تَوَابِيْتُ المُتْحَفِ!

0 107
.
روزنامة الأسبوع

الإثنين

الرِّسالة التَّالية التي أعيدُ نشرَها، هنا، لأهميَّتها الاستثنائيَّة، كان بعث بها إلى الرُّوزنامة الأستاذ عبد الحميد عبد الفتَّاح، الإذاعي السَّابق براديو أم درمان، وأحد أبرز الإعلاميِّين المشاركين في ثورة أكتوبر 1964م، كما وأنه، بالمناسبة، هو مَن أطلق بصوته نداء «ليلة المتاريس» يستنفر الجَّماهير كي تهبَّ لحماية ثورتها، في مواجهة الجَّنرالات الذين كانوا يتربَّصون للانقلاب عليها! أمَّا في رسالته هذه فإنه يلقي بدفقة ضوء جديدة على سبب إحجام قادة 19 يوليو عن إعلان اختطاف طائرة الشَّهيدين بابكر النُّور وفاروق حمدالله، صباح 22 يوليو، وهما في طريقهما من لندن إلى الخرطوم؛ وفي ما يلي نصُّ الرِّسالة:
«الأستاذ الجليل كمال الجزولي، لك التحيَّة، قرأت مقالك تحت عنوان «فتوق بانتظار الرَّتق»، وسؤالك حول ملابسات عدم إعلان قادة 19 يوليو، خلال مخاطبتهم للموكب الذي احتشد يؤيِّدهم بميدان القصر، صباح 22 يوليو، عن اختطاف القذَّافي لطائرة الخطوط البريطانيَّة القادمة من لندن إلى الخرطوم، وعلى متنها اثنان من أهمِّ رموز الحركة، بابكر النُّور وفاروق حمدالله. وبحسب معلوماتي، فإن السَّبب يرجع إلى الجِّهات الأجنبيَّة التي تآمرت ضدَّ الحركة، بمشاركة السَّفير المصري الذي كان على علم بخطَّة التَّحرك بعد الظهر، واستبقه، لضمان نجاحه، بأن ذهب، في الصباح، إلى الرَّائد هاشم العطا، وطلب منه عدم الإشارة إلى الحادثة، حفاظاً ـ كما زعم ـ على أمن السُّودان، وسلامة السَّفارتين الليبيَّة والمصريَّة، والعاملين فيهما! وألمح لاتِّصال السَّادات بالقذَّافي لإطلاق سراح الرَّجلين! وقد علمت بتلك التَّفاصيل من خلال عملي في قسم الأخبار بالإذاعة السُّودانيَّة، رئيساً لورديَّة صباح 22 يوليو، حيث بدأنا البثَّ في موعده المعتاد، وقدَّمنا نشرة السَّادسة والنِّصف، متضمِّنة التَّنويه بالموكب الذي سيخاطبه هاشم في العاشرة. لكن منذ حوالي الثَّامنة والنِّصف بدأت تلفونات القسم تنقل تساؤلات المستمعين عن حقيقة الحادثة! ولمَّا لم نكن نشفي غليلهم بدأوا يتَّجهون إلى الإذاعات الأجنبيَّة، الأمر الذي وجدتُّه لا يليق، فاقترحت على المدير، وقتها، المرحوم صالحين، إذاعة الخبر الذي تتداوله الإذاعات الأجنبيَّة، بينما تلتزم أمدرمان الصَّمت حياله! فأمرني بالإنتظار ريثما يتَّصل بعلي شمُّو، وكيل الإعلام. بعدها اتَّصل بي صالحين ليخبرني بأن شمُّو اتَّصل بهاشم الذي أخبره بزيارة السَّفير المصري، وطلبه، كسبب لعدم إعلان الحادثة! هكذا واصلنا الصَّمت، وانفضَّ الموكب، وخلت الشَّوارع، فنُفِّذت مؤامرة إعادة نميري»!
وفي الختام طلب منِّي عبد الحميد الاتِّصال بعلي شمُّو لتدقيق الرِّواية. وبالفعل اتَّصلت به فأفاد بالآتي: «كان مقرَّراً للطائرة الهبوط بمطار الخرطوم في السَّادسة صباح 22 يوليو، فكلفت فريقاً إعلاميَّاً بقيادة صالحين لتغطية الحدث. لكن صالحين عاد ليخبرني بأنهم علموا من برج المراقبة أن الطائرة أرغمت على الهبوط في ليبيا، وسألني عن إمكانيَّة إذاعة الخبر، فقلت له: علينا انتظار وروده من مصدر رسمي، إذ لا يمكننا الاستناد فقط إلى برج المراقبة. أما ما دار بين صالحين وعبد الحميد فلا علم لي به».

