“صه يا كنار”: وعرفت أخلاق النجوم

0 102
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
طربت في احتفال العيد الخمسين للاستقلال في 2006 لقول الأستاذ أحمد أدهم بالتلفزيون بأن ما يميز “صه ياكنار” أنه نشيد غير إيدلوجي أو متحيز لفريق دون آخر. وقد أجاد حين واصل القول إنه حتى “صرخت روت دمي”، وهو نشيد مؤتمر الخريجين الرسمي، إيدلوجي لأنه يقول” أمة أصلها للعرب ودينها خير دين يحب”. كما أعجبني قول الدكتور أنس العاقب الذي كاد يعتبر فيه “صه ياكنار” محض موسيقي من الدرج الأعلى. وهذا حجة في حيدة النشيد الجميل المتجاوز للقيل والقال السياسي.
وتسمرت مرة أمام اللابتوب عند بوست للأستاذ يحي قباني على السودانيزأونلاين جاء فيه بتسجيل نادر ل”صه يا كنار” بأداء الكابلي وأبو عركي. وغنى فيه الكابلي مقطعاً من القصيدة لم أسمع به من قبل عند سائر المؤدين لها. ولم يكن بوسعي الرجوع إلى ديوان الصاغ محمود أبو بكر (أكواب بابل من ألسنة البلابل) لمواضعة المقطع على أصل القصيدة. والمقطع عجيبة العجائب رسخت به قناعتي أن “صه يا كنار” ليس نشيداً وطنياً. وإذا كان لابد من نسبته إلى الوطنية المعروفة لقلنا عنه إنه “سيوبر وطنية”. فجاء في المقطع بصوت الكابلي الفصيح الأغر:
“أنا يا كنار مع الكواكب ساهر، أَسري بخفق وميضها المتعدد، وعرفت أخلاق النجوم، فكوكب يهدي البيان، وكوكب لا يهتدي، وكويكبٌ جمُ الحياءِ، وكوكبُ يعصي الصباحَ بضوئه المتمرد”
ولم أتمالك نفسي. لم أصدق أن بوسع الشعر أن يطالع “أخلاق النجوم” فيبسطها بسطا. وبدا لي في هذا المقطع طلوع على “الكفر” الشعري الذي هو سلطنة. وتعجبني في أماديح الكباشي التي تتقحم السيريانية لأن اللغة قاصرة في حضرة من يهوى. ولم أرتو من إصاخة السمع مكرراً لأخلاق هذا الكوكب:
(وكوكب يعصى الصباح بضوئه المتمرد)
وسألت: هل قيل مثل هذا من قبل يا ربي! لا حول الله.
وهذ تعليقات ممن سمعوا الأبيات التي صدح بها الكابلي واستهاموا.
فعلق الأستاذ كُبر علق في سودانيزأونلاين على مقطع الكابلي المبتكر. وصرعه البيت:
“وكويكب جم الحياء”
وأضاف إن “الطلع ديكنا ذاتو حكاية وكويكب جم الحياء”. واتفق كب معي ومع محمد أدهم أن “صه يا كنار” ليس نشيداً وطنياً: “ياخي دي لا عندها علاقة بوطنية ولا يحزنون”. بله، هي عندي وطنية لم نكتشفها بعد. فلربما هي من قواف المتنبي التي ادخرها لسيف الدولة. فهن لا يختصصن من الأرض دارا، كما قال، ومتى أطلق عقالها “وثبن الجبال وخضن البحارا”. وتسري إلى مناح لم يطرقها قمر من قبل. وهذه حالة ندرت من التنزيل الشعري.
وعلق محمد عبد الملك على قولي أن “صه يا كنار” ليس نشيداً وطنياً فكتبت له:
بالطبع “صه يا كنار” عندي حداء وطني. ولكن قصدت بأنه “سيوبر وطنية” بمعنى أنه صنف آخر منها. ويخطر لي عن كشوف “صه يا كنار” الوطنية، متى واليناها، بمقطع من التجاني يوسف بشير: “نفتح الكون بالقصيد”، لو صح تذكري. إننا ما زلنا نطرب لصه يا كنار وحسب. ولم نتمل مشموله الثقافي الكامن. وها هو الأستاذ محمد عبد الملك يراجعنا في اسم الطائر نفسه وصحته. والقول ما قاله. ف”كنَار” بالفتح ليست عربية. واسم الطائر الذي استدعاه الشاعر هو “الكناري” على جزر الكناري الأطلنطية التي في حوزة أسبانيا. ولكن “كنَّار” بالتشديد وردت في معجم الحيوان لأمين معلوف. وقد تفسد عروض البيت إذا التزمناها. وبقيت كنَار في صه يا كنار جائزة بالرخصة الشعرية.
ولكن لذلك ثمنه. فقد فتشت لطائر قصيدتنا في قوقل فلم أجده في المنشور عن طير الكناري. وكلما اتسعت معرفتي ب”الكناري” ساغت لي دعوتي العناية ب “صه” كقصيد عجيب. وتخيلت أن ندرجه في منهج مدرسي يبدأ بقراءة النص بصوت الكابلي الريان باللغة. ثم نواصل بإسماع الطالب تغريدة الكناري العذبة كما هي في قوقل. وربما حفزنا فيهم الحس بالطيور وتربيتها ومعرفة مساراتها.
وربما استعنا بصه يا كنار لتبليغ الإنجليزية بيسر ومتعة لتلاميذنا. فوجدت مثلاً طريفاً حول الطائر ستمتعهم قصته. وهو المثل الإنجليزي “كناري في منجم فحم” ( living like a canary in a coal mine ). فكان من عادة إدارة المناجم قبل تصنيع تقنيات تهوية أنفاقها الحديثة أن تزود المنجم بطائر الكناري في أقفاص. فمتى ظل الطير يغرد اطمأن العمال أن مددهم من الهواء مستمر. ولكن متى نفق الطائر وصمت هرولوا خارج المنجم لأن الطير أسرعنا حساسية للغازات القاتلة. ولم تنته هذه الممارسة إلا في 1986 في انجلترا. والمثل في دلالة أن تعيش حياة قصيرة ولكن ذات معني تموت فيهل ليحيا آخرون. وقس على ذلك من الأكوان التي تتفتح لنا من عذوبة هذا التنزيل الشعري النادر في عشق الوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.