رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الخروج من الذات لملاقاة الآخر!
جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
.
كتب: د. الواثق كمير
.
الحلقة (18)
منصور: مُحرك مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية
يصف منصور عمليَّة تأسيس الهياكل التنظيميَّة لتحالف المعارضة، التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، ب“الميلاد العسير”، إذ لا شكَّ أنَّ منصور كان فاعلاً في، ومتابعاً نشطاً لهذه الولادة المُتعسِّرة. وقبل استعراض ما رواه منصور عن هذه العمليَّة القيصريَّة للالتئام، شمل القُوى السياسيَّة (الشماليَّة) المُعارضة لنظام الإنقاذ تحت مظلة تنظيميَّة، من المُهم الإشارة إلى تاريخ تحالفات الحركة الشعبيَّة مع هذه القُوى، وصولاً إلى مُؤتمر أسمرا. فقد ظلت الحركة الشعبيَّة دوماً حريصة على التفاعُل وخلق صلات مع مختلف القوى السياسيَّة والاجتماعية في الشمال، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات، وقبل قيام التجمُّع. ولعبت الحركة دوراً محورياً في جمع هذه القُوى في وقت مبكر في كوكادام (إثيوبيا)، وتحديداً في مارس 1985، ولم يمضِ عامان على تأسيسها، ثمَّ في أديس أبابا مع الاتحادي الدِّيمُقراطي في نوفمبر 1988، أو تلك التي تجاوبت معها مثل اتفاق القصر في أبريل 1989، ثمَّ لقاء القاهرة في مارس 1990، ولقاء لندن في 1992، واجتماعي التجمُّع في أديس أبابا في يونيو ويوليو 1991، ومن ثمَّ إعلان نيروبي في أبريل 1993، وإعلان القاهرة في يوليو 1994 (وقد كان أوَّل اجتماع مع الاتحادي الديمقراطي في أعقاب المُؤتمر القومي الأوَّل للحركة). هكذا، فقد أقامت الحركة الشعبيَّة تحالفات مع جميع القوى السياسيَّة الحديثة والتقليديَّة، بغرض المُضِيِّ قُدُماً بعمليَّة البناء الوطني. ومن الجدير بالذكر، أنه، وللمُفارقة، كان الزعيم الرَّاحل، جون قرنق، يفضل التحالف مع القوى السياسيَّة “التقليديَّة”، على الائتلاف مع القوى “الحديثة”. فقد طرح على قوى التغيير في الشمال، بعد فشل مبادرة “لواء السُّودان الجديد”، خيار العمل في إطار التجمُّع كتحالُفٍ عريض ومفتوح، يوفر مكاناً لكُلِّ قُوى السُّودان الجديد في طريق بناء هذا السُّودان.
ويُشكل هذا الموضوع نقطة خلافية أساسية بين الحركة الشعبية، حيث أنَّ بعض أقسام القوى المنضوية في التجمع تسعى لإقامة تحالف إستراتيجي مع الحركة وإقصاء واستبعاد القوى “التقليديَّة”، وهو توجُّه وصفه الزعيم الرَّاحل بأنه محفوفٌ بالمخاطر. فالحركة تختلف مع هذا التوجه، فربما تكون الثقة في الأحزاب “التقليدية” قد اهتزت ولكنها لم تتلاش، فهذه الأحزاب لها قواعدها الاجتماعية ولذا فإنه لمن المغامرة بمكان العمل على عزلهم. فهناك ضرورة مُلحةُّ لبناء التجمع الوطني الديمقراطي كتحاُلفٍّ عريضٍّ يتيح بداخلة مساحة للقيام ببعض التحركات. ولكن، يبدو أن الصبر قد نفذَّ لدى البعض، كما أن البعض الآخر قليل الاحتمال، ولذا فإن كثيرين يرون أن التجمع لا يتحرك بالقدر الكافي. ولو أن ضيقَّ الصدرِّ بالتجمع مفهومُّ، إلا أنه يُممن تشبيه الأمر بتحريك جبلٍّ. فعلى حدِّ تعبيره: «فقد يقدر المرء استياء هذه القوى من بطء حركة التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، ولكن يجب أن يُؤخذ التجمُّع كتنظيم واسع وفضفاض، ولكنه يتحرَّك كالجبل، فإذا تحرَّك لمسافة مليمتر في الاتجاه الصحيح، فإن ذلك يمثل انجازاً لا يُستهان به”. إذن، القوى التي تؤمن بالسودان الجديد يمكنها أن تعمل في إطار هذه المظلة الواسعة، وتحاول أن تُحرك هذا الجبل، والموقف برمته في إتجاه السودان الجديد. فالبعض قد لا يرغب في التحرك في هذا الإتجاه، ولكن قوة منطق الموقف قد تكون كافية لتحريكهم، وفي بعض الأحيان، الناس تتحرك ليس لأنهم يريدون أن يتحركوا، ولكن الوضع يدفعهم للتحرك، فالبعض قد يتحرك وهو يئن، لكنه يتحرك على كل حال في إتجاه السُودان الجديد (الواثق كمير، “جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد وإعادة بناء الدولة السودانية”، الخرطوم، 2005).