الثُّلاثاء

سعى البرهان لتقليد تجربة السِّيسي حذوك النَّعل بالنَّعل، أو «كوبي بيست» بلغة الكومبيوتر! فالأوَّل طلب «تفويضه» لحلِّ «مشكلة» تولي «الإسلامويِّين» حكم مصر، والآخر طلب «تفويضه» لحلِّ «مشكلة» تولي «المدنيِّين» حكم السُّودان؛ الفرق الوحيد هو أن السِّيسي قدَّم طلبه للشَّعب، بينما قدَّم البرهان طلبه للجَّيش، كما وأن الأخير بدا متعجِّلاً، وهو يقول، بلا تبصُّر، ولا كتاب منير: إذا فوَّضتموني سأستجيب فوراً .. فتأمَّل!

الأربعاء

رغم أن شوارع باماكو ظلت تغلي بالمظاهرات المطالبة برحيل الرَّئيس إبراهيم بوبكر كيتا، إلا أن انقلاب 18 أغسطس 2020م الذي اعتقله، وأُجبره على الاستقالة، دفع مجلس السِّلم والأمن بالاتِّحاد الأفريقي لتعليق عضويَّة مالي حتَّى استعادة النِّظام الدُّستوري، تبعاً لمقرَّرات «إعلان لومي 2000م». وفي الحقيقة ليس متصوَّراً أن يتردَّد الاتِّحاد الأفريقي في تطبيق ذلك «الإعلان» الذي أكَّد احترام القواعد الدُّستوريَّة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، لضمان المشاركة الشَّعبيَّة في الحكم، خاصَّة أن «القانون التَّأسيسي للاتِّحاد»، الذي أعقب «منظمة الوحدة»، أعطى «الإعلان» دفعة قويَّة برفضه لأيِّ تغيير غير دستوريٍّ في أيٍّ من بلدان القارَّة، كما أباح للاتِّحاد التَّدخُّل في أيَّة دولة تطرأ فيها «ظروف خطيرة»! بالإضافة لذلك فإن الاتِّحاد يملك، بموجب «الميثاق الأفريقي للدِّيموقراطيَّة والانتخابات والحكم» معاقبة الدَّولة العضو التي يقع فيها انقلاب، أو تمرُّد مسلح يطيح برئيسها الشَّرعي، أو يرفض رئيسها الذي يخسر الانتخابات تسليم السُّلطة لخلفه!
لكن الواقع، للأسف، يخالف هذه القاعدة! وبتعبير أدقٍّ، فإن تعامل الاتِّحاد مع الانقلابات ليس متَّسقاً دائماً. فرغم أن معايير «لومي» واحدة، إلا أنه ظلَّ يتَّخذ مواقف صارمة في حالات، ومتساهلة في أخرى! وبمراجعة قائمة الانقلابات، النَّاجح منها والفاشل، خلال العقود الثَّلاثة الماضية، نجد أشهرها انقلاب يحيى جامع في غامبيا، والذي أطاح بداودا جاوارا، في يوليو 1994م، ثمَّ ظلَّ يفوز بكلِّ الانتخابات الرِّئاسيَّة، في نموذج فريد للاستبداد، يُسمَّي بموجبه «معالي الشَّيخ الأستاذ الحاج الدكتور يحيى عبد العزيز غونكونغ جيموس جامع»، ويتولى، إلى ذلك، العديد من المناصب، وزيراً للدِّفاع، وقائداً لأركان الجَّيش، ويروِّج، فوق ذلك، لقدرته على علاج أمراض، كالإيدز، والرَّبو، دَعْ سمعة نظامه السَّيِّئة في المتاجرة بالدِّين، وفي انتهاكات حقوق الإنسان، والتي، بسببها، أدانت منظمة العفـو الدَّوليَّة غامبيا عام 2000م، كما أدانتها «محكمة العدل التَّابعة للجَّماعة الاقتصاديَّة لدول غرب أفريقيا ـ إيكواس» عام 2013م، وكانت نفس المحكمة قد رفضت الاعتراف بفوز جامع في الانتخابات الرِّئاسيَّة عام 2011م! بالمقابل، نجد محاولة المرتزقة الأجانب إسقاط أوبيانغ نغيما، في غينيا الاستوائيَّة، عام 2004م، وتنصيب آخر يساعدهم في إحكام قبضتهم على نفط البلاد! كذلك حاول الجَّنرال نيومباري الانقلاب، في بوروندي، في مايو 