في الذكرى السادسة والخمسين لثورة أكتوبر ..الحكومة الراهنة وبعض دروس إجهاض ثورة أكتوبر 1964م.

0 120
كتب: سليمان حامد الحاج
.
الدرس الأول:
كانت الأحزاب السياسية المكونة لجبهة المعارضة قد رفضت الإضراب السياسي الذي اقترحه الحزب الشيوعي في العام 1961 كأداة للإطاحة بحكومة عبود العسكرية الديكتاتورية، ولهذا خرج الحزب الشيوعي من ذلك التحالف، لم يكن ذلك وحده هو السبب في خروج الحزب من تلك الجبهة بل ذلك مع عاملين آخرين هما، رضوخ أحزاب هذا التحالف لرفض المجلس العسكري قيام الاحتفال الجماهيري بمناسبة إطلاق سراح كل القيادات السياسية للأحزاب، بما فيهم عبدالله خليل الذي سلم السلطة لعبود وعبد الخالق محجوب والسيد الصديق المهدي واسماعيل الأزهري وعبد الله عبد الرحمن نقد الله ومحمد احمد محجوب ومبارك زروق ومحمد المرضي وغيرهم، وكذلك استسلمت جبهة المعارضة لقرار المجلس العسكري بإقامة الاحتفال الجماهيري بعيد الاستقلال في يناير الذي قررت إقامته.
هذه العوامل الثلاثة هي التي دفعت الحزب الشيوعي لاتخاذ ذلك الموقف، لأنها تمثل اعتقالا للعمل السياسي الجماهير كأداة أساسية لتنفيذ الإضراب السياسي والعصيان المدني وحصره في المساومات مع النظام. واصل الحزب الشيوعي النضال وحده كحزب في الدعوة للجماهير للإضراب السياسي بما فيها جماهير تلك الأحزاب وبين العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين في مختلف مهنهم واهتماماتهم.
ساهم الواقع المعيشي البائس الذي عاشته الأغلبية الساحقة من المواطنين في تلك الفترة، إضافة إلى انعدام أبسط الحريات والحقوق الديمقراطية حيث لا نقابات ولا اتحادات ولا حتى جمعيات تعاونية ولا برلمان في استجابة جماهير شعب السودان لدعوة الحزب الشيوعي للإضراب السياسي بما فيها جماهير الأحزاب التي شقت عصا الطاعة لقياداتها وانضمت للإضراب السياسي.
هذا هو الذي أجبر العديد من تلك الأحزاب على المشاركة في الاضراب السياسي، ولكن بما أن شعارات ثورة أكتوبر وميثاقها المعلن من قبل جبهة الهيئات التي قادت الثورة كانت تتعارض مع المصالح الطبقية لبعض تلك الأحزاب كل من منطلقه الخاص، استبطن بعضها العمل ضد الثورة لإجهاضها.
على رأس تلك الأحزاب كان يقف حزب الأمة الذي جلب أنصاره من الريف للضغط على حكومة الثورة، فكون مع بعض الأحزاب ما سمي ب (الجبهة الوطنية). وباستنادها على جهاز الدولة الذي ظل قائماً كما كان إبان الحكم العسكري وسريان ذات القوانين والاقتصاد الخرب، وما قدمه له النظام العسكري من مساعدات خلال فترات المساومة… الخ لملمت هذه الأحزاب فلولها واستعادت قواها وبدأت عملها المباشر لسرقة الثورة.
تم طرد النواب الشيوعيين من الحكومة واجبر رئيسها على الاستقالة وأبقت على كافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية كما هي، واستندت على ذات القوانين والأشخاص في أن تفرض انتخابات متعجلة رغم فصل الخريف والحرب الدائرة في الجنوب وفصلت على مقاسها، ولهذا جاءت نتيجة الانتخابات لصالحها بأغلبية لحزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي.
ولم يكن التدخل الأجنبي بعيداً عن هذه الممارسات الشائهة التي وضعت المصالح الطبقية لقيادات بعض هذه الأحزاب فوق مصلحة الشعب والوطن.
هذا ما يحدث الآن، حذو النعل بالنعل، تكوين تحالفات جديدة، رغم أنها تتم من وراء ظهر الشعب وغير معلنة، إلا ان ما حدث من محاصصة في جوبا لاقتسام السلطة بين بعض الحركات المسلحة التي تشكل أقلية بين الحركات الحاملة للسلاح، وبين المسارات المصنوعة خصيصاً بهدف تقوية نفوذ المكون العسكري، ومن استطاعت إليه من الحاضنة السياسية (قوى الحرية والتغيير) ومن أحزابها بمساعدة القوى الأجنبية التي تمثل الحاضنة الرئيسية للقرارات التي اتخذت في سلام جوبا.
