ضَوْءٌ عَلَى السُّودَانَوِيَّة (1 ـ 2)

0 71

تَطْبِيقاً عَلِى النَّمُوْذَجِ الجَّنُوْبِي
(لِلخُروجِ من حَالةِ الجَّوْرَبِ المَقْلوب!)*

.

كتب: كمال الجزولي

.

(1)
نشر صديقي عبد الله علي إبراهيم، في الأسبوع الأوَّل من ديسمبر 2020م، كلمة مغرقة في التَّجنِّي، على غير عادته، ينكر فيها على «السُّودانويَّة» أبسط مقوِّمات الوجاهة الفكريَّة، كونه، في ما قال، لا يعرف دعوة مثلها أفسدت «خطاب الهويَّة»، فهي، عنده، «لا دعوة، لأنها تصف حالة كوننا سودانيِّين لا غير، كما تصف بريطانيا البريطانيِّين»! وعلامة التَّعجُّب منِّي، كون مؤدَّى هذه العبارة لا يعني سوى أن الدَّعوة إلى فهم الظاهرة على ما هي عليه دون إحالتها إلى حالة أو أخرى، هي «لا دعوة»، وهذه «بشتنة» لفهوم الآخرين لا تليق بعبد الله! ومن سنخ ذات هذه «البشتنة» المجَّانيَّة أن «السُّودانويَّة»، عنده، ليست سوى «صفقةٍ» يريد بها أصحابها «رأب الصَّدع السُّوداني، كيفما اتَّفق، مضربين عن أيِّ اعتبار للثَّقافة التي هي لبُّ الهويَّة»! واستنتج عبد الله من ذلك أنهم يرومون «صلحاً» بين عرب السُّودان وأفارقته، «في طقس سياسي يخلع عن كليهما هويته (الثَّقافيَّة) جزافاً»! ولإثبات وجود «هويَّة ثَّقافيَّة عربيَّة» في البلاد، دحضاً، أو قل «شيطنةً» لمسعى «السُّودانويِّين»، فلكأنهم، أصلاً، جحدوا هذه الهويَّة، مضى عبد الله يستنظف بعض الشَّواهد، كأبيات المرحوم حسن بابكر الحاج في مناسبة ميلاد طفلته: «يا بسمة الصُّبح العليل تهبُّ من علياء نجد»، ليشْبُطَ في لفظ «نجد»، على منهج الشَّيخ عبد الله عبد الرحمن الضَّرير «العربيَّة في السُّودان»، متسائلاً كيف يستقيم فهم هذا البيت بغير اعتبار لموضع «نجد» العربيَّة فيه، أو بلا تذوُّق لـ «بنية العاطفة» وراءها؛ ثمَّ جلب، إلى ذلك، استشهاد السَّفير خالد فرح بغناء بنونة بت المك في أخيها: «أسد بيشة المِكَرْبِتْ قمزاتو متطابقاتْ»، حيث «بيشة»، وهي مأسدة في جنوب الحجاز، راسخة بقوَّة في الذاكرة العربَّية بالسُّودان، كما قال، وهلمَّجرَّا، فلكأن زعم المستعربين السُّودانيِّين
الانتماء الهويوي إلى الثَّقافة العربيَّة يمتنع بغير هذه الإحالات المركزويَّة! وفي الختام يهزُّ عبد الله ويرزُّ في وجوه «السُّودانويِّين» بأن «من أراد خلع عليِّه فليفعل، ولكني لن أخلع معاويتي»!
فليطمئن الصَّديق العزيز؛ طرح «السُّودانويَّة»، أصلاً، لا يقوم على «مفاضلة» بين الانتمائين الثَّقافيَّين العروبي والأفريقاني، بل لعلَّه، للمفارقة، يقاوم، أساساً، هذه «المفاضلة» التي يسعى لتحاشيها، والتي لولاها لما احتجنا لأن نتنازع الغناء بين «إلى العُرب تُنسبُ الفطنُ»، وراء العطبراوي، و«أنا أفريقي أنا سوداني» وراء الكاشف! أمَّا حكمه على «السُّودانويَّة» بأنها انصراف عن «اعتبار الثَّقافة لبَّ الهويَّة»، فتأليف غريب عن حيثيَّات دعوتها الحقيقيَّة كما سنرى بعد قليل، بل هو حكم، للمفارقة أيضاً، موغل غربة حتَّى عمَّا عهد النَّاس في منهج البحث لدى عبد الله نفسه، فلو كان كلف خاطره، ونظر، ولو عابراً، في ما كتب أهل «السُّودانويَّة»، أو مَن عرضوا لها، طوال السَّنوات الماضية، بالقراءة العادلة، والتَّعليق المنصف، لكان خلص، بالقطع، إلى تقدير أدقِّ وأفضل من أن يبدو كما لو أنه انتبه، فجأة، إلى خلل فيها، بعد نيف وأربعين سـنة منذ أن قدَّمت طرحها أوَّل مرَّة!