2015م، على الرئيس نكورونزيزا، أثناء زيارته لتنزانيا، بمنع طائرته من دخول المجال الجَّوِّي البوروندي، لولا أن الرَّئيس استطاع الدُّخول في اليوم التَّالي، فأفشل المحاولة! ولئن كان البشير، في السُّودان، هو آخر الرُّؤساء الذين سقطوا، خلال السَّنوات القليلة الماضية، بتدخُّل مباشر، أو غير مباشر، من جيوش بلادهم، إثر اندلاع الثَّورة في ديسمبر 2018م، وانحياز الجَّيش لها، لتنتصر في أبريل 2019م؛ فقد سبقه كومباوري في بوركينا فاسو عام 2014م؛ بالإضافة لجامع في غامبيا عام 2016م، وموغابي في زيمبابوي، عام 2017م.
ومع أن الاتِّحاد الأفريقي ملتزم، نظرياً، كما أسلفنا، بالرَّفض الحازم للأساليب غير الدُّستوريَّة في تغيير الأنظمة، لكنه لم يفعل ذلك في كلِّ الأحوال! وفي تحقيق استقصائي أجرته الواشنطن بوست، استندت إلى بحث أستاذ العلوم السِّياسيَّة توماس تيكو الذي وجد مصطلح «التَّغييرات غير الدُّستوريَّة» واسعاً بما يوفِّر للاتِّحاد أن «يستنتج» ما إن كان «التَّغيير» دستوريَّاً أم لا، رغم أن «إعلان لومي»، و«القانون التَّأسيسي للاتِّحاد»، و«الميثاق الأفريقي للدِّيموقراطيَّة والانتخابات والحكم»، تشكِّل، في مجملها، معايير صارمة للالتزام بالدِّيموقراطيَّة. فعلى الرُّغم من أن الاتِّحاد أعلن التزامه بتلك المعايير، باتِّساق، إزاء تعليق العضويَّة، وإعادتها، وتطبيق المبادئ الموضوعيَّة، سواء على الأقوياء أو الضُّعفاء، لكنه لم يتَّسق، مثلاً، في حالات مصر، وبوركينا فاسو، وبوروندي، وغامبيا، وزيمبابوي، والسُّودان! فأمَّا بالنِّسبة لمصر 2013م، حيث أطاح الجَّيش بمرسي، رغم انتخابه، وذلك في أعقاب احتجاجات شعبيَّة ضدَّ إقدامه على توسيع سلطاته، قرَّر الاتِّحاد، في البداية، تعليق عضويَّة مصر «حتى استعادة النِّظام الدُّستوري»، لكنه سرعان ما أعادها في العام التَّالي 2014م، بعد انتخاب السِّيسي، متجاهلاً مصير مرسي، ومعتبراً أن عزله، في أعقاب الاحتجاجات الجَّماهيريَّة، هو، على الأقلِّ، تمثيل للإرادة الشَّعبيَّة! لكن الاتِّحاد أدان، في نفس الوقت، وبشدَّة، انقلاب بوركينا فاسو 2014م، بل وهدَّد بمعاقبة قادته! أمَّا في بوروندي2015م فقد اتَّخذ موقفاً وسطاً، معتبراً محاولة الانقلاب فاشلة بمجرَّد تمكُّن الرئيس من العودة إلى البلاد من تنزانيا! وأمَّا في غامبيا 2016م، حيث رفض يحي جامع التَّنازل لخلفه، بعد خسارته الانتخابات، فإن الاتِّحاد لم يتدخَّل، إنَّما ترك الأمر لتعالجه «الإيكواس»؛ وأمَّا في زيمبابوي 2017م، فقد بدأ بإدانة عزل الجَّيش لموغابي، لكنه سرعان ما تراجع على أساس أن «استقالة موغابي نتجت عن حوار بينه وبين بقيَّة القادة»! وأمَّا في السُّودان، حيث رفض المجلس العسكري مطالبة الشَّعب بحكومة مدنيَّة فوريَّة، فقد أصدر مجلس السلم والأمن قراراً يطالب الجَّيش بتسليم السُّلطة للمدنيين خلال 15 يوماً، وإلا علَّق عضويَّة السُّودان! لكن السِّيسي، رئيس الاتِّحاد آنذاك، عقد قمَّة مصغَّرة قرَّرت «إمهال» المجلس العسكري ثلاثة أشهر لتسليم السُّلطة للمدنيِّين، فأفرغت قرار الاتِّحاد من مضمونه!

