ديسمبر وإبريل وأكتوبر: النسب الثوري

0 108

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

أثارني ميل نفر، ومن شبابنا بالذات، إلى استثقال قولنا بأن بأن ثورتهم ذات نسب سياسي وثيق مع ثورتي 1964 و1985. ومع أني لا أعرف من استلهم ثورة أكتوبر بالذات مثل ثوار ديسمبر في تقويمهم الثوري إلا أنه، متي ما كان النقاش فكرياً، تجد من يسلك طريق المفاضلة، لا طريق التنسيب، بين ثورة اليوم وثورات الأمس. فتسمع من يقول إن ثورة ديسمبر ريفية بينما ثورة أكتوبر وإبريل مدينية. أو من يقول إنه لم يكن لثورة أكتوبر أو أبريل مجلس سيادة كمثل ثورة ديسمبر. وأكثر المفاضلة هي من جهة توافر وسائط رقمية لديسمبر لم تكن لتطالها ثورة أكتوبر أو إبريل.

في بعض تلك الأقوال أخطاء تاريخية استحقت التصويب. وفي بعضها خصائص بنت زمنها ميزت، واحدة دون الأخرى أو خالفت بينهما. ولا تثريب.

عندي أن بين ديسمبر كثورة وتلك التي سبقتها في 64 و85 نسب ثوري وثيق تمثل في قيام ثلاثتهما معاً على كيان نقابي مديني. بل ربما انتهينا بهذا النسب إلى مؤتمر الخريجين (1938) الذي في الأصل نقابة للأفندية في إذن الإنجليز له بالنشأة أول أمره. ولم يقبلوا منه تعاطيه السياسة خلال الحرب العالمية الثانية حين غشيته غاشية السياسة الوطنية.

يغرف تجمع المهنيين، كمركز قيادي لديسمبر، من ذاكرة جبهة الهيئات في 1964 والتجمع النقابي في 1985 كقيادتين لحراكات جماهيرية خرجت عن بكرة أبيها لتغيير ما بها في ملابسات أزمة ثورية ضربت النظام القائم. وتعريف الأزمة الثورية هو أنها حالة سياسية لا تكون بها الجماهير غير راغبة بأن تحكم بالطريقة القديمة فحسب، بل ألا يكون النظام نفسه قادراً على الحكم بالطريقة القديمة. وقد تفسد الحالة الثورية وتتطاول وتتخثر وتنكسر إن لم تنشأ قيادة ثورية ملهمة بمثابة “أركانحرب” للثورة. وسترى في حالات ثوراتنا الثلاث قيام هذا المركز ليكون هذه القيادة بما هو تدارك أكثر مما هو استباق.

وأعرض هنا لملابسات قيام كل من جبهة الهيئات (1964) والتجمع النقابي (1985) لبيان نشأتهما في سياق كسياق التجمع النقابي الراهن ليكونا أركنحرب ثورة شعبية خرجت بعبقرية تلقائية لتغيير ما بها.

جبهة الهيئات 1964: انبذرت هذه الجبهة بعد مظاهرة تشييع الشهيد أحمد القرشي صباح الخميس 22 أكتوبر. وجاء الاقتراح بها من هيئة أساتذة جامعة الخرطوم. وهي ما طرأ للأساتذة في باب تبعتهم القيادية بعد معركة ليلة الأربعاء 21 أكتوبر مع السلطات تضامناً مع طلابهم، وقيادتهم لموكب التشييع نفسه. وعرض الأساتذة، الذين كانوا فرغوا من كتابة مذكرة للحكومة تطالب بتنحيها، خطة الجبهة للمحامين ممن كانوا في منازلة مع النظام آخرها في شهر أغسطس 1964 دفاعاً عن أحمد سليمان وفاروق أبو عيسى ممن عُرضا للمحاكمة بتهم الإساءة للمحكمة. فاجتمع الأساتذة بمكتب عابدين إسماعيل، نقيب المحامين، في اجتماع شمل طلاباً وقضاة ومحامين وأساتذة حيث ُعرضت فكرة قيام جبهة للهيئات لقيادة الثورة والإضراب السياسي العام. وانضم الأطباءـ الذين وقفوا بقوة عند حقهم في علاج ضحايا ليلة يوم الأربعاء 21 أكتوبر وحق الضحايا في علاج آمن من تعديات الشرطة، للجبهة بعد تقديم مذكرة ساخنة أخرى للحكومة بالتنحي. وعرضوا دارهم، كما أساتذة جامعة الخرطوم، مركزاً للجبهة. وانتهت الجبهة بإرسال وفد للتفاوض مع جبهة الأحزاب التي كانت تجتمع بقبة الإمام المهدي بأم درمان في يوم 27 أكتوبر.

 

التجمع النقابي (1985)

بذرة التجمع النقابي كانت في اتصالات أجرتها نقابة أساتذة جامعة الخرطوم خلال محاكمة المرحوم محمود محمد طه بالردة وإعدامه في يناير 1985. ولكن التجمع اتخذ شكله المؤسسي في خضم المظاهرات المناوئة للنظام التي بدأت بالجامعة الإسلامية ومعهد الكليات التكنولوجية في 26 مارس 1985. فكان إضراب الأطباء في الخرطوم في 30 مارس احتجاجاً على قتل المتظاهرين وتجريحهم. وخرجت نقابة المحامين للدفاع عن المعتقلين. واجتمع في مساء 1 إبريل ممثلون لنقابات مهنية ليتفقوا على الدخول في إضراب سياسي عام يوم الأربعاء 3 إبريل. وسير الأطباء موكباً للقصر احتجاجاً. وانضمت في الأثناء 30 نقابة للتجمع. وتكونت في 5 إبريل قيادة موحدة للثورة من النقابات والأحزاب. واستبق انقلاب سوار الدهب في 6 إبريل موكب للقضاة والديبلوماسيين تقرر مسيره في نفس اليوم. وكان التجمع النقابي مسرحاً لصراعات أحزاب على أحزاب (أمة إمام إمة صادق، اتحاديون وختمية) ونقابات على أحزاب. وتكون التجمع مؤسسياً مساء 6 إبريل بدار أساتذة جامعة الخرطوم وقوامه المحامون، والمهندسون، والصيارفة، والتأمينات العامة، واتحاد طلاب جامعة الخرطوم.

هذا عرض مرتجل لتكوين جبهة الهيئات والتجمع النقابي لم أرد منه سوى أنهما، مثل تجمع المهنيين، خرجا ليكونا القيادة لانفجار جماهيري في أزمة ثورية. فلم تعد تلك الجماهير لتصبر على أن تحكم بالطريقة القديمة فحسب، بل لم يعد النظام نفسه قادراً على الحكم بالطريقة القديمة. والنقطة الأخيرة من المعادلة مهمة جداً. فقد تضيق الجماهير بالنظام وتسخط بطرائق حكمه القديمة لعقود كما في حال الإنقاذ. ولكنها لن تنفجر بالشكل الواسع الذي رأيناه في أكتوبر وإبريل وديسمبر إلا حين يبلغ النظام من الفشل حداً لم يعد هو نفسه قادراً على الحكم بالطريقة القديمة. ولو لم يتوفر الشرط الأخير، أي شرط تهافت النظام وفشله، لما زاد الناس عن تعبيرات معارضة قوية وشجاعة مصيرها النكسة.

سيكون السؤال المثير حقاً بعد هذا العرض: لماذا تظهر بيننا قيادات المهنيين هكذا في منعطفاتنا الثورية؟ لماذا يبدو وكأنها تتناسخ؟ ما هي ديناميكيتها السياسة والاجتماعية والتاريخية؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.