فلأن ذلك كذلك، ولأن عبد الله مِمَّن لا يجوز إغفال كلامهم، فقد اخترت، بدلاً من خوض مناقشة جديدة لكلمته، أن أستعيد، هنا، نشر إحدى بواكير مقالاتي حول المسألة، والتي لم يكن مستغرباً أن تستند، في بعض مرجعيَّاتها، إلى عبد الله نفسه (!) وإن كانت تنصبُّ، في معظمها، على نموذجِ «الحالة الجَّنوبيَّة»، مقدِّراً أنها ربَّما تفي للرَّدِّ على تلك الكلمة، ومركِّزاً، بالأخص، على الجَّوهري الأهمِّ فيها، وهو اتِّهامه لـ «السُّودانويَّة» بالاقتصار على «السِّياسي»، وإهدار «الثَّقافي» الأكثر تأثيراً على مسألة «الهويَّة»، والوعي بالذَّات، وبالآخر، مِمَّا ينطوي على التَّجني الذي أشرت إليه في فاتحة هذا الرَّد، وقلت إنني لم أعهده فيه من قبل، حيث معكوس حكمه متاح تحت قدميه، مباشرة، لو كان تفضَّل ونظر!

(2)
الشَّاهد أنني كنت كتبت، عام 2002م، أنه، سواء انتهت، آنذاك، أم لم تنتهِ، إلى أىِّ شئ، مفاوضات مشاكوس، التي كانت جارية بين النِّظام البائد وبين الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان، بقيادة الرَّاحل جون قرنق، فإن أحكَمَ ما كان يتوجَّب أن نحيطها به من نظر هو أن نكُف عن اعتبارها «يوم قيامة سياسي»، ينجرد فيه «الحساب الختامي» لـ «الحالة السُّودانيَّة»، وتنغلق «الدَّفاتر» كلها، ويجرى تبادل «المخالصات» النِّهائيَّة، لمجرَّد أن شركاء «الإيقاد»، وأصدقاءها، يريدون ذلك! فمشاكوس، في واقع الأمر، مناسبة أخرى من مناسبات صراعاتنا السِّياسيَّة التي كان ينبغي أن نتصدَّى، وحدنا، لتحمُّل عبء مجابهتها، وتدبيرها، وحسمها. على أننا، وكعادتنا المرذولة، للأسف، لم نحسن شيئاً من ذلك كله، ربَّما لأن أحداً، فى «الإيقاد»، أو «شركائها»، أو «أصدقائها»، ممَّن مكَّنَّاهم، بغفلتنا، من الأمر كله، لم يحفل، أصلاً، بإشراكنا فيه! ولا يتوهَّمنَّ كريمٌ أن ضمير المتكلمين، هنا، عائدٌ، فقط، إلى قوى المعارضة، فثمَّة أكثر من سبب للاعتقاد بأن الحكومة والحركة نفسيهما ما انفكَّا يتزحزحان، على طاولة تلك المفاوضات، وفق برنامج محسوب، من خانة «الذَّات» إلى خانة «الموضوع»! وما الطـريـقـة الدراماتيكـيَّة التي أخـرج بهـا «الاتِّفـاق الإطـاري» فـي خـتام الجَّـولة الأولـى (2002/7/20م) ببعيدة عن الأذهان!
صحيح أنه لا جدال، البتَّة، في أننا نعيش في عالم يزداد تقارباً، وانشغالاً بأحوال أطرافه، مهما ترامت وتناءت، وأن أهمَّ ما يهمُّ أقوياءه هو إطفاء بؤر النِّزاعات المشتعلة فيه بأسرع ما يمكن، نسبة لما تُكبِّدهم عمليَّة الإطفاء من كلفة مبهظة في ما إذا أهمل الحريق، وترك ليستفحل! لكنه، في نفس الوقت،عالم منقسم من جهة المصالح، والفكر، والأجندة، والسِّياسات، أقله قوى إمبرياليَّة تحتقب أجندات أطماعها، ومقوِّمات بطشها المادِّي، وأكثره شعوب كادحة ما تزال تراكم عناصر نفوذها المعنوي، والخلط بين الفسطاطين غشامة في أفضل التَّقديرات!
