في اتجاه دحر الكارثة في السودان
كتب: د. الشفيع خضر سعيد
يمكننا أن نختلف حول ما هي أنجع السبل وأفضل الخيارات للخروج من الوضع المتأزم والخطير الذي تعاني منه بلادنا اليوم، والذي أدخلتنا فيه إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الإنقلابية. ولكن، لا أعتقد أننا سنختلف حول أن المقصود بأفضل الخيارات هو ذاك الخيار الذي يجمع، في ذات الوقت، ما بين المخاطبة الحقيقية والمباشرة لمفاصل الأزمة، والكلفة الأقل التي تقي الوطن شر الدمار وسفك الدماء. وبداهة، أن الجميع يدرك أن تبني هذا الخيار أو ذاك ليتبوأ موقع الأفضل والأنجع، تفرضه جملة من العوامل الموضوعية والذاتية بعيدا عن الرغائبية ومجرد الأمنيات.
وأعتقد أن من ضمن العوامل الرئيسية التي تلعب دورا في رسم الخيارات الأفضل وتبنيها، تفاصيل المشهد الراهن في واقع البلاد، والتي من بينها: الحرب الحقيقية، وليس مجرد تفلتات أمنية أو نزاعات محدودة، والتي تدور رحاها الآن في دارفور وإمكانية إنتقالها لتعم باقي أنحاء البلاد، خاصة وأن الأطراف المتنازعة متواجدة، وبكامل عتادها وسلاحها، في كل هذه الأنحاء. التوتر المتصاعد في شرق البلاد في ظل التعقيدات الداخلية والخارجية المتمكنة من الإقليم والتي تجعل من هذه التوترات مفتوحة على كل الإحتمالات. حقيقة أن البلاد، وخاصة عاصمتها الخرطوم، أصبحت عبارة عن ترسانة من الأسلحة، ليس في المخازن، وإنما في أيدي عدة جيوش وليس الجيش السوداني وحده، وهي جيوش متحفزة ولن تظل صامتة تجاه محاولات التغيير ما دام هذا التغيير سيؤثر على أوضاعها. استمرار التشظي في أوساط الحركة السياسية والتباينات الواضحة في خطابها السياسي، وحتى التنظيمات التي حسمت الكثير من تلك التباينات في اتجاه توحيد الخطاب السياسي، فإنها لاتزال تتلمس الخطى لصياغة وتبني خط سياسي وخطوات عملية في مواجهة الأزمة المتصاعدة. تفاقم الأوضاع المعيشية المتردية في ظل توقف المعونات الدولية بعد إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الإنقلابية. أعتقد أن من يرسم خياراته للخروج من الأزمة متجاهلا هذه العوامل وآثارها الكارثية المتوقعة، سيكون كمن يقفز ومعه الوطن في الظلام.
وفي ذات الإتجاه، هنالك مجموعات تجتهد في صياغة مسودات لإتفاق سياسي جديد تتوافق عليه القوى السياسية ليحكم العلاقة بين هذه القوى والقوى العسكرية، وليرسم ملامح ما تبقى من الفترة الإنتقالية. ورغم قناعتنا بالدوافع الوطنية لهذه المجموعات، إلا أن التوافق حول منهج إعداد هذا الإتفاق ربما يكون في نفس أهمية محتوى فقراته وبنوده. فمن الصعب، ولدرجة الخلل، أن تتولى مجموعة أمر هذه الصياغة ثم تدعو القوى الأخرى للتوقيع. والصحيح، في نظري، إدارة حوار بين مختلف أطراف القوى السياسية والمدنية بهدف التوصل إلى قواسم مشتركة حول المتطلبات الآنية والمستقبلية، وحول التعديلات المطلوبة في الوثيقة الدستورية، وحول طبيعة العلاقة مع القوى العسكرية، بحيث في النهاية يمكن تفويض الخبراء القانونيين لصياغة هذه القواسم في إتفاق سياسي. وبالطبع، هذا لا يمنع أن تقدم المسودات التي تمت صياغتها بواسطة المجموعات المشار إليها كمساهمة في هذه الحوارات المقترحة، وليس للتوقيع. ويجدر التشديد على أن أطراف القوى السياسية والمدنية المشار إليها تشمل أيضا لجان المقاومة والأجسام الجماهيرية المختلفة. فقد أكد الحراك الجماهيري الذي هزّ، ولا يزال، أرض السودان عقب الإجراءات الإنقلابية أن شعب السودان ليس، ولم يكن أبدا، مجرد متلقي سالب، أو سلعة تتنافس على شرائها النخب والقيادات السياسية، المدنية والعسكرية، وإنما هو الطرف الرئيسي الذي يملك الحل الصحيح لمعادلة التغيير في السودان. فالشعب السوداني، وفي طليعته فئة الشباب، أصبح واثقا من قدرته على فتح كل المنافذ، حتى يسود الوعي، مستخدما الشعار السليم والتحليل المنطقي، تجاه كل ما هو متعلق بتحقيق أهداق ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة.
