خدمة الإنجليز المدنية: مكميك كسار قلم الحاكم العام جوفرى آرشر (٢-٣)

0 77
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
لا تخفي صفوة التعليم الغربي حسرتها على جلاء الاستعمار الإنجليزي عنا. ولها في محاسن الإنجليز بدع وتمحل ونياصة. وأكبرها قولهم إن الإنجليز تركوا فينا خدمة مدنية سمحاء. وإشاعة أن مستعمراً كالإنجليز مما يترك “خدمة مدنية” هراء. وقولنا ب”خدمة مدنية” في عهد الاستعمار مما يعرف في الإنجليزية ب”أوكسمورن oxymoron”، أي العبارة التي تلغي نفسها بنفسها مثل قولنا منذ عقود “الحكومة الصومالية”. فلم يرتب الإنجليز إدارتهم لخدمتنا ولا كنا مدنيين في نظره. فإدارة الاستعمار لبلد هي، تعريفاً، لخدمة المتروبول (إنجلترا في حالنا) ويقع لنا منهم السقط. ونحن رعايا لا نهش لاننش. وأحسن من قارب هذه المسألة هو الشيخ بابكر بدري. وصف حكومة الإنجليز مرة ب”الحكومة العاقلة” فقال له إنجليزي لماذا لم تقل “العادلة”. قال إن قلت العادلة استدعيت الشريعة الإسلامية ولا عدل عندي بغيرها. وقصد أن العقل مما يأتي من أي أحد أما العدل فلا يأتي إلا من إرادة حرة تقرر مصيرها وفق ما تريد.
وأريد هنا أن أطعن في مثالية خدمة الإنجليز المدنية التي يحلو لصفوتنا إذاعتها بحادثة في ١٩٢٦ تآمرت فيها سكرتارية الحاكم العام بقيادة هارولد ماكمايكل، السكرتير الإداري، للانقلاب على الحاكم العام جوفري آرشر (١٩٢٥-١٩٢٦) انقلاباً حفل بالدس والخساسة. فلم يبق في الوظيفة سوى عام. ما شَهّدوه. ودخل تآمر مرؤوسيه عليه بمرارة ظل يجترها حتى آخر عمره.
استعر صراع آرشر وسكرتاريته حول زيارة الحاكم العام للمهدي في أبا عام ١٩٢٦ انزعج لها مرؤوسوه. فكانوا على خلاف منه يرون اعتزال المهدي لنزوعه بناء القواعد لمهدية جديدة. وفي حسابهم أنها سترجح المهدي عند الحكومة على السيد على الميرغني. وكان ماكمايكل من “شيعة” الميرغني. ومنعاً لاستفزاز الختمية بمثل تلك الزيارة للمهدي في ١٤ فبراير طلبوا من آرشر أن يسبق بزيارة الميرغني في 11 منه. ففعل. كما طلبوا منه أن تكون زيارة أبا غير رسمية تقتصر خطبه فيها على دارج الأمور.
صحب آرشر في زيارته لأبا مستر يودال، مدير كلية غردون، مترجماً وهو من جماعة الانفتاح على المهدي. ولم يصطحب آرشر معه لا مكمايكل ولا ديفز مدير قلم المخابرات. فأرادها كما قال زيارة يتحادث فيها مع المهدي حديث “القلب للقلب” بعد أن سمع من موظفيه. ونقل آرشر للمهدي ما يجب عليه عمل لترضى عنه الحكومة وهو وجوب وقف هجرة أنصاره إلى أبا، وضبط حركة مناديبه الذين يثيرون غضب الإدارة الأهلية في جولاتهم على أنصاره. وخرج آرشر من اللقاء مقتنعاً بأن ما توصل إليه مع المهدي سيرضي سكرتيريه. وأخطأ.
ولم تأت الزيارة غير رسمية كما أراد لها السكرتيرون. ففيها قلد آرشر المهدي رتبة السير وقلد المهدي سيف الملك جون الأثيوبي لآرشر. وبلغ استخفاف آرشر بالسكرتيرين أنه لم يعرض نص خطابه في أبا عليهم. وهو الخطاب الذي وصف فيه المهدي كصديق. واعتذر لهم عن ذلك بقوله إنه لم يخطه إلا في الباخرة في الطريق إلى أبا لا في زحمة الخرطوم. وانتهز المهدي سانحة الزيارة الرسمية من الحاكم العام لإذاعة علو منزلته عند الإنجليز والكيد للسكرتيرين من هواهم ختمياً.
وتربصت السكرتارية بالزيارة. فأرسل السكرتير المالي واسي رسالة احتجاج لآرشر بلغته في كوستي وظاهره فيها الآخرون. وقال في الرسالة إن زيارته لأبا أحرجتهم لخروجها عن المجاملة، كفعله مع الميرغني، إلى الرسميات. وانتقد خطبة آرشر في أبا المنشورة في الصحافة. فقال إن من قرأها لا يملك إلا أن يخرج بالانطباع أنها بين ندين لا بين حاكم وتابع. وأرسل واسي صورة من خطابه لآرشر للمندوب السامي في مصر لورد ليود والقائم بأمر السودان عن انجلترا في مصر. ولم يكترث آرشر لرسالة واسي وصرفها كعينة أخرى من تفكيره المتطرف المعتاد. ولم ير آرشر في زيارته الخطر الذي دقت له السكرتارية الأجراس. وكان واثقاً إنه إذا أفسدت الزيارة ما بينه وبين مثل الميرغني فهو كفيل بكسبه في الوقت المناسب.
وإلى حلقة أخيرة غداً إن شاء الله.
الكلمة مستفادة من كتاب “السودان الإمبريالي” للمؤرخ مارتن دالي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.