جيشنا جيش الهنا حردان مننا (٢)

0 117
كتب: د. الباقر العفيف
.
قصة انقلاب معلن
مقدمة
تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عن شكاوى قادة الجيش وتذمرهم مما يعتبرونه استفزازا وتحرشا وحملة منظمة للإيقاع بين الجيش والشعب. وأشرت لعجزهم عن طرح الأسئلة الصحيحة عن السبب الحقيقي لنظرة الشعب السالبة للجيش. هذا العجز عن طرح الأسئلة الصائبة لا يبشر بإصلاح أحوال الجيش. ففاقد الشيء لا يعطيه. وقد تمنيت على قادة الجيش اتباع نموذج بائع اللبن في فيلم عازف الكمان على السطح، فما هي قصته؟
عازف الكمان على السطح
إن رواد السينما في منتصف السبعينات وحتى مطلع الثمانينات ربما ما يزالون يتذكرون الفيلم الكلاسيكي العظيم “عازف الكمان على السطح” Fidler on the roof والذي يصور حياة تلك القرية اليهودية الروسية، إبان الحقبة القيصرية، التي تقدس التقاليد المتوارثة وتتبعها بصورة عمياء وتعتبر الخروج عليها كفرا. وهي بالذات تُقَدِّس تقاليد الزواج، حيث تُزَوِّج الأسر بناتها عن طريق الخاطبة match maker وليس عن طريق الحب والاختيار الحر. فالتقاليد تَعْرَف الواجب فقط ولا تعترف بالحب.
يُفتَتح الفيلم ببائع اللبن الفقير، تيفيي، وهو يغني أغنية عن التقاليد، وأهميتها، وكيف أنها حفظت تماسك المجتمع وتوازنه. فهو يقول “بدون التقاليد لصارت حياتنا مهتزة كمثل حال … ” ثم يتلفت حوله بحثا عن مثال مناسب لوضع شديد الاهتزاز، فيرى عازف الكمان وهو يعزف واقفا على سطح بيت مائل كظهر الثور، فيكمل تيفيي قائلا”… لكانت حياتنا مهتزة وكأنها تقف على شفا جرف هار، مثل هذا العازف على السطح”. وفي مشهد أخر من الفيلم تتغَنِّي بناتُه بينما هن ينشرن الملابس على حبل الغسيل: “أيتها الخاطبة أيتها الخاطبة … أعثري لي على رجل يناسبني، رجلا لطيفا يناسبني، واقنصيه لي قنصا”….،،.match maker match maker find me a match, find me a fine man, catch me a catch
ولكن تيفيي استطاع أن يكسر سياج تابو التقاليد الحديدي ويسمح لبناته بأن يتزوجن عن حب. فكيف استطاع ذلك من دون أهل القرية قاطبة؟ استطاع ذلك لأنه ببساطة شديدة عندما يناقش أي قضية ينظر إليها أيضا من جانب الطرف الآخر، ويحاول فهم وجهة النظر المقابلة لوجهة نظره. فهو دائم الحديث مع نفسه حول همومه. وكانت جملته الأثيرة عندما يطرح وجهة نظره هي: “هذا من جانب التقاليد، أما من الجانب الآخر فكذا وكذا”.
وهكذا استطاع أن يتفهم مشاعر بناته عندما حاول أن يضع نفسه مكانهن. فهو يقول في أحد المشاهد “إن التقاليد تقول ما دُمت وعدتُ الجزار الأرمل ميسور الحال بأن أزوجه بنتي فلا بد لي من الوفاء بوعدي. هذه وجهة نظر التقاليد. ولكن من وجهة نظر بنتي أنها ستكون سعيدة مع الشاب الفقير الذي تحبه. وستكون تعيسة مع الجزار الأرمل. فماذا اتَّبع، التقاليد أم سعادة بنتي”؟
ما علاقة عازف الكمان بالجيش السوداني؟
والدرس المستفاد من هذا الفيلم الرائع هو أن أي مجتمع مغلق لا يتقدم إلى الأمام إلا عندما يمتلك بعض أفراده القدرة على رؤية الجانب الآخر من التل. والتعامل مع حقائق الحياة من الوجه البعيد منهم، وليس فقط من الوجه الذي يليهم. عدم القدرة على النظر من الجانب الآخر للقضية مشكلة حقيقية تواجه المجتمعات المغلقة، سواء كانت أسيرة في سجن التقاليد أو في أسوار سجن الأيديولوجيا، وتعطل نموها وتطورها. وهذا صحيح أيضا بالنسبة للأفراد المحبوسين في كلا السجنين. فبدون تلك القدرة لا يتميز الإنسان الراشد عن الطفل المدلل الذي يستحوذ على اللعبة بمفرده ولا يهتم بالأطفال الآخرين. وبدونها أيضا لا يملك الإنسان القدرة على النظر في عيوب الذات وقصورها.