الخميس

بصرف النَّظر عن كون حورية اسماعيل، رئيسة مفوضيَّة حقوق الإنسان، محقَّة أم غير محقَّة، في زعمها عدم قانونيَّة إقالتها من جانب لجنة إزالة التَّمكين، فإن إعلان رفضها، هي نفسها، صحفيَّاً، الانصياع لهذا القرار، يتَّصف، أيضاً، ومن باب أولى، بعدم القانونيَّة! من حقِّ المتضرِّر من قرارات اللجنة أن يسلك السَّبيل القانوني لمجابهتها، لكن ليس ضمن هذا السَّبيل التَّصريحات الصَّحفيَّة!

الجُّمعة

مَن لم يدرك، بعد، مِن أين تبدأ الدِّكتاتوريَّة، وكيف يُصنع الدِّكتاتوريُّون، فلينظر في مذكِّرات الرَّائد زين العابدين عبد القادر، عضو «مجلس ثورة» إنقلاب 25 مايو 1969م، حيث قال: «كان انقلاب 19 يوليو 1971م من العلامات الفارقة في مسار ثورة مايو، وبداية التَّحوُّل في شخصيَّة نميري الذي كانت هتافات (عائد .. عائد) تزيده زهواً وغروراً! فبعد أدائه القسم كأول رئيس جمهوريَّة في تاريخ السُّودان، بمباني مجلس الشَّعب القديم بالخرطوم، يوم الثاني عشر من أكتوبر 1971م، ذهبنا جميعاً لمكتب رئيس المجلس الرَّشيد الطاهر، وكنا نلبس (الإسبلايت) الحمراء مع العلامات العسكريَّة التي تميِّز أعضاء (مجلس الثورة). وقبل أن تدور علينا أكواب المرطبات نادى نميري مدير مكتبه الرَّائد عمر محكَّر، وخاطبنا قائلاً: إخلعوا الإسبلايت وسلموها للرَّائد محكَّر، فالمسؤوليَّة أصبحت مسؤوليتي، وهذه جمهوريَّة، وأنا رئيسها! كان يتحدَّث دون خجل، ودون تردُّد، ومن شدَّة التَّأثُّر سالت الُّدموع من مآقينا، إذ أيقنَّا أننا أمام شخصيَّة جديدة! ليس هذا نميري الذي عرفناه، ووثقنا فيه، وقدَّمناه رئيساً! ووجَّه نميري الرَّائد محكر بأن يودع إسبلايت أعضاء (مجلس الثَّورة) السَّابق في المتحف القومي، أو دار الوثائق المركزيَّة! هكذا أصبحنا (توابيت) في المُتحَف القومي ونحن في العقد الثَّالث من العمر»! إنتهى الاقتباس.
أمَّا مَن لم يدرك، بعد، أين تنتهي الدِّكتاتوريَّة، وما مآل الدِّكتاتوريِّين، فليتأمَّل سيرة العقيد القذَّافي الذي حكم ليبيا لما يربو على الأربعين عاماً، وكان أكثر الزُّعماء العرب كِبْراً، وعجرفة، وعنجهيَّة، غير أنه تكشَّف، في مغارب حياته، عن جبن مشين! فقد كان، على ما يبدو، مهجوساً، في قرارة نفسه، بخوف دفين من مصير صدَّام حسين، الأمر الذي ظهر جليَّاً في القمة العربيَّة العشرين بدمشق عام 2008م، حين انبرى يحذِّر الملوك والرُّؤساء من تكرار تجربة إعدام صدام عليهم، وتصفيتهم فرداً فرداً، رغم صداقتهم لأمريكا، أو كما قال! ومع أنهم استقبلوا كلمته بالسُّخريَّة، إلا أن الرَّبيع العربي، الذي ما لبث أن انتظم الكثير من بلدان المنطقة، بعد تلك القمَّة بوقت قصير، جاء مصدِّقاً لتحذير القذَّافي، حيث تسبَّب في تغييب بعض أولئك الزعماء، وإن بأساليب تختلف عن نبوءته! وللمفارقة كان أكثر تلك الأساليب دراماتيكيَّة ما حدث للقذَّافي نفسه، حيث قتل في 20 أكتوبر 2011م، على أيدي الثُّوَّار الليبيِّين الذين عثروا عليه مختبئاً، كجرذ، داخل ماسورة صَّرف صحِّي بمدينة سرت! وقد أظهره شريط فيديو وهم ينهالون عليهِ بضرب مبرِّح، بينما هو يستعطفهم الرَّحمة!