من متابعته اللصيقة لهذه الاجتماعات، كشف منصور أنَّ التجمُّع سقط في وحل التنافر وعدم التماسُك، بالرغم من أن الموضوعات المُحتدم الخلاف حولها قد تمَّت تغطيتها، وذلك بسبب الصراعات الشخصيَّة المُفتعلة خاصة بين حزبي الأمَّة والاتحادي الدِّيمُقراطي. ففي أثناء مناقشة مسودة دستور الفترة الانتقالية (عقب إسقاط النظام)، في اجتماع التجمُّع بأديس أبابا، يوليو 1990، فاجأ مبارك الفاضل الحُضُور بالمطالبة بتحديد أوزان القُوى في البرلمان المُرتقب، مُقترحاً أن يكون التمثيل بنفس النسب التي كانت عليها الجمعيَّة التأسيسيَّة التي حلتها سُلطة انقلاب الجبهة (الذي كان لحزب الأمة الغلبة فيها)، على أن تحتلَّ الحركة مقاعد الجبهة، التي حكم عليها مبارك بالفناء. أثار حديث مبارك هذا غضب وفد الحركة، ممَّا دفع رئيس الوفد، سلفا كير، للرد عليه مُنتقداً عدم استبصاره بالأولويات. فقال له سلفا: «لدينا مثل يقول: قبل أن يصطرع الناس على اقتسام لحم القرنتي (جاموس البحر) عليهم الاتفاق على طريقة قتله»، وأردف أليجا مالوك، عضو وفد الحركة، بقوله: «الحركة لم تكن جزءً من الترتيبات البرلمانيَّة في الماضي، ولهذا لا تعنيها كثيراً أوزان القوى في البرلمان الماضي». وختم، مُوجِّهاً حديثه إلى صاحب الاقتراح: «يا مبارك، نحن نطالب بخمسين في المائة من المقاعد». كان ذلك السِّجال الحاد والنَفَس الحار سبباً في قرار رئيسيِّ الاجتماع (بونا ملوال وفاروق أبوعيسى) بفضِّ الجلسة. ولم ينعقد الاجتماع مجدداً إلا بعد رسالة لاسلكيَّة من زعيم الحركة قال فيها: «دعوا ما يُفرِّق، وانصرفوا إلى الضروري: كيف يُقتلع النظام الذي يحتلَّ الفضاء السياسي، فلا معدى للتجمع عن استرداد هذا الفضاء، قبل التفكير في ممارسة السُّلطة فيه».