والجيش السوداني مجتمع مغلق له ثقافته وتحيزاته ونظرته المُضَخِّمَة للذات والمُحَقِّرة للآخر، سواء كان هذا الآخر هم “الملكيين”، أو “الأعداء” من المجتمعات السكانية “المهمشة” التي ظل الجيش في حالة حرب معها منذ ما قبيل الإستقلال وحتى الآن، والتي انحصرت خبراته القتالية ضدها وحدها.
هذا الجيش الذي أفسدت قادته العظام الامتيازات التي كان يرشوهم بها المخلوع. فدخلوا عام الغنى الأسطوري، والأموال التي تحسب بمئات الملايين من الدولارات. واستمرأوا دعة الملوك ورفاهية الطبقات الأرستقراطية.
ودعوتي للبرهان وقادة الجيش هو أن يطرحوا هذا السؤال الذي طرحه تيفيي على نفسه. على البرهان أن يقول لنفسه: “إنهم يستفزوننا. هذا فظيع من وجهة نظر تقاليدنا الراسخة التي لا ترضى الاستفزاز من أي بشر، حتى ولو كانوا آباءنا أو أبناءنا أو إخواننا أو عشيرتنا. ولكن من الجانب الآخر لماذا يستفزوننا الآن؟ كيف حدث هذا وهم كانوا بالأمس القريب يهتفون لنا، ويحيطون بنا، ويردون هجمات الفلول جنبا إلى جنب مع جنودنا، قبل أن نسحَب جنودنا في ظروف غامضة” ونكشف ظهرهم، ونترك أرواحهم ودماءهم وأعراضهم نهبا لمليشيات الكيزان في يوم الوقفة المشهود؟
إن طرحتم هذا السؤال على أنفسكم فسوف يسهل عليكم وضع أنفسكم محل شباب الاعتصام وشعب الثورة، وسوف تتخلصون من هذه النظارات الخادعة التي تجعلكم ترون الأشياء بأعين الكيزان الضالة المضللة. ولَغَيَْر البرهان لهجته الغاضبة المتحدية في خطاباته الموجهة لجنوده والتي تحمل رسائل لشعبه لا تخلو من تهديدات مبطنة.
قنبلة ذرية؟
نحن عندنا مشكلة حقيقية يجب أن تشغل بالنا جميعا ولكننا بكل أسف نراكم تعالجونها بالصمت، وكأن السكوت عنها سوف يجعلها تختفي من تلقاء ذاتها أو تحل نفسها بنفسها. نحن ورثنا من الكيزان بلدا محطمة ودولة مشوهة في كل شيء. دولة وصفها الدكتور الراحل جون قرنق بقوله too deformed to be reformed أي أنها على درجة كبيرة من الإعاقة بحيث يستحيل إصلاحها.
إن ما فعله الكيزان بالبلد لا شبيه له إلا ما فعله الأمريكان في هيروشيما وناجازاكي بالصورة المجازية. فقد ضربوا البلد بقنبلة ذرية من العيار الكيزاني الكبير. أزالت هذه القنبلة ثلث البلاد بضربة قاصمة، حيث طوى الجنوبيون أحلامهم في دولة واحدة معنا طي السجل للكتب، وأرونا عرض أكتافهم. أما ارتداداتها فقد خلفت نيرانا وحطاما في كل بقعة من الأرض، وإفسادا لجملة الحياة، وخرابا في كل المؤسسات، وتشوهات نفسية وعاهات عقلية، وفتن قبلية وقاذورات عنصرية، وفقر وجهل وبلادة وغباء.
وأكبر هذه التشوهات أصابت الأجهزة الأمنية من جيش وشرطة وأمن. هذا بالإضافة للمليشيات التي تكاثرت كالفطر مثل الدفاع الشعبي وأعداد لا نعرفها من مليشيات تابعة لقادة النظام مباشرة، حتى سمعنا بقوات تابعة لنافع، وأخرى تابعة لأحمد هارون، وثالثة تابعة لعلي عثمان ورابعة تابعة لعثمان كبر. وأجهزة أمنية تعج بالقتلة المأجورين، كعصابات المافيا، مثل تلك التي قتلت طلاب دارفور بجامعة الجزيرة وألقت جثثهم في إحدى ترع مشروع الجزيرة، وتلك التي قتلت الطالب محمد موسى بحر الدين وألقت جثته في العراء، وتلك التي اختطفت المهندس أحمد أبو القاسم مختار من منزله بالمنشية وعذبته بعد ساعات من مشاجرة وقعت بينه وبين طه عثمان الحسين مدير مكتب المخلوع. ومثل العصابة التي اعتدت على الكاتب الصحافي عثمان ميرغني.
