهمة الحد الأدنى للأجور فيها بذلك نسبة 10 في المئة فقط، من إجمالي الاحتياجات الكلية للعامل أو الموظف العام في الشهر.

السكن الجماعي

الموظف سامي عبد الله، من الذين أرسلوا أسرهم إلى القرية، أما هو فقد انتقل إلى سكن جماعي عبر الانضمام إلى مجموعة أخرى من الزملاء تشاركوا في السكن بغرض توفير قيمة الإيجار، وإرسالها إلى عائلاتهم في الريف لتغطية تكاليف المعيشة.

ويبرر مالكو الأبنية زيادات أسعار إيجار الشقق بارتفاع أسعار مواد البناء، والتصاعد الكبير الذي تشهده الأسواق يومياً في أسعار المواد الاستهلاكية.

ربط قيمة الإيجار بالدولار

وعن مبررات الارتفاع الجنوني لإيجارات الشقق والمنازل في الخرطوم، يوضح حمزة أحمد، الذي يعمل في إحدى وكالات العقارات بالخرطوم، أن معظم مالكي الشقق السكنية المفروشة وغيرها يعتمدون بصورة أساسية على عائدات الإيجارات لتأمين معيشتهم، وأصبح المالك يربط قيمة الإيجار بالزيادة المطردة للدولار في السوق الموازية، فضلاً عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الحكومية، لذلك، يضيف أحمد، أن أسعار إيجار الشقق والمنازل عموماً في أحياء الخرطوم المختلفة شهدت زيادة كبيرة جداً.

قانون الإيجار لا يواكب الوضع الاقتصادي

وأوضح المحامي السمؤال إبراهيم الدسوقي أن “قانون الإيجارات الساري يقر زيادات سنوية في قيمة الإيجار (10 في المئة) سنوياً، لكنها ليست النسبة ذاتها التي تتصاعد بها الأسعار، ومع ذلك، فقد سعى القانون لحفظ حقوق الطرفين، برفع الضرر عن المالك من دون إهدار حقوق المستأجر، لكن التطورات الاقتصادية الأخيرة وموجة الغلاء التي صاحبتها ضغطت على كل الأطراف، فأصبحت كلتاهما ضحية الوضع الاقتصادي، فالمالك يسعى للحصول على ما يقابل الزيادات لتلبية احتياجاته من خلال عقاره الذي هو مصدر دخله، بينما يسعى المستأجر إلى مأوى يتناسب مع دخله”.

وأسف الدسوقي لكون الحكومة لا تملك وحدات سكنية عامة للحد من المنافسة، كما أن السياسة العامة باتجاه الاقتصاد الحر تفتح حرية القطاع الخاص للعمل بآليات السوق، مشيراً إلى أن ظهور السكن التشاركي من أبرز إفرازات الأزمة الراهنة، إذ لجأ كثيرون إلى إرسال أسرهم إلى الريف حيث الحياة أقل وطأة.

الحل المعقول والعودة الظرفية

وصف أستاذ الإدارة والدارسات الاستراتيجية في الجامعات السودانية، أمير المأمون، ظاهرة عودة الكثيرين من الخرطوم إلى الريف بأنها ناتجة عن الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها السودانيون عموماً بسبب ارتفاع نسبة التضخم، مشيراً إلى أن الظاهرة تبدو على الأرجح ظرفية أو مؤقتة، إذ سيظل الريف هو الطارد، طالما ليست هناك مشاريع تنمية ريفية حقيقية، وإلا فإنهم سيعودون إلى الخرطوم من جديد طلباً للعلاج والتعليم وفرص العمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.