خُلص منصور إلى أنَّ تلك القضايا الجانبيَّة، والاختباط في الأولويات، أقعدت التجمُّع عن تحقيق أي إنجاز ما عدا في التحرُّك الدبلوماسي والسياسي الخارجي، والذي رغم أهميته لا يقتلع النظام بمفرده أو يحمله على التنازُل عن غلوائه. لذلك، بعث زعيم الحركة بمذكرة إلى قيادات التجمُّع في 4 أكتوبر 1994، يدعوهم فيها إلى عقد اجتماعٍ على أعلى مستوى بغرض تبادُل الأفكار حول الوسائل المُثلى لتنفيذ تفاهُمات القاهرة في 1990. حملت المذكرة عنوان: “استعراض لأهداف التجمُّع، قصيرة وطويلة المدى”، عبَّر فيها عن ما أسماه بـ«ضعف تنظيم المُعارضة بسبب انشغالها بقضايا هامشيَّة مقارنة بما يجابهها من اهتماماتٍ وأولويات مُلحَّة». وأرفق قرنق رسالته بمقترحاتٍ لجدول الأعمال، على أن يكون الاجتماع في بداية نوفمبر 1994 داخل السُّودان في الأراضي المُحرَّرة، مع عدم ممانعة الحركة في المُشاركة على أساس جدول الأعمال المُقترح في أي مكان بأفريقيا، إذا تعذر عقد الاجتماع في الأراضي المُحرَّرة. طُرحت هراري والقاهرة بديلاً بعد أن انقسمت آراء قُوى التجمُّع حول عقد الاجتماع داخل السُّودان، بين قبول حزب الأمَّة والحزب الشيوعي، واعتراض الحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي. ويعزو منصور هذا الاعتراض على عقد اللقاء في المناطق المحرَّرة بالجنوب للخشية من استثارة الجيش، ممَّا يعني في رأيه أنَّ بعض فصائل التجمُّع لم تكن تدرك مدلولات توازنات القوى الجديدة. فالجيش الذي «كانوا يحذرون إغضابه هو نفس الجيش الذي أسقط النظام الدِّيمُقراطي، أو أُسقِطَ باسمه، كما كان هو القُوَّة الفاعلة التي تتصدَّى للجيش الشعبي (الحليف الجديد للأحزاب) دفاعاً عن النظام الذي اغتصب السُّلطة من تلك الأحزاب» (منصور 2003، نفس المصدر، ص 979).
بعد تعذر التجمُّع في توفير تمويل وفوده للاجتماع في هراري، طلب د. جون من منصور الاتصال بإحدى الجهات المانحة للتعاون مع حُكومة زيمبابوي للترتيب للمُؤتمر، على أن تقوم الحُكومة باستضافته، بينما تتكفَّل الجهة المانحة بسفر المُؤتمرين وطبع وثائق المؤتمر. كان أوَّل اتصالٍ لمنصور مع رئيسة وزراء النرويج، قرو هارلم برنتلاند (التي عمل منصور نائباً لها في رئاسة اللجنة الدولية للبيئة والتنمية، الحلقة 10) التي رحَّبت بالفكرة وكلفت وزير خارجيتها، يوهان هولست، بمتابعة الأمر. ولكن لم تأتِ الرِّياح بما تشتهي السُّفُن، إذ كان واضحاً من الرسائل المُتبادلة مع هولست أنَّ النرويجيين، كغيرهم من الأوربيين، لم يكونوا ينظرون للحرب في السُّودان إلا باعتبارها صراعاً بين الجنوب والشمال. ذلك، بجانب أنه كانت تُؤرِّقهم الصراعات التي نشبت داخل الحركة (انقلاب الناصر في 1991)، ولهذا لم يفهموا مغزى اجتماعِ على هذه الشاكلة تدعو له الحركة، ولا يكون موضوع ذلك الصراع جزءً من أجندته.