فوضى الأجهزة الأمنية
هذا إلى جانب المليشيات القبلية التي بنتها ودعمتها الحكومة. فكلنا نعرف معضلة تعدد الأجهزة الأمنية وفوضى الأزياء العسكرية التي يرتديها الأمنجي الفرد فتجعل منه شرطيا وجياشيا ودعم سريع في أي وقت يريد. وكذلك نعلم انفراط عقد الضبط والربط المعروف والمتوارث في المؤسسة العسكرية السودانية منذ نشأتها. وقد فاقم هذا الوضع تغيير العقيدة الخاصة بهذه الأجهزة، وتحويل ولائها من الولاء للوطن إلى الولاء للمنظومة الحزبية المسيطرة على البلاد أو إلى قادتها من الأفراد مثل قوات الدعم السريع. ومن ثم فقدانها للحيادية المهنية، وتعبئتها ضد تطلعات الشعب في الانعتاق والحرية وبناء دولة محترمة.
ألا توافقني الرأي بأن هذه كلها قنابل زمنية وحقول ألغام يجب أن نتعامل معها كلنا عسكريون ومدنيون بحسبانها هَمّا وطنيا جماعيا وقضية بلد وحاضر شعب ومستقبل أجيال؟ وأنه ليس من المصلحة أن نترك هذه القضية لكم وحدكم لتُقْصُون عنها ممثلي الشعب. فلماذا تصرون على إبعاد المدنيين من إصلاح الجيش والأمن؟ هل أنتم دولة قائمة بذاتها أم جزء من هذه الدولة؟ هل أنت رئيس جمهورية الجيش أم رئيس جمهورية السودان؟ إذا كنت رئيس جمهورية السودان فلماذا تتحدث عن حكومتك ورئيس وزرائك بصفة الغائب والآخر؟ لماذا تقول “هُم فشلوا” ولا تقول نحن كحكومة فشلنا؟ ولماذا تقول “قلنا ليهم، ولا تقول تحدثت مع جهازي التنفيذي حول هذا وذاك”؟ أو اقترحت على الجهاز التنفيذي هذا وذاك”؟ وعلى ذكر الفشل نجيء لخطابيك المتتاليين، أولهما أمام الرتب الكبيرة والثانية في الكلية الحربية.
قصة انقلابٌ مُعلن
كلنا سمعنا خطابك الغاضب أمام الضباط العظام في الجيش من رتبة العميد فصاعدا. وكذلك خطابك للجنود في الكلية الحربية الذي كانت تقاطعه الأشعار الحماسية وهتاف “جيش، جيش، جيش”. أنت تقول للشعب “نحن تحت إشارتكم. مثلما استجبنا لكم في أبريل الماضي الان تحت إشارتكم. أي إشارة سنستجيب لكم”.
وهذه في لغة السياسة تعني أنكم جاهزون للحظة المناسبة للانقلاب على الحكومة الانتقالية، وتحاولون أن تفعلونها باسم الثوار، وبدواعي حماية الثورة. ربما تنتظرون مسيرات الجوع التي تُعِد لها الفلول بعد أن رفعوا الدولار ليتجاوز المئتين من الجنيهات، وبعد أن رفعوا الأسعار التي ستُخرِج الجوعى من بيوتهم مدعومون بالكائدين للثورة من كل حدب وصوب، وأولئك الذين ظلوا في حالة غزل دائم معكم، لتفعلوا مثلما فعل السيسي في مصر. فقد دعا السيسي الشعب لتفويضه وخرجت الجموع الخائفة من كيزانِ مِصْرَ بالملايين وأعطته التفويض الذي يريد. وقبل أن يرتد إليهم بصرهم وجد شباب الثورة المصرية أن منقذهم من ضلال الكيزان قد رمى بهم في غياهب السجون.
ستكون واهما إن ظننت أننا يمكن أن نعود لعهد لا نجد فيه خبزا ولا حرية. وستكون واهما إن ظننت أن شباب الثورة انقلبوا على حكومتهم المدنية وأن الفرصة لاحت لكم. لا أعرف من هم الذين ينصحونك ولكنهم إن كانوا أمناء لأخبروك أن ثمة شيء غير مريح في خطابك وفي أسلوب خطابتك. شيء يطعن في الثقة فيك وفي مصداقيتك. شيء يشبه خطابات المخلوع الغاضبة ذات الصوت العالي التي ترسل التهديدات والتحذيرات وتتحدث عن الخونة والمندسين وتتحدى الناس وتدعوهم للمنازلة. شيء يذكرني بعبارة مارسيلس في مسرحية هاملت “ثمة شيء يفوح في مملكة الدنمارك”.
نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.