تأكيد إلغاء مؤسسة الإعتقال السياسي، التحقيق في عمليات القتل والإغتيال، مراجعة كل إجراءات الفصل والتعيين الأخيرة، مواصلة تفكيك نظام الإنقاذ، التحرك سريعا لإحتواء الأوضاع المتفجرة في دارفور حد الحرب الأهلية.
وفي مقال سابق قد أشرنا إلى بعض من ملامح تلك القواسم المشتركة، بحسب رؤيتنا ووجهة نظرنا، وقلنا أنه في ظل هذا الوضع المأزوم الذي تعاني منه البلاد، والذي ينذر بتداعيات كارثية حقيقية، فإن الخاسر الأكبر هو الوطن والشعب السوداني. وهذا الوضع يصرخ في القوى السياسية والمدنية أن تتناسى، أو تؤجل، خلافاتها وتناقضاتها السياسية والفكرية، لتتوافق على كيفية إخراج البلاد من الجب الذي وقعت فيه، ودحر أي محاولات لقطع الطريق أمام التحول المدني الديمقراطي، والعمل على إنجاح ما تبقى من الفترة الإنتقالية، وذلك من خلال التوافق على إتفاق سياسي جديد يحكم العلاقة بين هذه القوى والقوى العسكرية، ويحدد بدقة أولويات المرحلة المتبقية من عمر الفترة الإنتقالية، مستفيدا من أخطاء السنتين الماضيتين، ومن إفرازات الأزمة الراهنة. وفي ذات الإتجاه، التوافق على تعديلات في الوثيقة الدستورية، بوصلتها الأساسية كيفية تحقيق التحول الديمقراطي والحكم المدني. ومرة أخرى نؤكد أن مجلس السيادة بتكوينه الحالي لا يحظى بقبول سياسي أو سند دستوري وقانوني، ولا بد من إعادة النظر في تكوينه ليتم بالتشاور والتوافق مع القوى المدنية والسياسية، مع النظر في إقتراح تقليص عضويته إلى خمسة أو سبعة أعضاء. كما نقترح أن تكون من ضمن الأولويات الرئيسية للحكومة خلال العامين المتبقيين من عمر الفترة الإنتقالية: تأكيد إلغاء مؤسسة الإعتقال السياسي، التحقيق في عمليات القتل والإغتيال، مراجعة كل إجراءات الفصل والتعيين الأخيرة، مواصلة تفكيك نظام الإنقاذ، التحرك سريعا لإحتواء الأوضاع المتفجرة في دارفور حد الحرب الأهلية، التحرك السريع لمخاطبة أزمة شرق السودان بتقديم حلول متوافق عليها بين الأطراف كافة، وبعيدا عن الحلول ذات التأثير المسكن والمهدئ المؤقت، إستكمال عملية السلام عبر الشروع فورا في التواصل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة القائد عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة القائد عبد الواحد محمد نور، تكوين مفوضية الدستور وعقد المؤتمر الدستوري، تكوين مفوضية الإنتخابات والشروع في التحضير لها، مواصلة إجراءات الإصلاح الاقتصادي والتخاطب مع الجهات والصناديق الدولية المانحة.