حول رفض تعليم أبناء الهامش باللغة العربية

0 43

كتبت: رشا عوض

.

نظرا للاجواء المشحونة بالكراهية كنتاج للمظالم والحروب الاهلية الطويلة ، غابت الموضوعية عن نقاش كثير من القضايا وسادت أفكار تعسفية قوامها الغضب والانفعال، مثال على ذلك موقف البعض من اللغة العربية والاحتجاج على استخدامها كلغة رسمية وكلغة تدريس في المدارس!

وطبعا من يريد ان ينال صك غفران الهامش والبراءة من العنصرية يجب ان ينخرط في المعركة ضد اللغة العربية، وهي معركة مجانية ميدانها الاسافير واركان النقاش ، ولا علاقة لها بمصالح المهمشين، فمع كامل الاحترام لكل اللغات المحلية في جهات السودان الاربعة ، ليس من مصلحة المهمشين حصرهم في لغاتهم المحلية لان هذا ببساطة سيزيدهم تهميشا!
رغم ان اللغة العربية هي لغتي الام ، فإنني لا أجد حرجا في الاعتراف بان للغة الانجليزية ميزة تفضيلية جبارة مقارنة باللغة العربية والاسباب لا علاقة لها بتفوق عرقي يمتاز به الناطقون بالانجليزية من الانجليز والامركان وغيرهم ، بل هناك اسبابا موضوعية متعلقة بمستوى انتشار هذه اللغة في عالم اليوم وحجم العلوم والمعارف التي تتدفق بها وهيمنتها على عالم الإعلام و الاقتصاد والاعمال والمؤسسات الدولية النافذة إلخ.. واستنادا إلى ذات المعايير يجب ان لا نجد حرجا في الاعتراف بان للغة العربية ميزة على اللغات المحلية في السودان، ليس بسبب تفوق عرقي للناطقين بها من مستعربي السودان، بل لأسباب موضوعية ، فاللغة العربية يتحدثها 420 مليون نسمة على الاقل ، ولا اساس للمقارنة بينها وبين تلك اللغات المحلية في نقل العلوم والمعارف والاداب ، وحجم ما يترجم منها واليها ، وعدد الوسائط الاعلامية العالمية التي تنطق بها إلخ
من ناحية براغماتية عندما تحصر انسان في لغة لا يزيد عدد المتحدثين بها عن مائة الف نسمة او مليون او مليوني نسمة على الاكثر، ولا توجد وسيلة اعلام واحدة في العالم ناطقة بها، ولا يوجد كتاب واحد او صحيفة واحدة تصدر بها ، فإنك تكون ضاعفت من تهميشه! وحكمت عليه بان يتحرك من الهامش الى هامش الهامش!!
حتى من ناحية “المفاصلة السياسية” على اساس “هامش ضد الجلابة” لا بد ان يفهم اهل الهامش ما يقوله ويكتبه الجلابة! هذا سلاح مهم في معركتهم!!
كل ذلك لا ينفي الاخطاء التربوية والتعليمية الفادحة التي ارتكبتها مدارس السودان في حق الاطفال غير الناطقين باللغة العربية، فلا بد من الحرص على استخدام اللغات المحلية في السنوات الاولى من التعليم حتى لا يشعر الطفل بالغربة ويكره المدرسة، فمسألة ضرب الطفل وتعنيفه لانه تحدث بلغته الام جريمة تربوية، العنصرية هي سبب رئيس في ذلك ، ولكن هناك سبب اخر لا يقل اهمية وهو تخلف النظام التعليمي والتربوي في السودان كجزء من التخلف التنموي في الدولة ككل! شخصيا، درست السنوات الاربعة الاولى من المرحلة الابتدائية في السودان وذاكرتي حافلة بالضرب والعنف اللفظي والعقاب البدني الذي تعرضت له في تلك المدارس المتخلفة، رغم انني من الناطقين بالعربية كلغة ام، بل وكنت احب دروس اللغة العربية واتفوق فيها!
قضايا التعليم والثقافة واللغة يجب ان يكون التداول حولها في منصات أكاديمية وتربوية هادئة على خلفية رؤية وطنية شاملة للتربية والتعليم والنهضة الثقافية، البعد السياسي حتما سيكون حاضرا في مثل هذه المواضيع، ولكن يجب ان لا يكون حضوره على طريقة “الثور في مستودع الخزف”!
الفوران السياسوي وخطاب الشعبوية والكراهية لا يصلح لتقديم بدائل ذات قيمة في قضايا معقدة كإدارة التنوع اللغوي في البلاد، مثل هذا الخطاب يصلح فقط للتهريج وإثارة الكراهية العمياء، هو خطاب يقف عند حدود الاحتجاج ولا يتخطاها!
هذا الخطاب يعبئ ضد ان تكون اللغة العربية لغة رسمية في السودان ولغة تدريس في المدارس لان في البلاد اكثر من مائة لغة اخرى، ولكنه لا يطرح تصوره لكيفية ان تكون لدولة واحدة مائة لغة رسمية وان يطبع المنهج الدراسي فيها بمائة لغة! وان تكتب اللافتات في المطارات والشوارع والاسواق بمائة لغة.
