ذاكرة نكدية تقمعني
كتب: جعفر عباس
.
بعد ان تقرر تخفيف الحظر الكوروناوي، وإلزام “الشباب” بالعودة الى العمل، وقفت أمام دولاب الملابس، وصحت: ما شاء الله .. سنة يا أبو الجعافر.. كل القمصان دي بتاعتك.. يا سلام تلبس وتقدل وتهزم شعبولا في أمور الأناقة، ولكن سرعان ما لكزتني ذاكرتي النكدية: الله يرحم.. نسيت لما كانت عندك جلابية واحدة في المدرسة الابتدائية؟ نسيت البنطلون الوحيد الذي امتلكته طوال المرحلة الثانوية وكان اصفر اللون وهدية من الوالد بمناسبة الانتقال من المدرسة الوسطى الى الثانوية؟ نسيت كيف كنت تشتري القماش من طبالي سعد قشرة ليخيطها جيمس تحت شجرة نيم لتقشر بها في الجامعة؟ نسيت فضيحتكم في اول زيارة للندن عندما هجمتم على محل وجدتم ان أسعار الملبوسات فيه رخيصة جدا واخترت واصحابك عشرات القطع ثم اتضح انه محل غسيل جاف والاسعار الرخيصة هي تسعيرة الغسيل والكي والقرض الني، وكيف وصفكم صاحب المحل بانكم “باستردس”.
كلما نشطت النفس الأمارة بالفشخرة والتباهي نشطت ذاكرتي النكدية، وهكذا ما أن أشكو من ان مكيف الهواء لا ينفث هواء باردا كما اشتهي قالت لي الذاكرة: نسيت لما كانت المزيرة هي مكيف العيلة في رمضان تتمددون تحت ازيارها؟ وما أن أقول ان هذه التفاحة مسيخة حتى ترسم ذاكرتي صورتي وأنا أنهال بيد الفندك على ثمرة دوم لترويضها حتى تصبح قشرتها الخارجية ممكنة الاختراق، وقبل يومين أتاني ولدي بدواء سائل مضاد للحموضة فزجرته لأنه اتاني بدواء كريه الطعم، فصاحت الذاكرة: كان علاجك يوما ما مما يسميه أهلك النوبيون “وتَّاب” وطمام وهو عسر الهضم هو فصد الساقين بالموس حتى يسيل الدم، وحتى في الشفخانات كنتم تقفون في طابور امام مساعد الحكيم فيوزع أصناف الدواء الخمسة المتاحة عليكم بنفس الكوب الصغير دون غسل او تعقيم (بالمناسبة هل صحيح ان فيروس الكورونا صار ضعيفا بعد ان أدمن الكحول وصار طاشما وفاقدا التوازن بسبب استخدام ملايين البشر للمعقمات الكحولية لهزيمته؟).
ما زلت أتذكر إحساسي بالزهو يوم اشتريت من اول راتب بعد التخرج في الجامعة ثلاثة قمصان من محل اسيندكو وحذاء من لاركو، وأذكر أول مرة دفعت فيها 25 قرشا لحلاق في صالون، وقبلها قصصت شعري مرات عديدة تحت الأشجار على أيدي حلاقين متجولين في كوستي، ويا ما داهمنا مفتشو البلدية فيحمل الحلاق عدته ويجري وانت وحظك: قد تجده في موقع آخر وقد تقضي جزءا من اليوم وانت مزعمط.. وكلما اشتهيت بيتزا وتفننت في تحديد عناصرها تذكرت يوم دعتني زميلتي عواطف حمد الى مطعم في لندن ووضع الجرسون امامي قطعتين من قراصة عليهما لغاويز وأحسست بالاستياء ثم بالرثاء لعواطف التي تزور مطعما يقدم بواقي الطعام، ولكنني “قطعت الاستياء في مصاريني” وراقبت الآخرين في المطعم في طريقة أكل ذلك البتاع ثم عرفت أن اسمه البيتزا وان سعره الشيء الفلاني.
(سؤال: عن الشيء زهيد الثمن نقول إنه بتراب الفلوس، ثم ولإشعال الحماس الوطني نتكلم عن حبنا لتراب الوطن والدفاع عن “التراب”، وخلال المعارك في جنوب السودان شكا جندي من ان العدس الموضوع أمامهم مليء بالتراب فزجره الضابط: انت هنا عشان تدافع عن التراب دا، فقال الجندي: ندافع عنه، مش ناكلو).
قبل أيام قال لي ولدي: يا أبوي عربيتك دي قديمة غيّرها، فقلت له أريدها معي لعشر سنوات أخرى وأغيرها ان شاء الله لما عمري يبقى 49 سنة.
ومن نسي قديمه تاه.