السَّبت

بإزاء العقوبات الاقتصاديَّة التي فرضتها أمريكا، مؤخَّراً، على فاتو بنسودا، المدَّعية العامَّة الدَّوليَّة، مع أحد أعضاء مكتبها، لاعتزامها فتح تحقيق في جرائم حرب يُشتبه في ارتكابها، في أفغانستان، بمعرفة عناصر من الجَّيش الأمريكي، أصدرت المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة بياناً، في 2 سبتمبر 2020م، أدانت فيه هذه العقوبات، ووصفتها بأنها «غير مقبولة»، وقالت إن «هذه الأعمال القمعيَّة الموجَّهة ضدَّ مؤسَّسة قضائيَّة دوليَّة، ومسؤوليها، غير مسبوقة، وتشكِّل هجمات خطيرة على المحكمة، وعلى نظام روما الأساسي للقضاء الجَّنائي الدَّولي، وعلى سيادة القانون بشكل عام». وإلى ذلك صرَّح رئيس هيئة الدُّول الأطراف في المحكمة، القاضي أوغون كوون، قائلاً: «أرفض بشدَّة هذه الإجراءات غير المسبوقة، وغير المقبولة، ضدَّ منظمة دوليَّة تأسَّست على معاهدات»، كما دَمَغَ العقوبات بأنها «لا تؤدِّي إلا لإضعاف الجُّهود المشتركة لمحاربة الإفلات من العقاب في مواجهة الفظائع الجَّماعيَّة».
في مواجهة هذا التَّطوُّر الخطير الذي يطرح تحدِّياً جدِّيَّاً أمام مسيرة هذه المحكمة، ينبغي ألا ننسى، قط، أن هذه المؤسَّسة هي هيئة عدليَّة «دائمة» نشأت في سياقات تاريخيَّة متَّصلة ومتشابكة، تطوَّرت، من خلالها، القاعدة القانونيَّة الدَّوليَّة، عبر جدليات «القانون» و«السِّياسة»، من الاقتصار على صون حقوق الدُّول، فحسب، كما كان الأمر في الماضي، إلى الاهتمام بصون حقوق الأفراد والشُّعوب في العصر الحديث. ذلك، في الحقيقة، هو خط التطوُّر الرَّئيس للقانون الإنساني الدَّولي، والقانون الجَّنائي الدَّولي، منذ «اتفاقيَّة جنيف للصَّليب الأحمر الدَّولي لسنة 1864م» التي أسهمت في تعيين جرائم الحرب، وأسس الحدِّ منها، كما حاولت معالجة نطاق المسؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، قبل أن تكشف «اتفاقيَّات لاهاي لسنة 1899م و1907م»، خصوصاً ملحق الاتفاقيَّة الرابعة منها لسنة 1907م، عن النُّزوع الدَّولي الواضح نحو إعادة تنظيم قوانين وأعراف الحرب، وتسييجها بأصول إنسانيَّة تستوجب مخالفتها المساءلة الجَّنائيَّة.
وفي فترة لاحقة أعطت جرائم العسكريَّة الألمانيَّة، خلال الحرب الأولى، دفعة أقوى لآمال ملايين النَّاس في إقرار أسس العدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، كشرط لإقرار أسس السَّلام العالمي، من خلال عدد من المعاهدات الدَّوليَّة التي أبرمت في فترة ما بعد تلك الحرب، كـ «معاهدة فرساي» التي أرست الأساس القانوني الدَّولي الحديث لمفهوم «جرائم الحرب»، ومسؤوليَّة الرُّؤساء والقادة عنها، وكذلك «ميثاق عصبة الأمم» الذي قيَّد اللجوء إلى الحرب لفضِّ النِّزاعات قبل استنفاد الوسائل السِّلميَّة، ونصَّ على عقوبات تطال من يخالف ذلك كمرتكب لجريمة دوليَّة، وإلى ذلك «بروتوكول جنيف لسنة 1924م» الذي جعل اللجوء إلى الوسائل السِّلميَّة إجبارياً، وغيرها.
