طفل سوداني متهم بالتشكيك في العقيدة

0 84

كتب: بابكر فيصل

.

انشغل الرأي العام السوداني مؤخرا بقضية الطفل، معتصم أحمد محمد، البالغ من العمر 6 سنوات والذي تم فصله من مدرسته بسبب سلوكه “المنافي للعقيدة والدين” وحتى “لا يتأثر بقية التلاميذ بهذا السلوك” كما جاء في خطاب الفصل الصادر عن المدرسة.

وبحسب ما ورد في منشور لوالدة الطفل كتبته على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حول الحادثة، فإن ابنها سألها: لماذا يأكل الشيطان معي إذا أكلت بيدي اليسرى؟ كما أنه أيضا سأل: في أي كوكب يوجد الله؟ قائلا أن المعلمة ذكرت لهم أن الله موجود في السماء.

وقالت الوالدة إنها وقفت إلى جانب ابنها في مشروعية تساؤلاته التي لم تجب عنها المعلمة، موضحة أن ابنها تساءل “حول وجود الله تعالى في السماء مع الكواكب وأبدى استغرابه من ذلك”، مؤكدة أن من حقه التعبير عن رأيه بوضوح، كما أبدت الوالدة أسفها حول اتخاذ القرار بإلحاق أبناءها بمدارس السودان، واصفة البيئة المدرسة بأنها “مريضة ومسممة”.

من جانبها، أصدرت إدارة المدرسة منشورا على صفحتها الرسمية بموقع فيسبوك قالت فيه إن “الطفل ظل يكرر أن الله تعالى غير موجود وأنه لا وجود للشياطين”، وأضافت أن “معلمة التربية الإسلامية والأخصائية النفسية بالمدرسة قامتا بعمل جلسة صغيرة تم فيها إقناعه وتثبیت قناعاته بوجود الله عز وجل”، غير أن الطفل عاد “لنفس السلوك من جديد وبدأ يشوش به على زملائه الأطفال في المدرسة و أكد أن أمه هي مصدر هذه القناعات”.

إن قرار إدارة المدرسة بفصل الطفل معتصم يلقي ضوءا كاشفا على الأزمة العميقة التي يعاني منها التعليم في السودان، وهي أزمة مرتبطة بمفاهيم التربية والتنشئة التي تحتفي بالقيم الجماعية الجامدة وتحارب التفكير والنقد والاتجاهات الفردية، وهو الأمر الذي ينعكس في مناهج التعليم ووسائله وكذلك في تدريب وتأهيل المعلمين الذين يقومون بالتدريس.

ومن المعلوم أن الاتجاهات التعليمية المتعلقة بالمناهج وتدريب المعلمين تتسم برؤية متوارثة عن الإسلام تعكس طبيعة التفكير التقليدي والمحافظ الذي تزكيه الرؤى الدينية السائدة في المجتمع، والتي لا تشجع على النقد والشك واستخدام العقل، بل تسعى إلى التلقين والحفظ والترديد لما يُعتبر حقائق مطلقة لا تحتمل التساؤل.

هذه الرؤى الجامدة تخاف من إعمال العقل وتتهيب الشك في ما يُعتبر حقائق نهائية، مع أنه يوجد في التراث الإسلامي اتجاهات أخرى تعتبر الشك مدخلا ضروريا للوصول للحقيقة (اليقين)، فها هو “حجة الإسلام” أبو حامد الغزالي يقول: (من لم يشك لم ينظُر، ومن لم ينظُر لم يُبصر، ومن لم يُبصر يبقى في العمى والضلال، فالشك أول درجات اليقين).

ويقول الدكتور، محمد عثمان الخشت، في كتابه “نحو تأسيس عصر ديني جديد” إن أبو الأنبياء إبراهيم استخدم “الشك المنهجي” وفق مراحل في الاستدلال العقلي من أجل الوصول للحقيقة وذلك عندما شك في عقائد قومه في الأوثان والكواكب والنجوم، حتى توصل في خاتمة المطاف إلى عقيدة التوحيد الإلهي.

وبعد أن وصل إلى حقيقة وجود الله عن طريق الشك في عقائد قومه ورؤيتهم للعالم ، يقول الخشت، بقيت عنده مسألة قدرة هذا الإله سبحانه وكيفية تأسيسها على الحقائق التجريبية، وفي هذا الخصوص يقول القرآن: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أما الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقد ذكر بوضوح أنه تشكك في أمر الدين والنبوة يوم الحديبية، وكان من أبرز المعترضين على الصلح، وقد جاء في الأثر: (فقال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله؟ قال: بلى. فقلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به).

وعليه، فإذا كان موضوع الشك يعتبر من الأمور الاعتيادية التي يتعرض لها كل من يعمل عقله ويطرح الأسئلة (بما في ذلك الأنبياء والصحابة)، دون أن تترتب عليه عقوبة ، فيصبح من الأجدر أن لا تُحاسب عليه إدارة المدرسة طفلاً لا تسري عليه حتى تكليفات الدين الموجبة للعقاب، وهذا هو معنى الحديث النبوي: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل) فالصبي مرفوع عنه الإثم حتى يبلغ سن الحلم والتمييز.

ومن ناحية أخرى، فإن السؤال عن مكان وجود الله يعتبر من الأسئلة الجوهرية التي كانت وما تزال مثار خلاف وجدل بين مختلف المدارس الفكرية الإسلامية (المعتزلة، المُجسِّمة، أهل الحديث)، ولا يوجد اتفاق حول الإجابة عليه، وبالتالي فإن الإجابة التي تحصل عليها الطفل من أساتذته تعتبر إجابة قاصرة وليست بالضرورة الإجابة الوحيدة والنهائية التي يعتبر من يرفضها آثما، ويُفصل من المدرسة كما في حالة معتصم.

لا شك أن السودان، وهو يستشرف عهد ما بعد الثورة على حكم الاستبداد الديني الطويل، في حاجة ماسة لتطوير حقل التعليم في أبعاده المختلفة (المعلم والبيئة المدرسية والمناهج إلخ) بحيث تُصبح ثقافة طرح الأسئلة والنزعة النقدية التحليلية هي الأساس الذي تنبني عليه العملية التعليمية، بدلاً عن نهج التلقين المحكوم بسقوف لا تسمح للتلاميذ بالتفكير خارج أطرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.