لذلك، ولأن من يفرِّط فى أجندته الوطنيَّة، لا يعود ثمَّة سبيل أمامه لذمِّ الأجندات الأجنبيَّة، فإن الأمل يبقى معقوداً بالمدى الذي نستطيع فيه الإفاقة على حقيقة أن ما ظللنا نصطلح عليه بـ «مشكلة الجَّنوب» هو، فى الواقع، مجرَّد ملمح أعلى صوتاً لمشكلة بنائنا الوطني بأسره. فهل كفَّت «الوحدة»، نهائيَّاً، عن أن تكون خيارنا المصيري؟! ألم يتبقَّ لنا، حقَّاً، سوى المفاضلة البائسة بين «انفصال» مأساوي، وبين «وحدة» بشعرة معاوية لا نجد فى أيدينا ما يدعمها غير هذه الحفنة من التَّدابير الإجرائيَّة العجفاء (منصـب النائب الأول، وضع العاصمة القوميَّة، التَّرتيبات الأمنيَّة .. الخ)؟! أين، تراه، موقع العامل «الثَّقافي والنَّفسي التَّاريخي» من إعراب هذه التَّدابير التي لا يتوقَّف وسطاء «الإيقاد» عن اجتراحها بلا هوادة؟‍‍!‍
(3)
لقد شاع التَّأكيد على عناصر «الوحدة» بين مفردات منظومة التنوُّع السُّوداني لدى أغلب الباحثين والكاتبين، بما يعفينا، في سياق هذه المقالة، من الخوض في تفاصيل اقتران «الثَّقافي» بالسِّياسي، على طول خطوط التَّاريخي، والجُّغرافي، والاقتصادي، والاثني، وما إلى ذلك، خلال القرون الخمسة الماضية. على أننا نرى أنه، وبرغم علوِّ ضجَّة السِّياسي، وسط هذه العوامل مجتمعة، فلا يزال هنالك ما يحمل، بوجه عام، على التَّجرُّؤ بالقول إن ثمَّة مشكلاً «ثقافيَّاً» كامناً، يقيناً، خلف كلِّ مشكل «سياسي»، في ما يتَّصل بقضيَّة «الوحدة» فى بلادنا، وما ذلك إلا لشدَّة ارتباط «الثَّقافي» بمسائل «الهويَّة»، والوعي بالذَّات، وبالآخر، والاحساس المشروع بالتَّميُّز، قبل أن يُخرج الاقتصاد السِّياسي، من فوق كلِّ هذا، أثقال قسمة السُّلطة والثَّروة .. الخ.
ولكون «الثَّقافي التَّاريخي» هو، في المحصلة النِّهائيَّة، المختبر الأدقُّ لقياس رغائب الناس الحقيقيَّة، والتَّعبير الأكثر صدقاً في تفسير دوافعهم وخياراتهم، فإن ضجيج التَّعانف السِّياسي في ما يتَّصل بـ «مشكلة الجَّنوب»، على كلا المستويين الحربي والسِّلمي، عاجز، في هذا المنظور، عن إخفاء حقيقة أن المقومات «النَّفسيَّة/الثَّقافيَّة» لـ «الوحدة» تظلُّ، بالنِّسبة للجَّنوبيِّين بعامة، والمثقَّفين منهم بخاصة، أقوى من دواعي الانفصال المتهومين به في مستوى سياسة المركز الرَّسميَّة، كما وفي مستوى الوعي الاجتماعي السَّائد في الشَّمال.
تلك هى الفرضيَّة الرَّئيسة التي تتحرَّك منها هذه الكتابة، والتي ربَّما تكفي أعجل نظرة مستبصرة لتَّاريخنا الحديث للتَّدليل عليها، فعلى سبيل المثال:
(1) لم تحُل ذاكرة الرِّقِّ التَّاريخيَّة، وتأثيراتها السَّالبة على صورة العربى المسلم عموماً منذ عشرينات القرن التَّاسع عشر، دون أن تتبلور صورة الإمام المهدى، عليه السَّلام، كابن للرُّوح المقدَّس دينق لدى الدينكا، مثلاً، وانخراطهم، من ثمَّ، فى حربه الثَّوريَّة ضدَّ الاتراك، بصرف النَّظر عن العوامل الأخرى التي أدَّت لانقلابهم، لاحقاً، لمقاومة المهديَّة!