لكن، لئن كانت جرائم الحرب العالميَّة الأولى قد اعتبرت الأبشع في تاريخ البشريَّة حتَّى ذلك الوقت، فقد جاءت جرائم الحرب العالميَّة الثَّانية لتهزَّ الضمير الإنساني ببشاعاتها الأوسع والأعمق، والتي فجَّرت مشاعر الغضب في كل أرجاء المعمورة، لترتفع، أقوى من أيِّ وقت مضى، مطالبة شعوب العالم بملاحقة ومعاقبة مرتكبيها، مِمَّا دفع الحلفاء لإنشاء «محكمة نوريمبرج»، لأول مرة في التَّاريخ، كمحكمة جنائيَّة دوليَّة خاصَّة ومؤقتة Ad Hoc، لمحاكمة رؤساء وكبار قادة دول المحور، وذلك بناء على المشاورات والاتِّفاقات التي تمَّت في مؤتمري بوتسدام ولندن عام 1945م. وأعقب ذلك إنشاء «محكمة طوكيو»، على غرار «نوريمبرج»، بموجب أمر خاص أصدره، في 19 يونيو 1946م ، الجنرال ماكس آرثر، القائد العام لقوَّات الحلفاء، وقتها، وذلك لمحاكمة كبار مجرمي الحرب في الشَّرق الأقصى.
وفي دورة انعقادها الأولى، في نوفمبر 1946م، أصدرت الجَّمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بالإجماع، قراراً يقضي بتقنين سبعة مبادئ مستخلصة من النِّظام الأساسي لـ «نوريمبرج»، واعتمادها كمبادئ للقانون الجَّنائي الدَّولي، وهي:
أ/ المسؤوليَّة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة الفرديَّة.
ب/ عدم الاعتداد بحصانات الرُّؤساء والقادة وأعضاء الحكومات بالنِّسبة للجَّرائم الدَّوليَّة.
ج/ عدم الاعتداد بالدَّفع بأوامر الرُّؤساء أو القادة أو أعضاء الحكومات للإعفاء من المسؤوليَّة عن الجَّرائم الدَّوليَّة.
د/ عُلويَّة القانون الجَّنائي الدَّولي على القانون الجَّنائي الوطني.
هـ/ تعيين وتحديد الجَّرائم الدَّوليَّة قبل الأخذ بها.
و/ المحاكمة العادلة.
ز/ الأخذ بـ «الاشتراك» في الجَّريمة الدوليَّة.
وعلى الرُّغم من أن المحكمتين شكلتا، في التَّقييم النِّهائي، مرحلة فاصلة ونقطة تحوُّل تاريخيَّة في تطوُّر القانون الجَّنائي الدَّولي، مِمَّا حدا بالكثيرين للاعتقاد بأن «ذلك لن يتكرَّر مرَّة أخرى»، على حدِّ تعبير كوفي أنان، السكرتير الأسبق للمنظمة الدَّوليَّة، في إشارته لأهوال الحرب، بل، وعلى الرُّغم من أن المجتمع الدَّولي كان قد تعهَّد «بألا يتكرَّر ذلك مرَّة أخرى»، إلا أن العالم سرعان ما ألفى نفسه متورِّطاً في ما يقارب الـ 250 نزاعاً مسلحاً على كلِّ المستويات المحليَّة والاقليميَّة والدوليَّة، الأمر الذي نتجت عنه ، فضلاً عن انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة بمعرفة الأنظمة القمعيَّة، أرقام تقديريَّة لضحايا هذه النزاعات من المدنيين تتراوح بين 70 و170 مليون قتيل ، وما ذلك إلا لكون المجتمع الدَّولي قد شهد ردَّة مأساويَّة عن تلك الجُّهود العظيمة التي توِّجت بمحاكمات «نوريمبرج وطوكيو»، حيث دأبت الحكومات، في معظم الأحوال، على تطبيق سياسة واقعيَّة (تقرأ: انتهازيَّة!) تتمُّ من خلالها المساومة بالمسؤوليَّة الجَّنائيَّة عن أرواح الضَّحايا وعذاباتهم، علاوة على مبادئ العدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، مقابل الوصول إلى ترضيات سياسيَّة متبادلة بين الحكومات والأنظمة!
