بيني وبين الكوز أبراهيم أحمد عمر لمحة مبكرة من ظلم الكيزان ونفاقهم

0 112
كتب: د. الباقر العفيف
.
عندما ألقي القبض على الدكتور إبراهيم أحمد عمر في السادس والعشرين من يونيو الماضي كان قد مرّت ثلاثون عاما بالتمام والكمال على أول وآخر اتصال بيني وبينه. كان ذلك في يونيو ١٩٩٠، بعد مرور عام واحد على الإنقاذ. فكتبتُ عن ذلك اللقاء وما دار فيه من حديث. كان ذلك اللقاء يُمَثِّل بالنسبة لي مناظر الفيلم الذي شهدناه في الثلاثين عام التي تلت. ولكني لم أتمكن من وضع ما كتبت حينها في صفحتي لأسباب فنية. اليوم أشرككم فيه.
في أوائل يونيو ١٩٩٠ كنتُ مسافرا لبريطانيا في بعثة دراسية من جامعة الجزيرة على نفقة المجلس الثقافي البريطاني. فمُنِعتُ من السفر وأُرجِعتُ من المطار. وعندما أبلغتُ المجلس البريطاني بالأمر في اليوم التالي، قالت لي مديرته بكل ثقة، سأتصل بالدكتور أبراهيم أحمد عمر، وكان حينها وزير التعليم العالي، فهو سيعالج هذه المشكلة. وعندما رأت الشكوك تنتابني قالت لي “أنا أعرفه. نحن نتعامل معه. وهو رجل محترم ومتعاون معنا”. وبالفعل اتَّصلتْ به تلفونيا على التو. وسمعتُها تقول له “يبدو أن رجال الأمن بالمطار أرجعوا أحد طلابكم المستفيدين من مشروعنا”. فطلب منها أن أحضر لمقابلته في نفس اليوم.
فطلبت السيدة المديرة من أحد كبار مساعديها أن يصحبني في المقابلة. ولدهشتي أبدى الدكتور أبراهيم أحمد عمر مرونة مذهلة أمام ممثل المجلس البريطاني ووعده خيرا. وطلب مني أن أعود لمقابلته صباح اليوم التالي حيث يكون وجد حلا للمشكلة. وعندها شكره ممثل المجلس البريطاني قائلا: “إذن نراك غدا”، فبادره الوزير بقوله: “لا لا.. أنت لا تحتاج أن تجيء معه. دعه يجيء لوحده. الموضوع بسيط”.
وعندما جئته اليوم التالي وحدي، رأيتُ شخصا مختلفا تماما. اختفت كل ملامح التمدين والاحترام التي ارتداها قناعا في اليوم السابق. وحلت محلها نظرات الكراهية والعدوانية. وأول ما دخلت المكتب وسلَّمت عليه بادرني بالقول: “أسمع هنا. إنت رجعوك من المطار ليه”؟ فتجاهلت طريقته العدوانية وأجبته بكل الاحترام بأنني لا أدري. وأعدتُ على مسامعه القصة كما حكيتُها له في اليوم السابق بحضور ممثل المجلس البريطاني. قلت له: “أنا سألتُ ناس أمن المطار هذا السؤال، قلت لهم ليه منعتموني من السفر؟ قالوا لي: “لو عايز تعرف أمشي لرئاسة الجهاز الأمن، وهناك سيخبرونك بالأسباب”. “وأنا مشيت لرئاسة الجهاز وحولوني للأمن السياسي فلم يجدوا شيئا، وحولوني للأمن الاقتصادي وكل أقسام الأمن الأخرى ولم يجدوا عليَّ شيئا. وفي النهاية قالوا لي صراحة أن توقيفي لم يصدر منهم.
فقال لي السيد الوزير: “معقول يرجعوك سااااكت كده؟ خلينا نكون صريحين إمكن إنت شيوعي”.
أوشكت أن أقول له “شرف لا أدعيه وتهمة لا أنكرها”، ولكن الموقف لم يكن يحتمل المزاح. ابتسمتُ في دواخلي وجالت بخاطري أفكار ومشاعر متضاربة. فيها التي تحفزني على المواجهة وفيها التي تدعوني للصبر والتعقل. قلتُ لنفسي لو اطَّلع هذا الرجل على دواخلي لأدرك أن حدسه لم يخطئ تماما. وبالرغم من أن سهم تكهناته لم يصب قلب الدائرة إلا أنه أصاب حواشيها، فالشيوعيون والجمهوريون كلاهما عنده هو وقبيله أكبر الأعداء.
أدركتُ أن موضوعي “مخستك” وحكايتي “بايظة خالص” مع هذا الرجل، بعد أن أسقط القناع عن وجهه الحقيقي. أعطاني هذا الإدراك قدرا كبيرا من الجرأة. امتلأتُ بالإثارة وتملكني حب استطلاع كبير.
وبعد فترة صمت أحس هو معها أنني استغرقت في التفكير والتأمل، قلت له “والله يا دكتور أنا ما حأنفي أني شيوعي. تعرف ليه؟ لأنه ما مفيد. السبب بسيط هو إنك ما حتصدقني. فلو أنا نفيت، إنت حتقول ده شيوعي كضاب وجبان. أنكر شيوعيته عشان نخليه يسافر. حتى لو أنا حلفت ليك على المصحف حتقول ده شيوعي ما عنده دين ولا تقديس للمصحف. إذن كدا كدا أنا خسران القضية. لكن أنا عندي سؤال ممكن أسأله؟” قال لي منتهرا “قول، سؤالك شنو”؟ قلت له: “كدي النفترض الأسوأ وأني طلعت شيوعي. الشيوعي ده لو مسك خشمو عليهو وما عمل أي حاجة ضد الحكومة ومشى في حال سبيله ليرعى أهله وأسرته، برضو يعاقبوه؟”
هنا تلبَّست الرجلَ روحٌ شريرةٌ، وتطاير الشرر من عيونه وكست ملامحه كراهية قاتلة. وقال لي: “الشيوعي ده لو فتح خشمو أو ما فتحو نسحقو بالجزمة كدا” كاشطا الأرض برجله كمن يسحق حشرة تحت حذائه بالفعل. خرجتُ من مكتبه وأنا أتصور كيف يكون الحال لو عرف أني جمهوري؟
أمنيتي أن أقابله اليوم بعد ذهاب ملكه وصولجانه لأذكره بالأمس الذي سلفا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.