سلة الغذاء تستورد الغذاء!

0 81
كتب: د. النور حمد
.
نبهني الصديق العزيز صلاح الأمين، في تبادل للرسائل بيننا، بعد أن قرأ عمودي ليوم أمس، حول معايير الاستيراد ورسم السياسات، إلى جانب مهم يتعلق باستيراد السلع الكمالية. ومنها سلع غذائية تستهلكها الشرائح المسيورة الحال، التي ربما لا تتعدى 3٪ من مجموع السكان. ومسألة استيراد السلع الكمالية مسألة قديمة، لطالما احتدم حولها النقاش في برلمانات الديموقراطيات الثلاث التي وأدتها الانقلابات العسكرية. حينها كان الناس يتجادلون حول استيراد السجائر والخمور والمعلبات والأقمشة الفاخرة والعطور، وغيرها. ولم يدخل المجتمع السوداني آنذاك في حالة الجنون الراهنة بمستحضرات التجميل، التي ملأت الأسواق حد التخمة. وأخذت تأكل مقادير كبيرة جدا من العملات الحرة. وهذه لا تمثل سوى جانب واحد من جوانب هدر العملات الحرة على السلع الكمالية. وليس من حق الدولة أن تمنع ميسوري الحال تماما من الحصول على السلع الغذائية الفاخرة، لكن ما معنى استيراد برتقال مصري، على سبيل المثال، أو أجبان ولبن بدرة يمكن صناعتها محليا، وفقا لمعايير الجودة العالمية؟ وقس على ذلك.
لابد من القول هنا أن السياسات الراشدة لا تكون إلا في ظل نظام ديمقراطي، يقوم فيه الجهاز التشريعي بدوره كاملا؛ في رسمها، ومراقبة تطبيقها. وكل الانفلات الذي حدث فيما يتعلق بسياسات الاستيراد، إنما حدث بسبب الأنظمة العسكرية الديكتاتورية. ولابد من القول هنا، إن دكتاتورية عبود كانت أرشد وأنضج في هذا الجانب، من ديكتاتوريتي نميري والبشير. في عهد عبود كانت النظم التي ورثناها من البريطانيين، لا تزال في محلها. كما اهتم القطاع العام بالتصنيع، فكانت مؤسسة التنمية الصناعية. وقامت، حينها، مصانع عديدة، منها: مصنع البلح في كريمة، ومصنع البصل في كسلا، ومصنع الألبان في بابنوسة، ومصنع الكناف في أبو نعامة، ومصنع الكرتون في أروما. إضافة إلى مصنعي السكر في الجنيد وخشم القربة. ونشط القطاع الخاص، أيضا، في مجال التصنيع. وبدأ، حينها، وكأن البلاد تسير نحو تحقيق توازن بين المنتجات المحلية والمستوردة، سعيا نحو تغليب المنتجات المحلية على المنتجات المستوردة. غير أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح. وفي هذا مبحث خصب للباحثين.
جرى تسويق السودان للمستثمرين الأجانب، في فترة حكم نميري، بوصفه سلة غذاء العالم الموعودة. غير أن عدم الاستقرار الداخلي وتقلب السياسات الذي تتسم به عادة الأنظمة الديكتاتورية، جعلت من ذلك النداء صرخة في خلاء قفر. تجنب المستثمرون البلاد بسبب عدم الاستقرار السياسي ونزق السياسات وفساد المسؤولين. وحين نشط الاستثمار العربي في السودان، في أخريات فترة حكم الإنقاذ، جرى وفقا لاتفاقيات مجحفة في حق السودان. لقد كان إهدارا لمياه البلاد الجوفية وإنهاكا لتربتها، بلا عائد يصب في محصلة الصالح العام. وقد جرى ذلك في الخفاء، نظير عمولات ورشاوى لرئيس فاسد ولبعض الولاة الفاسدين. قضت الإنقاذ على الدولة بالمعنى المتعارف عليه، فأصبحت قوفعة فارغة. كانت الدولة عقب الاستقلال وحتى جزء من حكم نميري، هي المتحكم الرئيس في العملات الحرة. وكانت هي التي تمنحها للمستوردين، بعد استيفاء الشروط الموضوعة. لكن حين انهار تماسك الدولة الاقتصادي، وأصبح المستورد هو الذي يحصل على العملة الحرة بنفسه، من السوق الموازي، داخل البلاد، تحت سمع وبصر الدولة، بل وبمباركتها، فقدت الدولة نتيجة لاتساع منظومة الفساد والترهل الإداري العام القدرة على ضبط الاستيراد. وهكذا أصبحت التجارة مع الخارج عالما قائما بذاته يمتع بحرية واسعة . بل، أصبحت ركنا ركينا لما سبق أن أسميته منذ سنوات “الدولة الموازية” . فالسودان اليوم ليس به دولة، ولا يمكن إطلاق إسم دولة، على حالة البلاد الراهنة، إلا مجازا.
كل شيء يجري الآن في السودان تتحكم فيه المصالح الخاصة. فليس للمصلحة العامة أي نصيب في ما آلت إليه سياساتنا الاقتصادية والمالية. فاصحاب المصالح الذين يبنون ثرواتهم على الاستيراد هدفهم الربح. ولا يهمهم أن يتحول المجتمع السوداني إلى مجتمع مستهلك لا ينتج شيئا. وواضح أن الدولة فقدت قدرتها على ضبط المال العام وقوى السوق. وسيبقى شعار سلة غذاء العالم، بل شعار سلة غذاء العالم العربي، أو سلة غذاء نفسه ،مجرد شعار معلق في الهواء. نحن لا تزال نستورد أغذبتنا الأساسية. ومشكلتنا المزمنة هي الغرق في جدل السياسة العقيم، والانصراف عن رسم السياسات الراشدة وتطبيقها بإحكام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.