بالنتيجة، أخذت في الازدياد، والانتشار، في كلِّ أرجاء العالم، الجَّرائم الدَّوليَّة، كالقتل، والتَّعذيب، والاغتصاب، والتَّشريد، والاختفاءات القسريَّة، والإبادة الجَّماعيَّة، ومختلف الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة المرتكبة أثناء الحروب الدَّوليَّة، أو النِّزاعات الدَّاخليَّة المسلحة. وبدلاً من الحدِّ منها، ومواصلة تطبيق مبادئ وقواعد العدالة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة التي كان مأمولاً أن تتكرَّس، وترتقي، بعد حصولها على دفعة هائلة من خلال «نوريمبرج وطوكيو»، فإن المزيد من الحكومات والأنظمة أضحت تتَّخذ، للأسف، موقفاً سلبيَّاً منها، بل وليس نادراً ما يكون هذا الموقف المخزي مسانداً ومبرِّراً، صراحة، للانتهاكات، الأمر الذي أفاد منه المنتهكون في الافلات من العقاب impunity، سواء بحكم الواقع de facto أو بحكم القانون de jure. وما من شك في أن أفضل بيئة للافلات من العقاب، بأيٍّ من هذين الطريقين، إنما تتوفر عندما تكون الدَّولة وأجهزتها العدليَّة إما «غير راغبة» في، أو «غير قادرة» على تعقُّب الجُّناة، ومحاكمتهم، وإنزال العقاب بهم. ولعل وقائع الإبادة الجَّماعيَّة في رواندا، مثلاً، والتي ظلت تقع تحت سمع العالم، وبصره، على مدى عام بأكمله، تقدم أبشع دليل، ليس، فقط، على العجز «الدَّاخلي»، وانعدام الرَّغبة والقدرة معاً، بل وعلى السَّلبيَّة «الدَّوليَّة»، ونكث العهود، وربَّما التَّواطؤ!
برغم ذلك كله، لم ينقطع احتجاج المجتمع المدني الدَّولي، إضافة إلى الكثير من الأنظمة الدِّيموقراطيَّة، تحت ضغط شعوبها في الغالب، ولم تكل أو تمل صرخة الضَّمير الجَّماهيري العالمي، ومعارضته لمثل هذه الأوضاع والانتهاكات، كما لم تكف هذه القوى، من مختلف البلدان، والجِّنسيَّات والثَّقافات، عن المطالبة بتعقُّب الجُّناة ومحاكمتهم دوليَّاً. لذلك، وبعد أن تصرَّمت عقود طوال على انفضاض سامر «نوريمبرج وطوكيو»، زلزل الضمير العالمي زلزاله مجدَّداً، على خلفيَّة المآسي المروِّعة التي شهدتها بعض المناطق، كالبوسنة ورواندا، خلال النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم، فتشكَّلت، مرَّة أخرى، محاكم مؤقَّتة، كـ «محكمة يوغسلافيا السَّابقة» بلاهاي، بموجب قرار مجلس الأمن رقم/827 لسنة 1993م، لمحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات الجَّسيمة للقانون الإنساني الدَّولي التي ارتكبت في البوسنة خلال الفترة من يناير 1991م، كما تشكَّلت «محكمة أروشا» بتنزانيا، بموجب قرار المجلس رقم/995 لسنة 1995م، لمحاكمة المسؤولين عن أعمال الإبادة الجَّماعيَّة، وغيرها من الانتهاكات غير الانسانيَّة التي ارتكبت في رواندا خلال الفترة من الأوَّل من يناير حتى نهاية ديسمبر 1994م.
