شؤون وشجون عيدية
لو سألت ألف صبي مسلم دون الخامسة عشرة: ما هو العيد الكبير؟ لقال نحو تسعمائة منهم إنه عيد الفطر، وربما يعزى ذلك إلى أن عيد الفطر يعقب شهرا مميزا (رمضان) من حيث عدد ونوعية الوجبات، ويتم الاستعداد لذلك العيد قبل حلوله بعدة أيام، وتستطيع حتى الأُسر المعسرة توفير بعض الحلوى والمعجنات لأفرادها وضيوفها، بينما يعتبر عيد الأضحى شأنا يخص في غالب الأحوال رب البيت، ولا يسبق الاحتفال به كثير تحضير، وقد يتم فيه ذبح أضحية، وقد لا يتم حسب الظروف والأحوال المادية.
يمر أهل السودان، ومنذ سنوات بضوائق اقتصادية تأخذه برقاب بعضها البعض، ولكن غالبيتهم تحسب أن عدم التضحية بكبش سمين في عيد الأضحى مثلبة اجتماعية، ولهذا يضعون خططا طويلة الأجل أو يلجأون للاقتراض لتوفير ثمن الكبش، ولك أن تعجب كيف لبلد فيه ما يربو على الـ 120 مليون رأس من البهائم والماشية أن يعاني أهله الذين لا يزيد عديدهم عن الأربعين مليون، شتى صنوف العنت لأكل اللحم حتى في غير العيد (وإن سمعتم وأنتم في رحلة في الخلاء/ بأن قوما عطاشاً بالقرب من شط ماء/ ماتوا ولم يستطيعوا ري النفوس الظماء/ فلتضحكوا إن سمعتم بمثل هذا الهراء) وهو ليس بالهراء المثير للضحك بل هو أمر واقع.
في أجواء السودان المتوترة منذ سقوط نظام عمر البشير، يحرص أنصار الحكومة الجديدة على تعداد إنجازاتها في معرض الرد على مؤيدي النظام البائد الذين يعددون إخفاقاتها، ومن باب الكيد لفلول نظام البشير صاغ أنصار الحكومة الحالية عبارة “شكرا حمدوك”، وعبد الله حمدوك هو رئيس الوزراء الحالي، وفي ظل الضائقة الاقتصادية التي أقعدت الكثير من السودانيين عن شراء خروف الأضحية جاء خصوم حكومة حمدوك بلوحة يرفعها عدد من الخراف تقول “شكرا حمدوك”، باعتبار أنه من حقن دماء الخراف بأن جعل المواطنين عاجزين عن شراء الأضاحي.
خلال عملي في صحيفة الاتحاد في أبو ظبي انضم إلينا زميل سوداني كان قد تزوج قبلها بشهرين أو ثلاثة، وحل عيد الأضحى فقرر أن يحتفي به كما يليق برب عائلة، ودعا بعض العزاب إلى تناول الإفطار في بيته، وتوجه إلى مسلخ البلدية ووقف بخروفه في طابور الذبح الذي كان يتحرك ويتقدم ببطء، فخارت قوى بعض الخراف التي كانت منهكة أصلا، لكونها جاءت بحرا من أستراليا في رحلة استغرقت قرابة أسبوع، وكان خروف صاحبنا من بين تلك التي تمددت على الأرض طلبا للاستجمام.
ظل صاحبنا يسحب الخروف من قرونه ويجره جرا حتى اقترب من القصاب وقد خارت قواه هو أيضا، ورأف القصاب لحاله وتقدم نحوه لمساعدته على جر الخروف إلى نقطة الذبح، وانحنى القصاب، وكان هنديا، للإمساك بقدم أمامية للخروف ثم نظر إلى صاحبي وهتف: هادا كروف في موت! ولتأكيد ذلك قلب الخروف في كل الاتجاهات حتى وافقه جميع من كانوا في المقصب بأن الخروف مات بالفعل، فما كان من صاحبنا إلا أن انهال ضربا على الخروف بمقدمة حذائه وهو يصرخ: شوفوا التافه دا.. جاي من أستراليا كي يموت عندي؟ حاولت أن أسْري عنه بدعابة أن خروفه الراحل كان حساسا ولم يتحمل قلبه المرهف مشهد الدماء فأصيب بنوبة قلبية لم تمهله طويلا، ولم ترق له الدعابة ورأيت الشر والشرر في عينيه.
انبرى كثيرون كانوا في طابور الذبح لمواساة الرجل المكلوم، ومنهم من قال له إن أضحيته مقبولة لأنه تقدم إلى ما بعد “نية الذبح”، وبعضهم عرض عليه قطعا كبيرة من لحوم خرافهم، ولكنه قال إنه يجب أن يتصرف كرب بيت في أول عيد له متزوجا، ويضحي بكبش سمين، فكان أن أقرضه احدهم المال اللازم لشراء الخروف البديل، ورأى صاحبنا أن يلعب على المضمون، واصطحب القصاب إلى حيث وقف الخروف البديل لجزء رقبته بعيدا عن المسلخ “الرسمي”.
من طقوس استقبال عيد الأضحى في السودان إعداد مشروب من منقوع التمر يحمل اسم الشربوت، وكي يستحق المشروب ذلك الإسم يجب تعاطيه بعد يوم أو يوم ونصف اليوم من نقع التمر في الماء، ولكن بعض من يعدونه بكميات تجارية لا يتمكنون من شرب كامل الكمية خلال تلك المهلة، ويتعاطونه في اليوم الثالث او الرابع، وعندها يكونوا قد وقعوا تحت طائلة “ما أسكر كثيره فقليله حرام”.
واختتم بواقعة تعرض أستاذ الاقتصاد الراحل بروفيسور فاروق كُدودة قبل نحو عشرين سنة للفصل من هيئة التدريس بإحدى الجامعات السودانية، وسأل نفر من زملاء كُدودة مدير الجامعة عن سبب الفصل فقال: إني رأيت في المنام أني أفصله، وتم رفع الأمر إلى المحكمة التي قضت ببطلان قرار الفصل، وفي يومه الأول عائدا إلى أسرة التدريس تقدم كدودة باستقالته، مثيرا بذلك التساؤل: ولماذا تكبدت عناء مقاضاة مدير الجامعة وأنت عازف عن العودة إليها محاضرا؟ فكان رده عليهم أنه تقدم باستقالته خشية أن يأتي يوم يرى فيه المدير في المنام “أني أذبحك”.