يحتاج السودان للاهتمام باللغات المحلية لخدمة اهداف التوعية في المجتمعات المحلية فهناك معلومات في الصحة العامة وصحة البيئة والتعايش السلمي والارشاد الزراعي وصحة الحيوان ..ألخ يجب ان تكون متاحة لكل المواطنين على حد سواء ولا بد من الاخذ بعين الاعتبار وجود مواطنين لا يفهمون العربية مطلقا ولا يعرفون سوى لغتهم المحلية، هؤلاء يجب تخصيص اذاعات ناطقة بلغاتهم( بعد النجاح في تحقيق مستوى من التنمية يمكنهم من اقتناء راديو ) ، كما يحتاج لمشروع ثقافي تعددي يحتفي بما تحويه اللغات المختلفة من مخزون الحكمة والتجربة والجمال لإثراء الوجدان الوطني المشترك، ولكن هذا مشروع يتم على المدى البعيد ومن شروط نجاحه توفر حد معين من التنمية الاقتصادية والبشرية في الاقاليم المهمشة يمهد الطريق لبروز مثقفين قادرين على اداء واجبهم تجاه النهوض بمجتمعاتهم وتدوين لغاتها وثقافاتها والاستفادة من الخبرة الانسانية العالمية المتاحة في هذا المجال والاتصال بالمؤسسات الدولية المتخصصة في ذلك كاليونسكو مثلا، في غياب هذا المستوى من التنمية ومع سيادة الامية والفقر والتهميش سيكون من العبث اطلاق دعوات مقاطعة التعليم باللغة العربية لانها لغة المركز المهيمن! فهذا سيؤدي الى تضييق فرص المهمشين في المعرفة والاطلاع والعمل داخل السودان مثلما يؤدي الجهل باللغة الانجليزية إلى تقليل فرص الانفتاح على العالم معرفيا وتضييق خيارات فرص العمل الجيدة! ولذلك فإن النظام التعليمي في السودان حاليا ضعيف وقاصر جدا في مجال اللغات خصوصا بعد تعريب التعليم العالي، فتخريج طالب من الجامعة لا يعرف سوى اللغة العربية حتما سيحد من فرصه في الترقي الأكاديمي والمهني والانفتاح على العالم.
إن تصوير مقاطعة اللغة العربية كموقف تحرري لا يختلف عن تصوير تعلم اللغة الانجليزية او الفرنسية كموقف ضد الاستعمار! فالموقف التحرري الحقيقي لصالح مهمشي السودان هو النضال من اجل توفير فرص التعليم وبناء المدارس في الهامش ابتداء، والاجتهاد في الحصول على ما هو متاح من تعليم باللغة العربية بالتزامن مع النضال المثابر من اجل إصلاح النظام التعليمي إصلاحات جذرية تشمل تأهيل المعلم والبيئة المدرسية وتطوير المناهج، ويجب ان تستهدف هذه الإصلاحات وضع خطة عملية صحيحة تربويا بواسطة خبراء لحل مشكلة حاجز اللغة العربية بين الطلاب والطالبات غير الناطقين بها كي لا يكون ذلك سببا للتسرب من المدارس او ضعف التحصيل، واستخدام اللغات المحلية كوسيط للتفاهم بين الطلاب ومعلميهم الذين يجب ان يكون جزء من تأهيلهم الالمام باللغة السائدة في المنطقة التي يعملون بها مع التركيز على تأهيل معلمين من نفس المنطقة ويعرفون لغاتها المحلية، مع بث ثقافة احترام الاخر المختلف لغويا داخل المدرسة وفي المجتمع الكبير ضمن السياسات التربوية وتشجيع التلاميذ على تعلم اللغات المحلية وكل ذلك لن يتحقق إلا في ظل استقرار سياسي ووجود خطط مدروسة للتنمية البشرية على رأسها العناية بالتعليم.
واي نظام تعليمي ناجح وفق معطيات الواقع السوداني لا بد ان يحافظ على اللغة العربية كأحد ممسكات الوحدة الوطنية باعتبارها القاسم المشترك اللغوي الاكبر بين السودانيين، وباعتبار دورها التاريخي في الفكر والثقافة والفنون والاداب السودانية وتجذرها في الوجدان الشعبي على مدى قرون، وفي ذات الوقت ابتدار مشروع جاد لرعاية وتطوير التنوع اللغوي في البلاد والاستفادة منه في تعميق الوصال الوجداني الوطني وفي سبيل التوعية والتنوير في المجتمعات المحلية، ومن اجل الانفتاح المنتج على العالم وتعزيز فرص التنمية يتحتم على النظام التعليمي تقوية اللغة الانجليزية وتمكين ابناء الشعب السوداني من إجادتها بالاعتماد على مؤسسات التعليم “الإلزامي المجاني” دون الحاجة لإنفاق عشرات الالاف من الدولارات على المدارس الخاصة، وهذا بالطبع يحتاج لمشروع وطني يجعل النهوض بالتعليم هدفا استراتيجيا.
آفة السودان الان هي غياب المشروع الوطني الذي محوره النهضة الشاملة بالوطن الواحد على اساس الإدارة الرشيدة للتنوع، ولذلك عند مناقشة اي قضية تغيب النظرة الكلية للسودان كوطن واحد وتسود “الأفكار المتعسفة” في “المركز” الذي يزعم ان كل شيء على ما يرام في الدولة السودانية ولا حاجة لأي تغيير، وفي المقابل تسود في الهامش “أفكار تعسفية موازية” ذات طابع احتجاجي على مظالم حقيقية، ولكنها خاوية من اي مضامين سياسية او تنموية قابلة للتطبيق العملي والاخطر من ذلك انها لا تضع في اعتبارها المصالح الحيوية للمهمشين الذين تتحدث باسمهم، والخاسر الأكبر في هذا المناخ المتوتر هو “الوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية وتنموية جديدة” لصالح كل السودانيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.