لكن، ولأن مثل هذه التَّطبيقات المتقطِّعة المؤقَّتة لم تعد مقنعة بما يكفي، فقد ارتفعت، هذه المرَّة، أعلى من أيِّ وقت مضى، النِّداءات الدَّولية المحتجَّة على تفاقم هذه الانتهاكات، فانعقد، بين 15 يونيو و17 يوليو 1998م، وتحت ضغط المطالبات الدِّيموقراطيَّة المتواصلة، مؤتمر الأمم المتَّحدة الدِّبلوماسى الذي اعتمد (نظام روما Rome Statute لسنة1998م) لإنشاء المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة. وبناءً عليه، تأسست هذه المحكمة، بالفعل، ودخلت حيَّز التنفيذ فى الأوَّل من يوليو 2002م، كمحكمة «دائمة»، ومختصَّة بمحاكمة «أكثر الجَّرائم خطورة في موضع الاهتمام الدَّولي the most dangerous crimes of international concern»، وتحديداً «الإبادة الجماعيَّة Genocide»، و«جرائم الحرب War Crimes»، و«الجرائم ضد الانسانية Crimes Against Humanity»، فضلاً عن جريمة «العدوان Aggression» التي أرجئ تعريفها إلى عام 2011م، ثمَّ لم يتم تعريفها حتَّى الآن. وربما تكفي أعجل نظرة إلى «نظام روما» للكشف عن اشتماله على ذات المبادئ التي أرستها «نوريمبرج»، ومنها:
أ/ أن الشخص الذي يرتكب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها، وعرضة للعقاب عليها، بصفته الفرديَّة.
ب/ أن المحكمة تطبِّق، بالأساس، «نظام روما»، وأركان الجَّرائم، والقواعد الإجرائيَّة، وقواعد الإثبات الخاصَّة بالمحكمة.
ج/ أن الدَّفع بأوامر القادة أو الرؤساء لا يُعتدُّ به.
د/ أن الدَّفع بحصانات الرُّؤساء، والقادة، وأعضاء الحكومات، بالنِّسبة للجَّرائم الدَّوليَّة، لا يُعتدُّ به.
هـ/ أن الجَّرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة لا تسقط بالتَّقادم.
وأخيراً تلزمنا الإشارة إلى أن السُّودان شارك، بنشاط، في مؤتمر روما الدِّبلوماسي الدَّولي صيف 1998م، ثمَّ وقَّع على «نظام روما» في 8 سبتمبر 2000م، خلال احتفالات الأمم المتحدة بالألفيَّة الثالثة، وإن كانت لم تتم المصادقة ratification على ذلك التَّوقيع، حتَّى جرى سحبه، لاحقاً، كأثر من توجيه الاتِّهام إلى البشير شخصيَّاً. لذا تجب على سلطة الثَّورة إعادة هذا التَّوقيع فوراً، والمصادقة عليه، كأحد أوجب واجبات الفترة الانتقاليَّة.

الأحد

من مضحكات شرِّ البليَّة، قبل حلول «الرَّبيع العربي»، أن برنامجاً في إذاعة البي بي سي استضاف ثلاثة سوَّاح في لندن: سويسري وهولندي وعربي، وطرح عليهم سؤالاً عن «رأي كلٍّ منهم في مشكلة انقطاع التَّيَّار الكهربائي». فاستفسر السويسري من المذيع: يعني إيه انقطاع؟! واستفسر الهولندي: يعني إيه تيَّار؟! أمَّا العربي فاستفسر: يعني إيه .. رأي؟!
***

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.