أصبح كل شيء مكشوفاً أمام شعب السودان، وسيقف بكل قامات شاباته وشبابه حائط صد قوى منيع ضد تمرير هذا المخطط الذي يستهدف ثورته التي دفع ثمناً لها الآلاف من الشهداء والمفقودين ومختلف الجرائم من اغتصاب وتعذيب وغيره.
الدرس الثاني:
عندما اندلعت ثورة أكتوبر، لم يكن صدفة أن ضمن قيادة جبهة الهيئات والقوى التي أعلنت الإضراب السياسي من أمام وزارة العدل، القضاة والمحامين وأساتذة الجامعات والنقابات المهنية والعمالية ومزارعو مشروع الجزيرة، وإن من أعلن الاضراب السياسي هو نقيب المحامين عابدين إسماعيل، فثورة أكتوبر كانت ثورة للديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضد الإرهاب والحكم العسكري.
وجسد ذلك (ميثاق أكتوبر) الذي نص على: تصفية الحكم العسكري، إلغاء القوانين المقيدة للحريات، استقلال القضاء والجامعة، إطلاق سراح كل السجناء والمعتقلين السياسيين، انتهاج سياسة خارجية ضد الاستعمار) وضمن الميثاق في دستور السودان المؤقت الذي حكمت به البلاد منذ 1954 إلى 1958 ليصبح الدستور المؤقت المعدل لسنة 1964. وأصبح تحكم به البلاد حتى عام 1969، عند إعلان (ميثاق اكتوبر) شعر زعماء (الجبهة الوطنية) بالخطر الذي يهدد مصالحهم خاصة بعد إعلان القيادة المكونة لجبهة الهيئات، فأصروا على استمرار التفاوض مع المجلس العسكري للفريق عبود امتداداً لما درجوا عليه من تراجع ومساومات أشرنا إليها عند رفض المجلس العسكري الاحتفالية الجماهيرية بعيد الاستقلال وإطلاق سراح زعماء الأحزاب، واستمرارهم أكثر من أي وقت في رفضهم للأضراب السياسي أداة للإطاحة بالنظام العسكري، ولسخرية القدر منهم ومع إصرار الشعب على مواصلة الاضراب والعصيان المدني الشامل والكاسح. في مساء 26 أكتوبر أعلنت الإذاعة حل المجلس العسكري، وسقط بذلك الحكم العسكري بعد ستة أيام من الصراع الضاري العنيف.
إن أكبر الأخطاء التى حدثت في تاريخ ثورة ديسمبر 2018 هو المفاوضات التي تمت مع المجلس العسكري، والذي هو في الواقع مجلس أمن نظام شريحة طبقة الرأسمالية الطفيلية المتأسلمة، وسيظل المكون العسكري في مجلس السيادة ومجلس الوزراء وغيرها من المناصب خادماً أمنياً وحريصاً على مصالح الشريحة الطفيلية.
إن أي تقدم لثورة ديسمبر 2018 ، ناهيك عن إزالة المخاطر التي تهدد استمرارها وتنفيذ برنامجها، رهين بإنهاء هذا الوجود العسكري في كل مكونات السلطة، ولهذا فإن المسيرات المليونية التي ستخرج لا بد لها من رفع هذا الشعار من جديد كما فعلت في المليونيات التي أعقبت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة.
من هذا المنبر فإننا نقدر بكل الأجلال والفخر تلك الكوكبة الشجاعة من الضباط وصف الضباط والجنود الذين تصدوا لفرق علي عثمان محمد طه المسلحة التي واجهت المعتصمين بالسلاح، في صدهم مقدمين عدداً من الشهداء، وهو موقف يذكرنا بموقف الضباط الأحرار الذين رفضوا نزول الجيش للشارع لضرب المتظاهرين، ولعبوا دوراً شجاعاً وباسلاً بضغطهم على الرئيس عبود ليحل المجلس العسكري الأعلى.