(2) وبرغم ما سمِّى بـ «السِّياسة الجَّنوبيَّة» التى استندت إلى تلك الذاكرة، والتى اتَّبعتها الادارة البريطانيَّة منذ بداية الحقبة الاستعماريَّة مطلع القرن العشرين، وأقامت هيكلها الأساسى على ترسانة من القوانين والإجراءات الرَّامية لاستبعاد المؤثِّرات الشَّماليَّة، وإعاقة التَّقارب بين الشَّطرين، كـ «قانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م»، و«قانون المناطق المقفـولة لسنة 1929م»، واللذين قصد منهما أن يصبح الجَّنوب، فضلاً عن جبال النوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، أرضاً أجنبيَّة بالنِّسبة للسُّوداني الشَّمالي، وإلى ذلك «قانون محاكم زعماء القبائل1931م»، وفرض الانجليزيَّة لغة رسميَّة فى الجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّمالية على أهله، وابتعاث الطلاب الجَّنوبيين لإكمال تعليمهم في يوغندا، وغيرها من القوانين والإجراءات السِّياسيَّة، برغم ذلك كله فإن الأمر لم يحتج، بعد قرابة نصف القرن، إلى أكثر من إبداء حسن النِّيَّة، والوعد بتلبية أشواق الجَّنوبيِّين للحكم الفيدرالي، كيما يصوِّت نوابهم، في أوَّل برلمان سوداني، مع استقلال السُّودان الموحَّد.
(3) وبرغم تدشين الأجندة الحربية الدَّمويَّة ابتداءً من 1955م، واستمرار العدائيَّات النَّاشئة من خراقة السِّياسة الشَّمالية التَّقليديَّة تجاه الجَّنوب، وقصر نظر المواقف الجَّنوبيَّة، النخبويَّة منها تحديداً، تجاه الشَّمال، عسكريَّة كانت أم مدنيَّة، فإن صوت التَّعبيرات الوحدويَّة، على تفاوتها، لم يخفت عبر كلِّ تلك الفترات، سواء في مؤتمر المائدة المستديرة، عام 1965م، عقب ثورة أكتوبر، أو في اتفاقيَّة أديس أبابا 1972م، أو على هامش كلِّ المواجهات المتواصلة منذ 1983م.
(4) وبرغم المكابرة السِّياسيَّة الواضحة في إصرار أقسام مهمَّة من الانتلجينسيا الجَّنوبيَّة على تضمين الانجليزيَّة في النصوص الدُّستوريَّة لغة رسميَّة للجَّنوب، بل وبلوغ الأمر ببعضهم إلى اقتراح السَّواحيليَّة لغة قوميَّة هناك (Sir Anaye, Nile Mirror, Feb. 1974)، إلا أن كلمة «الثَّقافي» الحاسمة مضت في هذا الأمر، بحيث راح اقتراح السَّواحيليَّة يضمر حتَّى تلاشى تماماً، وانحصرت الانجليزيَّة بين أقليَّات النُّخب المتعلمة، وهي ليست لغة أفريقيَّة بأىِّ معنى، بينما واصلت اللغات المحليَّة أداء رسالتها، من جهة، وتكرَّس «عربي جوبا»، من جهة أخرى، لغة تواصل lingua franca في قاعدة المجتمع الجَّنوبي بين قوميَّاته المختلفة، على غرار «عربي أم درمان» في الوسط، والشَّمال، وربَّما في أوسع مناطق البلاد، وكان لإذاعة أم درمان، وبالذَّات لـ «أغنية أم درمان»، الفضل الأعظم في ذلك؛ والعربيَّة، من قبل ومن بعد، لغة أفريقيَّة حملها «الجلابى .. إلى الجَّنوب منذ 1878م، ووزَّع مفرداتها، وصيغها، مع بضائعه، وقد وجدت فيها قبائل الجَّنوب (وجبال النُّوبا) .. لغة تتفاهم بها (حتَّى) في ما بينها» (عبد الله على ابراهيم؛ الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان، عزة للنشر، الخرطوم 2001م، ص 40). ومع الاقرار بأن هذا كله لا يزال أقصر من قامة المعالجات المطلوبة فى إطار التَّخطيط الثقافي واللغوي الدِّيموقراطي الرَّاشد، إلا أننا «.. لسنا بحاجة إلى اعتساف هذا التَّطوُّر الحر والموضوعي بصيغ دستوريَّة .. تنطوي على الإكراه» (نفسه).
