ثورة اللاءات الثلاث
كتب: فتحي الضَّو
.
بمناسبة مرور عامين على ثورة ديسمبر المجيدة، كان احتفائي بها محصوراً بين التأمل في واقعنا الراهن وما كان عليه الحال قبل الثورة، وبالطبع كلاهما لمختلف جدا. سيجد المرء كثيراً من الفوارق التي تتعدى دوائر التبسيط المُخل. فالأمر أبعد من تغيير سياسي من نظام ثيوقراطي ديكتاتوري مارس كل أنواع الانتهاكات إلى نظام انتقالي كسيح. ولكن مع تعثره يأمل أن يفتح الباب لتأسيس نظام ديمقراطي كامل، لأن بحدوثه يكون السودان قد حقق مقولة المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما والقائلة بحتمية (انتهاء التاريخ) والتي صكَّها في كتاب صدر عام 1992م. أي تزامناً مع الحقبة التي حدث فيها الانقلاب المشئوم قبل عقود ثلاثة. وطبقاً لرؤيته فإن الديمقراطية الليبرالية القادمة ستكون بمثابة خاتمة المطاف في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للسودان. لا سيَّما أن الوصول لهذه الغاية استهلك وقتاً كبيراً. وقد لا يكون للزمن ذات المعنى الذي درج الناس على معرفته كوحدة قياس في تعاقب الليل والنهار، فقد تفككت دول ونهضت أخرى، وما بينهما جرت المياه مدراراً تحت الجسور!
ذلك يقودنا إلى التأمل في طبيعة ثورة ديسمبر المجيدة، وأين يقع تصنيفها في إطار الثورات المتعارف عليها في التاريخ الإنساني. على سبيل المثال فقد عرفنا الثورة الروسية (1917) كثورة أيدولوجية تُعد من أكثر الأحداث المؤثرة في التاريخ البشري، خاصة وأنها تمددت خارج الحيز الجغرافي للدولة الروسية. وعرفنا الثورة الصينية (1949) والواقع هي ثورات تمخضت عنها ثورة ثقافية متدرجة. وعرفنا الثورة الأمريكية التي بدأت كتمرد اقتصادي ضد المستعمر البريطاني (1775-1783) ولكن يمكن اعتبار حرب الانعتاق من العبودية التي استمرت لأربع سنوات أثناء الحرب الأهلية هي ثورة اجتماعية بامتياز. وفوق كل ذلك عرفت البشرية الثورة الأعظم في التاريخ وهي الثورة الفرنسية (1789-1799) والتي تمرحلت على فترات نتيجة سلسلة من الاضطرابات السياسية/ الاجتماعية، وانتصرت في النهاية بشعاراتها التي أصبحت أيقونة على مر الأزمان (الحرية، المساواة، الإخاء) ويعيد اندلاعها للأذهان ملمحاً من ملامح ثورة ديسمبر السودانية. حيث تتشابه الأسباب التي سيطرت فيها فئة طفيلية مؤدلجة على مقاليد الأمور لثلاثة عقود غبراء.
كان المأمول أن تصنع ثورة ديسمبر فلسفتها الخاصة التي تُعرف بها. وفي واقع الأمر فقد اقتربت من ذلك كثيراً ولكن المتربصين قطعوا عليها الطريق، إذ كان الحُلم بضرورة تأسيس دولة مدنية قد تبلور أثناء الاعتصام وقبيل الانتصار. ولم يكن ذلك محض تمنٍ أو خبط عشواء، وإنما نتاج طبيعي للدمار الأخلاقي الذي حاق بالسودانيين جراء حكم الأبالسة. خاصة أن الثورة أسفرت عن وجهها الحضاري باعتبارها ثورة وعي وبعثاً للقيم والمُثل التي وطأتها أحذية الكهنوتيين. وفي التقدير ثمة ثلاثة أسباب حالت دون اكتمال حلم الدولة المدنية:
أولاً: كان المجلس العسكري على رأس المتربصين بالثورة. علماً بأنه هو نفس اللجنة الأمنية التي كُونت لحماية النظام البائد وإجهاض أي تحركات تهدف لإسقاطه. فغدا ذلك أمراً دخيلاً على المنطق وعصياً على الفهم. إذ (كيف يكون حاميها حراميها؟) كما يقول المثل الدارج. علاوة على ذلك تدخلت أيدٍ آثمة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، مرةً تحت غطاء استقرار الإقليم، وأخرى بدعوى الحفاظ على موازيين القوى العسكرية، بزعم وجود أكثر من جيش في دولة هشة. لكن نحن نعلم خويصة أنفسهم أنه لا يسعدهم أن يحظى الشعب السوداني بديمقراطية وارفة الظلال تزعزع منامهم.
