عن عودة حمدوك وهزيمة البرهان

0 170

كتبت: د. عائشة البصري

.

ما إن تمّ الإعلان في السودان عن توقيع اتفاق بين قائد الانقلاب العسكري، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك، حتى انهالت على الأخير اتهامات بالغدر والخيانة. إن كان لا بد من إلقاء اللوم على أحد، فضلاً عن الانقلابيين، فمن الأحرى أن يُوجّه للوساطات السودانية والإقليمية والدولية التي تزاحمت على بيت حمدوك، لتجبره على التفاوض مع عساكر يحبسونه، ويُرهبونه بقتل الثوار في واضحة النهار. على الرغم من التنازلات التي أجبر عليها حمدوك، فإن عودته تعتبر خروجاً عن السيناريو الذي كان قد حبكه الانقلابيون، من دون أن يحسبوا حساباً لواشنطن ومصالحها في سواحل السودان، أحد أكثر الممرّات البحرية أهمية في العالم لموقعها بين منطقة القرن الأفريقي ومنطقة الخليج.

كان برنامج انقلاب 25 أكتوبر يقوم على فضّ الشراكة مع قوى ثورة ديسمبر. وعلى هذا الأساس، بعد نحو عشرة أيام من استيلائه على السلطة، أعلن البرهان عن عزمه تعيين رئيس وزراء جديد، يقوم بتعيين حكومة كفاءات مدنية. كان الانقلابيون ينوون وضع حدّ للثورة وإقصاء كل من جسّدها، وفي مقدمتهم حمدوك، لتسليم زمام الحكم لفلول حزب “المؤتمر الوطني” المنحلّ، عبر صناديق الاقتراع. لم تكن عودة حمدوك في حسابات البرهان وشركائه الذين عوّلوا على الدعم الروسي – الصيني، والمحور الرباعي للثورة المضادّة (الإمارات، مصر، السعودية، إسرائيل)، لكن الرياح ستجري بما تشتهيه واشنطن.

في اليومين اللّذين سبقا الانقلاب، زار المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، الخرطوم، لمحاولة إنقاذ شراكة المدنيين والعسكريين المهدّدة بالانهيار، وعقد لقاءات جَمعته بحمدوك والبرهان ونائبه، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقبل مغادرته (فيلتمان) الخرطوم، حدّثه البرهان عن مشروع حلّ الحكومة واستبدالها بحكومة تكنوقراط، ليفاجئه في اليوم التالي بانقلابٍ شاملٍ على الثورة واعتقال حمدوك ورفقائه. ظن بعضهم أن تحرّك البرهان قد تمّ بمباركة أميركية، لكن تصريحات فيلتمان وتحرّكاته أكّدت العكس، إذ كشف للإعلام بمرارة كيف خدعه الانقلابيون: “العسكريون في السودان فاوضوني قبل إجراءاتهم، بنيَّة سيئة أكثر من كونهم كذبوا عليّ”.

لم تغفر الإدارة الأميركية للبرهان هذه الخديعة، خصوصاً بعد أن حسم لصالح روسيا مشروع إقامتها قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وبدأ، من خلال موقف موسكو المتحمّس للانقلاب، وكأنها كانت على علم به. في سياق صراعات نفوذ جيوسياسية على منطقة القرن الأفريقي وموانئه المطلّة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، لم يعد انقلاب البرهان على الثورة أزمة سياسية داخلية، وتحوّل إلى مواجهةٍ دولية بين واشنطن وموسكو.

ألقت الإدارة الأميركية بكل ثقلها خلف حمدوك، لتلقّن البرهان وحميدتي وشريكهما الروسي درساً أساسياً: أن الانقلاب في القرن الأفريقي لا يتم إلا بمباركةٍ أميركية، أو على الأقل من دون اللجوء إلى خداع كبار مبعوثي إدارتها.

أهمية السودان الاستراتيجية تدور حول قاعدة بورتسودان البحرية. بعد إطاحة الرئيس السابق عمر البشير، وقّع المجلس العسكري برئاسة البرهان على اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، تضمن لها إقامة قاعدةٍ بحريةٍ على البحر الأحمر. لكن الحكومة المدنية، برئاسة حمدوك، وضعت لاحقاً شروطاً جديدة لمراجعتها، في انتظار طرحها لتصديق المجلس التشريعي، بعد تأسيسه. وبهذا، تشكّل عودة حمدوك إلى السلطة أملاً لواشنطن في عرقلة تحقيق مشروعٍ من شأنه أن يضيق الخناق على نفوذها في المنطقة، في وقتٍ يوشك حليفها الإثيوبي على الانهيار. ولقد برز تنافس القوّتين على السواحل السودانية في استقبال ميناء بورتسودان سفينتين حربيتين أميركيتين وفرقاطة عسكرية روسية في آخر أسبوع من شهر فبراير/ شباط 2021.

في ضوء هذه المعطيات، لعبت استراتيجية واشنطن في إعادة السيطرة على منطقة القرن الأفريقي دوراً في إسراعها التحرّك من أجل إعادة حمدوك إلى السلطة واستئناف عملية الانتقال إلى الحكم المدني مع عدد من التنازلات، إرضاءً للعسكر الذي تحرص واشنطن على إرضائه، لإزاحة الخصم الروسي. ونجحت الدبلوماسية الأميركية في الضغط على البرهان عبر وساطة الإمارات وإسرائيل ومصر. شهدت الأسابيع الأخيرة جولاتٍ مكوكيةً مهّدت لزيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية، مولي فيي، الخرطوم، أفضت إلى توصل حمدوك والبرهان إلى اتفاق مبدئي.