(5) ضف الى ذلك الملاحظة السَّديدة التي لم تغب عن تحليلات واستنتاجات الكثير من الكتَّاب والسِّياسيِّين حول ظاهرة نزوح أكثر الجَّنوبيِّين شمالاً، هرباً من الفاقة، وويلات الحرب، مقارنة بالقليل منهم الذى لا ينزح جنوباً إلا اضطراراً.
(6) وقد استندتُ، في أكثر من مناسبة، إلى الملاحظة السَّديدة التى كان أبداها لى صديقي الشاعر المفكر الراحل سر أناي كيلويلجانق، عليه رحمة الله ورضوانه، حول أن معظم اللغات الجنَّوبيَّة تحوي مفردة «جورشول»، بمعنى «الغريب»، فى الإشارة إلى اليوغندي أو الزائيري مثلاً، فى حين تستخدم مفردة «مندوكورو» في الإشارة إلى السُّودانى المستعرب الشَّمالي.
(7) ومن ملاحظات سر أناي، أيضاً، ذات الدَّلالة القويَّة، أن إحساس الجَّنوبي، وهو يتجوَّل في مدن الشَّمال، إنما هو إحساس من يتجوَّل في أرض تخصُّه، بعكس مشاعر الغربة التى ما تلبث أن تلفه بمجرد أن تطأ قدماه أرض أيِّ بلد أفريقي آخر! فلا يعود سائغاً ترويج الإعلام الرَّسمي، فى سياق سياسة «العدائيَّات»، لعبارة جون قرنق الشَّهيرة بأنه يشتهي أن يشرب القهوة في المتمَّة، أو نحو ذلك!
(8) وحتَّى في مفاوضات مشاكوس المار ذكرها، منذ يونيو 2002م، بين الحكومة وبين الحركة الشَّعبية/الجَّيش الشَّعبى، وبرغم مثالبها الكثيرة، أو ما يحيط بها من صراع جنوبىٍّ ـ جنوبىٍّ، وشمالىٍّ ـ شمالىٍّ، أو ما قد يلوح فيها أحياناً من ميل مظهري للمفاصلة، إلا أن عين السَّخط وسوء النيَّة وحدها هي التى لا تستطيع أن تلمح، خلف كلِّ ذلك، طيوف رغبة جنوبيَّة حقيقيَّة فى «الوحدة»، وإن كانت بأشراط أكثر غلظة!
(4)
ظلت حكومات «الجلابة» المتعاقبة في الخرطوم، منذ الاستقلال، أسيرة للنُّقوش، والظِّلال، والتَّلاوين التَّقليديَّة، في صورة الذَّات كما تشكَّلت تاريخيَّاً لدى الجَّماعة السُّودانيَّة المستعربة المسلمة، ونخبها المختلفة، خصوصاً على الشَّمال النِّيلي، وامتداداته إلى المثلث الذّهبي (الخرطوم ـ كوستي ـ سنار)، وهي النُّقوش، والظلال، والتَّلاوين التى لطالما بلورت وعي هذه الجَّماعة الزَّائف بتوطُّنها النِّهائي في العِرْق العربي الخالص، واللسان العربي الخالص، والثَّقافة العربيَّة الاسلاميَّة الخالصة، قبل أن تدفع تأثيرات اندغامها فى ملابسات حركة التَّحرُّر الوطني بأقسام مهمة منها إلى البدء فى الاستشعار الخافت لنبض العنصر الأفريقي ضمن مكوِّنات هذا الوعي دون أن يغلب عليه من الجَّانب الآخر. وليس من العسير تلمُّس ملامح صورة الذَّات هذه فى أساسيات المنهج الذى اتَّبعته عام 1956م لجنة التحقيق فى الأحداث المأساوية التى وقعت فى توريت وغيرها عام 1955م، بين يدي الاستقلال. فلقد ركزت تلك اللجنة تركيزاً شديداً، كما لاحظ فرانسيس دينق مثلاً، بحق، على ما يفرِّق لا ما يجمع، وذلك تحت تأثير المبالغة فى تقدير النتائج التَّاريخيَّة لعمليَّات «الأسلمة والتَّعريب» فى الشَّمال، وتضخيم الفوارق التي ترتَّبت على تكريسها بين الشَّمال والجَّنوب (فرانسيس دينق؛ مشكلة الهويَّة في السُّودان ـ أسس التَّكامل القومي، ترجمة محمد علي جادين، مركز الدِّراسات السُّودانيَّة، القاهرة 1999م، ص 122 ـ 123). لقد أضحت تلك الفوارق وحدها هي القضايا التى يتمُّ وضعها في الاعتبار على رأس أّيِّ «مرشد» لعمل أيَّة حكومة في الخرطوم تجاه الجَّنوب، عسكريَّة كانت أم مدنيَّة، إلى حدِّ التيئيس من «الوحدة». وتتلخَّص تلك القضايا، كما حصرتها لجنة التَّقرير، فى خمسة محاور رئيسة، مع ملاحظة قصرها مصطلح «شمال ـ شمالي» على الرِّقعة الجُّغرافيَّة المار ذكرها:
أولها: أن الشَّمال عرقيَّاً عربي والجَّنوب زنجي، وأن الشَّمال دينيَّاً مسلم والجَّنوب غالباً وثني، وأن الشَّمال لغويَّاً يتكلم العربيَّة والجَّنوب يتكلم أكثر من ثمانين لغة.