في نهاية المطاف، حُسم الأمر باستضافة أسمرا أوَّل مؤتمر للتجمع في يونيو 1995، أي بعد ثمانية أشهر من دعوة الحركة له في أكتوبر 1994. وفي قراءة منصور، أنَّ ذلك الاجتماع انعقد في أعقاب حدثين هامَّين كادا أن يعصفا بوحدة التجمُّع، أحدهُما مُستجدٌ ويتعلق بالتنظيم، والآخر تاريخي يتصل بموضوع جوهري ظلَّ الخلاف حوله محتدماً من قبل استيلاء الجبهة الإسلاميَّة على الحكم: قضية الدين والدولة. الحدث الأوَّل، أنه في ديسمبر 1994 اجتمع كل من حزب الأمَّة، والحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي، وقُوَّات التحالف السُّودانيَّة (التي نشأت حديثاً حينئذٍ)، إلى جانب الحركة الشعبية، وهو ما عُرف بـ“اجتماع القُوى الرئيسيَّة”. وبالطبع حسبت الأحزاب والتنظيمات التي لم تتم دعوتها للاجتماع هذا اللقاء بمثابة تحالُفٍ جديد داخل تحالُف التجمُّع الأوسع استُبعِدُوا منه. أمَّا منصور، فيرى أنَّ حقيقة الأمر ليس كذلك، وهي أنَّ إريتريا قد ضاقت ذرعاً بدعم حُكومة الإنقاذ لمنظمة الجهاد الإسلامي الإريتريَّة، لذلك قرَّرت دعوة اللاعبين الرئيسيين في المُعارضة السُّودانيَّة للاجتماع بغرض الاتفاق على إستراتيجيَّة مُوحَّدة للعمل السُّوداني المُعارض، وأن تُقدِّم كل ما يمكنها لتوفير الدَّعم له. أطلقت الأحزاب التي لم تشارك في الاجتماع اسم “المثلث الذهبي” على الأحزاب الثلاثة الرئيسة (الأمة والاتحادي والحركة)، بينما، للمُفارقة، تعجَّبت من وجود قُوَّات التحالف السُّودانيَّة، حديثة التأسيس، وسط تلك المجموعة. يُقرُّ منصور بأنه لم يكن يدري إن كانت دهشة من لم يُدع للاجتماع تُعبرُّ عن مخاوف وهواجس مشروعة، أم هي غَيْرةٌ سياسيَّة. ومع ذلك، فهو يُرجِّح الافتراض الثاني، أنَّ قُوَّات للتحالف، أصبحت في نظر البعض، هي الابن المُفضَّل للدولة المُضيفة. ويُرجِّح منصور أيضاً أنَّ العسكريين في ذلك الفصيل الجديد (التحالف) خلقوا انطباعاً لدى الإرتريين بأنَّ الضُبَّاط الوطنيين في الجيش كانوا على أهبَّة الاستعداد للانقضاض على النظام الذي استلب الحُكم زوراً باسمهم، طالما توفر لهُم الغطاء السياسي، وأنَّ قيادات التحالف العسكريَّة على صلة وثيقة بجُمُوع الضُبَّاط تلك. من جهة أخرى، كان المدنيون المهنيون في قُوَّات التحالف يتوقون إلى أكتوبر جديد، بعد أن وجدوا في العميد عبدالعزيز خالد ما ظنوه مُعادلاً شمالياً لجون قرنق.
أمَّا الحدث الثاني، فقد نوَّهتُ في الحلقة السابعة أنَّ موضوع العلاقة بين الدِّين والدَّولة من أكثر القضايا الخلافيَّة في اجتماع التجمُّع الثاني بأديس في يوليو 1990، حيث احتدم الخلاف بين وفدي الحركة الشعبيَّة وحزب الأمَّة، إذ اعترض حزب الأمَّة على عبارة “فصلُ الدِّين عن الدَّولة”، وطالب باستبدالها لتقرأ: “عدم استغلال الدين في السياسة”، ممَّا زاد الأمر تعقيداً. منصور كان هُو الشخص الوحيد، الذي سعى لتفكيك العلاقة بين الدِّين والدولة وحثَّ الطرفين للبناء على المُشتركات بشأن هذه العلاقة. سأفصِّل في الحلقة القادمة (17) هذا الدور المفتاحي لمنصور في توفيق الرَّأي داخل التجمُّع حول صيغةٍ لحسم النزاع حول علاقة الدِّين بالسياسة، فهو حقيقة كان مُحرِّك ودينمو مُؤتمر القضايا المصيريَّة.