تبيّن أن حمدوك لعب ورقة قاعدة بورتسودان بحنكة، ساعدت حكومته على شطب أميركا السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، وتحوّلِها (الولايات المتحدة) إلى أكبر دولة مانحة للسودان ومُقرضة، في الوقت ذاته، وها هي اليوم قد تنقذ الثورة، بعد أن ظن البرهان وحميدتي أنهما قد نجحا في دفنها. ربما تعرّض البرهان لضغوطٍ أشدّ من التي واجهها حمدوك لقبول عودة الأخير، والتي تعني عودة الحديث عن الشراكة والمؤتمر الدستوري والانتقال الديمقراطي، أي فشل محاولة طيّ صفحة الثورة وإقصاء الثوار. فما وقّع عليه الطرفان لا يعدو أن يكون “اتفاقاً إطارياً”، وهذا يعني، في سياق المفاوضات السياسية، أن طرفي النزاع لم يتوصلا إلى اتفاق نهائي يحكم العلاقة بينهما، ولكنهما توصلا إلى تفاهمٍ بشأن عدد من النقاط، يكفل المضي في التفاوض من أجل اتفاق نهائي.

ويفتح الاتفاق الطريق أمام محطّة جديدة، ستغيب عنها قوى “إعلان الحرية والتغيير”، مقابل الإبقاء على الشراكة العسكرية – المدنية في سياق دستوري ستتضح معالمه في الأيام المقبلة. وبينما يتم تخوين رئيس الوزراء الذي اتخذ قراراً سياسياً شجاعاً، يُستحبّ التذكير بأنه قبل انقلاب 25 أكتوبر، كان العسكر يهيمن على مفاصل الدولة، ويسيطر على مجلس السيادة، خصوصاً بعد أن استقوى بقادة الحركات المتمرّدة. ولم تكن قوى الثورة ذاتها كلّها ثورية، إذ جمعت بين أطرافٍ تناغمت مع الحكم العسكري، أبرزها الحركات المتمرّدة، وأخرى ثورية ومتطاحنة في ما بينها. وحتى الوثيقة الدستورية ذاتها لم تنجُ من عبثية شراكةٍ تشبه كوميديا سوداء، لحمْلها توقيع شخصية مثل حميدتي.

شراكة المدنيين والعسكر سبقت مجيء حمدوك إلى السلطة، وتمّت في سياق مجزرة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2019، وتأسّست هي الأخرى على تنازلات مؤلمة. وافقت قوى “إعلان الحرية والتغيير” وقتها على مصافحة أيادٍ ملطّخة بالدماء، لإدراكها استحالة تجاوز سلطة العسكر في ظرفٍ استثنائي، واتفقت على مسايرته إلى حين تنظيم انتخاباتٍ تفضي إلى حكومةٍ مدنيةٍ ديمقراطية، بعد إزالة أثر تمكين نظام الرئيس السابق، وتفكيك أجهزته السياسية والمالية، واسترداد أموال الخزينة العامة. في المقابل، كان العسكر يسايرون المدنيين أيضاً، ويدّعون تأييد عملية الانتقال الديمقراطي، وهم يعرقلون عمل حكومة عبد الله حمدوك ليل نهار، ليبرّروا انقلابهم بفشلها. كانت أجندتهم منذ البداية، وما زالت، تدور أساساً حول إنقاذ نظام الإنقاذ المحظور، وإعادة تدويره بشكل أو بآخر، ولا يتأتّى ذلك إلا عبر تعطيلهم عمل لجنة إزالة التمكين، والسيطرة على الإعلام، وتعطيل العدالة الانتقالية، وتمزيق الوثيقة الدستورية.

اليوم، دخلت اللعبة السياسية منعطفاً جديداً سيتضح عند توصل البرهان وحمدوك إلى اتفاق نهائي. وإذا نظر السودانيون إلى عودة الزعيم هزيمة للبرهان، أو حتى نصف هزيمة لمشروع انقلابه، فقد يتداركون خطر معاداته وتهميشه، بما يخدم أجندات أعداء الثورة.

حمدوك، بشخصيته الدبلوماسية الرزينة، قادرٌ على أن يؤرّق العسكر بدعم واشنطن له، وعلاقاته الأوروبية، ومناوراته الهادئة، ولباقته. ولا ينتظر أحدٌ من السلطة الانقلابية أن تفي بوعودها، بل يُتوقع أن تحاول إقصاءه، وإفشال جهوده. لكن أكبر عقبةٍ تواجه حمدوك حالياً، وهو يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مسار الثورة، ليست العسكر، وإنما لجان المقاومة و”تجمّع المهنيين” وباقي القوى الشعبية التي انقسمت بين مؤيدٍ لعودته ومعارضٍ لاتفاقه مع البرهان. ولا شك في أن العسكر يراهن على انقلاب الثوار على حمدوك، لينفردوا بالسلطة من دون أن يلجأوا إلى قنص مزيد من الثوار.

اليوم، ينبغي التوقف عند ما قاله حمدوك بعد إطلاق سراحه: “الخيارات تظل محكومةً بما هو ممكن”.

إنها الواقعية السياسية التي يرفضها جزء من المجتمع السوداني، وقد تعب من جنرالات البشير، وأصبح يرى في عودة حمدوك ذاتها نقطة لا عودة. لكن إقصاء العساكر من السلطة حالياً غير ممكن، وغير واقعي، في حين أن الالتفاف حول حمدوك، ومواصلة الضغط عليهم من أجل استئناف العمل بالوثيقة الدستورية ولِجانها ومقتضياتها، يمكن أن يُحدِث فرقاً على أرض الواقع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.