وثانيها: أن الجَّنوبيِّين يعتبرون الشَّماليِّين، بسبب ملابسات تاريخيَّة، أعداءهم التَّقليديِّين.
وثالثها: أن السِّياسة البريطانيَّة عملت، حتَّى 1947م، على ترك الجَّنوبيِّين يتطوَّرون في خطوط أفريقيَّة زنجيَّة، واستخدمت أداة القانون، كقانوني المناطق المقفولة والرُّخص التِّجاريَّة المار ذكرهما، لإعاقة أيَّة إمكانيَّة لتعارف أو تقارب الشَّماليِّين والجَّنوبيِّين، مثلما عمل النَّشاط التَّعليمي للإرساليَّات التَّبشيريَّة على تغذية هذه السِّياسة.
ورابعها: أن الشَّمال تطوَّر سريعاً في مختلف المجالات، لعدة عوامل اقتصاديَّة، وسياسيَّة، وجغرافيَّة، وغيرها، بينما ظلَّ الجَّنوب، لذات العوامل، على تخلفه المزري، الأمر الذى أورث أهله شعوراً بأنهم ضحايا خداع، واستغلال، وهيمنة، من قبل الشَّمال.
وخامسها: أنه، ولكلِّ هذه العوامل، فإن الجَّنوبيِّين يفتقرون إلى الشُّعور بالمواطنة المشتركة مع الشَّماليِّين (لاحظ الإحالة المستعلية إلى الشَّمال فى ما يتصل بمعيار المواطنة)، بل وأنهم، أي الجَّنوبيِّين، يفتقرون إلى الشُّعور بالوطنيَّة والانتماء إلى السُّودان، وحتَّى الوعي الذى برز مؤخَّراً، أي عشيَّة الاستقلال، هو وعي «إقليمي/ مناطقي» وليس «وطنيَّاً».
وكالعادة لم يفت على التَّقرير «اتِّهام» الشِّيوعيِّين بالضُّلوع في تلك الأحداث، مشيراً لتزايد نشاطهم، خلال ديسمبر 1954م، في مركز الزَّاندي والمورو، وبين عمَّال صناعة القطن ونقاباتهم! على أنه ربَّما يكتسى أهمية خاصة توثيق التَّقرير لكون الجَّبهة المعادية للاستعمار وزَّعت «منشوراتها»، آنذاك، بلغة الزَّاندي (تقرير لجنة التَّحقيق في اضطرابات جنوب السُّودان، في أغسطس 1955م، الخرطوم 1956م ـ يوسف الخليفة أبوبكر فى حريز وهيرمان بل، 1965م ـ ضمن عبد الله على ابراهيم، 2001م).
(نواصل)
الهامش:
* ورقة قدِّمَت فى ندوة مركز الدِّراسات السُّودانيَّة بقاعة اتِّحاد المصارف بالخرطوم، 30 ـ 31 أكتوبر 2002م، بعنوان «التَّنوُّع الثَّقافى وبناء الدَّولة الوطنيَّة في السُّودان»، بمناسبة اكتمال ترجمة ونشر أعمال فرانسيس دينق باللغة العربيَّة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.