ثورة الحماداب!

0 74

كتب: فتحي الضَّو

.

ظلَّت الأرض منذ الأزل تمثل قيمة عُظمى لدى الإنسان. ومن أجلها جُيشت جيوش واندلعت حروب وحدثت غزوات. ولعظمة الأرض فقد ذكرها الله – سبحانه وتعالي – نحو خمسمائة وثلاثة وسبعون مرة، بمعانٍ مختلفة في القرآن الكريم. وكانت الأرض حاضرة كذلك في أول جريمة قتل حدثت في التاريخ من بني الإنسان. ذلك عندما قتل قابيل شقيقه هابيل ولم يدر كيف يداري سوءته. وقديماً قال الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت جان جاك روسو (بدأ الشر في العالم حين وضع أول إنسان علامة على قطعة أرض وقال هذه ملكي)!.

من أجل هذا لا غرو أن اتخذها الأهل في الحماداب مُرتكزاً لاعتصامهم المفتوح الذي بدأ منذ أكثر من أسبوع، بتصميم عارم على مواصلته حتى يتحقق الهدف النبيل المنشود، والذي من أجله صمموا على بلوغه. ولم يكن ذلك الاعتصام هو الأول. فقد حاولوا بشتى السُبل السلمية إيصال صوتهم إلى من بيده الأمر بلا جدوى. وبغض النظر عن المحاولات التي جرت مع الذين ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، فإن الذين بيدهم بوصلة التاريخ الآن، هم جزء من الأزمة المستفحلة التي تجتاح الوطن بأكمله، بل تقف حجر عثرة أمام انطلاق ثورته الظافرة حتى تحقق غاياتها النبيلة، والتي يعلمون أنه من أجلها اندلعت!

بيد أنه يحق للأهل في الحماداب أن يفتخروا بأن لهم في هذه الثورة العظيمة سهمٌ وافرٌ. فكانوا في طليعة الذين انتفضوا ضد النظام البائد، حينما كان البعض يتوارى خلف عجزه وقلة حيلته. إذ وقفوا بصلابة وجسارة أمام صلف وعنجهية وغرور أزلام النظام البائد، الذين كانوا يحاولون تسويف قضيتهم العادلة. وعندما عيل صبرهم خرجوا للشوارع التي لا تخون، مُسفرين عن صدور عارية وإرادة قوية وعزم لا يخور. ظلوا لشهور طويلة يضرمون النيران في إطارات السيارات مثلما أضرم النظام الغاشم النيران في قلوبهم، ويضعون الأعمدة وسيقان الأشجار والحجارة لقطع الطريق الرئيس، شاهرين صوتهم الذي أرعب سدنة النظام الظلامي (لن ترتاح يا سفاح) وأبطل تدبيرهم وخططهم وحيلهم في محاربة المنتفضين بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وخطل القوة الزائفة.

في انتفاضاتهم تلك قدم الأهل في الحماداب للثورة السودانية شهيدة (سُمية بشرى الطيب) في فبراير 2015م حينما هشَّم جلاوزة الأمن جمجمتها واصابوا العديد من المواطنين بجروح بالغة منها ما سبب عاهات مستديمة. ويحق لهم أن يفتخروا أيضاً بأنهم اسهموا في تلبية نداء ثورة ديسمبر مبكراً وأرعبت وقفاتهم المستدامة أبالسة النظام البائد. غير أن ما يفطر القلب حقاً، أن قضية سُمية كما غيرها من آلاف الشهداء ما تزال تقبع في أقبية النسيان، بينما أرواحهم الطاهرة ما تزال تهفو لتحقيق العدالة، الضلع الثالث لشعارات الثورة الفتية!

إن قضية الأرض التي من أجلها اعتصم الأهل في الحماداب هي حق يقف من وراءه مطالبين حقيقيون لاسترداده، بمعنى ليس مِنَّة أو عطية أو هبة، وإنما أرض توارثوها كابراً عن كابر وأباً عن جد. لكن السلطة البائدة استغلت صبرهم، فأقامت العمارات السوامق لضباط القوات المسلحة، علاوة على الأرض المنزوعة جوراً لسلاح المدرعات. واتضح أن كل ذلك كان إيذاناً بتثبيط هممهم وتعمد استفزازهم واحتقار صبرهم على المكاره!

لم تكتف السلطة الفاجرة بذلك، بل شرعت في عمليات قرصنة وسطو مكشوف، ببيع مخططات سكنية بمنطق (عطاء من لا يملك إلى من لا يستحق) أما أن يحدث ذلك في العهد الجديد فهو محض تمادٍ في البغي والعدوان الذي لا يليق بثورة عظيمة. ففي تقديري ينبغي على لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو واسترداد الأموال المنهوبة أن تولي هذا الملف اهتماماً خاصاً لأنه معني بقضية آلاف من الأهالي وليس أفراداً يعدون على أصابع اليدين، كما أن أحد الأطراف الضالعة في القضية شريك في السلطة القائمة الآن. وبنفس القدر نقول بوضوح ينبغي على والي الخرطوم اتخاذ خطوات إجرائية عاجلة قبل أن يعيل صبر القادرين على الثورة!

ربما تخالطت نزوع العاطفة مع حديث العقل في هذا المقال، الذي هو أصلاً بمثابة (عرضحال) تظلماً لمن بيده الأمر في حكومة الثورة المجيدة. ولا أكتبه من موقع الرقباء على مسيرتها والحريصون على إصلاح اعوجاجها كما درجت العادة، وإنما من موقع المهمومين بهذه القضية والمكتوين بنيرانها. فقد لا يعلم بعض القراء أن ضاحية الحماداب المعنية بهذه القضية، هي مسقط رأس كاتب هذه السطور، ومرتع صباه ومحط ذكرياته وزاده في غيبة قسرية تطاولت لسنين عددا. حملها هماً مقيماُ ووجعاً أزلياً وهو يجوب العالم طولاً وعرضاً. إنهم أهلي وقُرة عيني الذين أباهي بهم الأمم وتطول معهم قامتي، جئتهم بزاد قليل إلا من محبتهم، ولم أجد ما يطفئ ظمأ شوقي لهم سوى إهدائي تلك (القلوب الحانية) كتابي الثاني الذي صدر في العام 2001م كأبسط ما يكون الوفاء وأقل ما يكون العرفان. فهم بالفعل عزوتي التي توسلت من خلالهم الارتباط بهذه الأرض، وحب هذا الوطن الرؤوم الذي يضمنا معاً!

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.