بيد أن اختطاف الثورة من قبل الجنرالات، عبر مجلسٍ يُسمى تلطفاً (الشراكة)، جعلهم يكيدون لها كيداً لأنهم يعلمون أن السلطة جاءتهم بمنطق (عطية مِن مَن لا يملك إلى من لا يستحق). وبالتالي ظلت الهواجس تحوم حولهم وتتفاقم يوماً إثر يوم، ليس من قِبل المُكون المدني الشريك في السلطة، ولكن من الشارع العريض بمكوناته كافة، وذلك لأسباب نفسية لا تُخفى على المتأملين الواقع السوداني ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهذا وذاك ما حدا بالجنرالات إلى التمترس خلف القوة الزائفة، بدليل تمسكهم الأهوج بشركات منظومة الصناعات الدفاعية، ظناً منهم أنها ستكون كهفاً آمناً يلوذون إليه إن احتدم الوغى. ولهذا يُعتقد أن صدور قرارات الكونجرس الأمريكي الخاصة بهذا التوجه ستزيد الهواجس اشتعالاً.
ثانياً: لعل الأسوأ من تكالب الجنرالات على الحكم والذي حال دون تمدد حلم الدولة المدنية، كان تهافت الانتهازيين الذين هرعوا من كل حدب وصوب يبتغون مناصب تسد جوعهم السرمدي للسلطة. وما إن حددت بوصلة الثورة وجهتها حتى رأيناهم يتزاحمون بالمناكب. ولأننا نعرفهم بسيمائهم فقد كانوا هم أنفسهم التيئيسيون والتخذيليون والتخويفيون الذين كانوا ُيثبطون الهمم ويشيعون الإحباط وما يزالون يستميتون من أجل إرجاع عقارب الساعة للوراء، وهم أشد أذىً من سدنة النظام أنفسهم. ولا يباريهم في الأذى سوى أرباب ما سُمى (الهبوط الناعم) الذين كانوا بالأمس يقفون على أبواب السلاطين وتقمَّصوا اليوم روح الثوار!
ثالثاً: في مقابل ذلك لم تبسط الدولة يدها لحُداتها الغر الميامين الذين نهضوا بالثورة وهم الشباب. (هل يُعقل بعد عامين تقول وزيرة المالية التي أدمنت التصريحات الهوجاء أنها وفرت 250 ألف وظيفة للشباب في الفترة الانتقالية؟) وكلنا يعلم أن ذلك مجرد (كلام ساكت) مثلما وصفته القريحة الشعبية السودانية. في حين أن الضيم الذي لحق بالشباب انعكس على حلم مدنية الدولة ووقف حائلاً دون تحديد فلسفة الثورة!
نعلم أن الوقت لم يحن بعد لتقييم ثورة ديسمبر، ولكن ريثما يحين ذلك لابد من النظر إلى النصف المليء من الكوب وخلاله ظهرت لنا ثلاث (لاءات) عانينا منها ردحاً من الزمن، وقد وضعت الثورة نهاياتها المحتومة كالتالي:
أولاً: ونحن نستقبل العام الخامس والستين لاستقلال البلاد حري بنا أن نستذكر أن الديمقراطية الليبرالية لم تنل من هذه الأعوام سوى عشر سنوات وذهب جلها للأنظمة العسكرية الديكتاتورية، وكان ذلك وبالاً على السودان وأهله كما تعلمون. ويقول منطق الثورة الآن إن الشراكة الراهنة ستكون آخر الآلام التي رزأت المؤسسة العسكرية بها الوطن.
ثانياً: بنفس القدر الذي اتضح به خطل المؤسسة العسكرية في الحكم، موازاة بذلك وضح فساد الدولة الدينية (الثيوقراطية) من خلال اختطاف الحركة الإسلاموية للسلطة وإقامة دولة الفساد والاستبداد. وبالطبع ليس هناك ثمة عاقل يريد تجريب المُجرب لكي تلحق به الندامة. فالطريق أصبح ممهداً لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
ثالثاً: رسمت الثورة المسار الطبيعي لانتهاء عصر الحروب الأهلية، بمعنى أنه لن تكون البندقية حكماً عوضاً عن الحوار. لكن ذلك لن يتأتى إلا بإقامة أركان الدولة السودانية على هُدى ما ذكرناه من نقاط وقفت حجر عثرة أمام مدنيتها. فتجسيد غايات الثورة تحتم عودة الجنرالات إلى ثكناتهم، وإفساح المجال أمام الشباب، واجتثاث طموحات الانتهازيين المتربصين من جذورها.
صفوة القول وأنا أكثر الناس تفاؤلاً بمستقبل واعد ينتظر السودان بعد الرهق الذي أصابه: سيكون العام الميلادي الجديد نقطة انطلاق لطي صفحة المعاناة المتناسلة، بدءاً بالأزمة الاقتصادية ومن ثمَّ ستأتي الصُعد كافة. ذلك ليس تفاؤلاً فحسب وإنما قراءة واقعية مستندة على رؤية موضوعية تحاول استنكاه ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع. فدولة الرفاهية قادمة ولو كره المشاؤون بين الناس باليأس والإحباط والتشاؤم!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!