هذا درس، ليس للوطنيين في الجيش وحسب، بل أيضاً درس لقضاة السلطة القضائية القائمة الآن بعد ثورة ديسمبر 2018 والتي تعمل بقصد أو غير قصد في الإبقاء على ذات القوانين والأشخاص الذين يعرقلون تنفيذ أهم شعارات الثورة (العدالة) والتسكع والتلكؤ في تقديم من قاموا بقتل الآلاف من المواطنين في دارفور وكردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق وفى الاعتصامات المختلفة، وجرائم الفساد غير المسبوق في تاريخ السودان.
الدرس الثالث:
أورد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي المنعقد في أكتوبر 1967 عند تقسيمه لثورة أكتوبر الأسئلة التى طرحتها بعد انتكاستها وهي: ((ماذا كانت ثورة أكتوبر؟ ولماذا انتكست هذه الثورة؟ وماذا كانت قيمة التضحيات وهي في النهاية آلت إلى قيام نظام أسوأ من الحكم العسكري؟
صحيح أن الحزب الشيوعي لعب دوراً بارزاً وسط القوى المضربة وبذل أعضاؤه التضحيات الجسام استشهاداً ومثابرة وتضحية، ولكن بروز جبهة الهيئات كان في قاعه يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (البرجوازية الصغيرة ) لإيجاد قيادة تعبر عن مطامحهم، كان يعبر عن حقيقة أن هذه الأقسام لم تكن ترى موضوعياً في تنظيمات الطبقة العاملة معبراً عن أمانيها.
إن القوى الاجتماعية التي خاضت الإضراب السياسي العام وخاضت معارك الشارع كان في مصلحتها موضوعياً إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ولكن القصور الذاتي للجماهير في تنظيماتها وقيادتها، وإدراكها لمهام الثورة الوطنية الديمقراطية كان عاملاً رئيسياً في توقف الثورة عند حدود تغيير النظام العسكري وحده)). (راجع الماركسية وقضايا الثورة السودانية).
رغم أن العديد من الأسئلة المشابهة تدور الآن في أذهان الجماهير خاصة بعد الضائقة المعيشية الخانقة وانعدام معظم مقومات المعيشة اليومية والخدمات والوضع الاقتصادي للبلاد الذي قيد شعرة من الانهيار التام بفضل الخضوع والخنوع للبنك وصندوق النقد الدوليين، وعدم اتخاذ الحكومة قرارات صارمة تجاه أموال الشعب التي تمسك بها القوات المسلحة لحساب النظام الطفيلي وفساده المستشري وعدم تنفيذ أي قرار يصب في مصلحة الثورة عكس ذلك، كل القرارات المتخذة أو المنفذة تحفر في ذات المجرى الذي وسعته الشريحة الطفيلية المتأسلمة عن قصد وسبق إصرار على ايقاف الثورة وسرقتها خاصة بعد ما تم من تآمر باسم سلام جوبا الذي يمثل تطوراً جديداً وخطيراً ضد ثورة ديسمبر 2018 ويحفز لانقلاب حقيقي عليها يمهد للهبوط الناعم.
مقاومة هذا التآمر وأهم الدروس التي نستفيدها من ثورة أكتوبر هو تماسك وصمود قوى الثورة المتمثلة في كافة الوطنيين مدنيين وعسكريين والذين قلبهم على الشعب والوطن، والحريصون على المحافظة على بقاء الثورة ومواصلتها حتى تنفذ كل أهدافها، وعلى رأس هذه القوى لجان المقاومة في جميع انحاء البلاد، وحمايتها من الاختراق والاحتواء وفرض العاملين لنقاباتهم واتحاداتهم وانتزاعها عنوة واقتدارا ضد أي محاولات لتعطيل قيامها، ولا زالت تجارب انتزاع نقابات العاملين واتحادات المزارعين، من قبضة السطوة الاستعمارية، لا زال ماثلاً ودرساً يحتذى، هذا التحالف يوجب انضمام كل الحركات المسلحة التي رفضت التوقيع على نتائج سلام جوبا، وجماهير الغرب في دارفور وجنوبي كردفان والنيل الأزرق والتي جسدت باعتصاماتها الباسلة في معظم مدنها بديل ثورة ديسمبر 2018 للمحاصصة التي تمت في جوبا.
لا زالت جذوة نضال هذه الجماهير متقدة وإصرارها على بقاء واستمرار الثورة وعدم سرقتها، كما سرقت أكتوبر بدليل المسيرات المليونية لشابات وشباب السودان البواسل والوقفات الاحتجاجية اليومية التى شملت كل بقاع السودان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.