في الذكرى ١٢٢ لمعركة كرري ( ٢ سبتمبر ١٨٩٨): هناك طأطأت إنجلترا رأسها

0 69

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

لم يعنا كتاب محمد المصطفي حامد “أصداء الثورة المهدية” على زيادة حصيلتنا من الشعر الإنحليزي الامبراطوري والمهدية فحسب، بل جعلها مصدراً لجغرافيا الكبرياء الذي مرغت المهدية أنفه في التراب. فلم نزد في معرفتنا من أدب الإنجليز عن المهدية في الماضي عن قصيدة “الفزي وزي” لرديارد كبلنق، التي عمم ذكرها صلاح احمد إبراهيم في ديوانه “غابة الأبنوس” وأخرى لاحقة له هي “مدرسة كتشنر”. فزدناهما بفضل هذا الكتاب عدداً.

تورط بريطانيا في حروب السودان هو ما سماه فيرقوس نيكول، المؤرخ البريطاني للمهدية وبريطانيا، بفترة التقاء أدب بريطانيا بسياستها. فزعزعت الحرب يقين بريطانيا وطمأنينتها الإمبراطورية. فجاء شعرها وأدبها، كما قال آرثر كونان دويل، مخترع المباحثي شارلوك، لا نافذة على المجد بل على البواطن المكلومة. وكان دويل أكثر من عبر عن زعزعة البريطانيين وفقدانهم الأمان في مجموعته القصصية “مأساة كروسكو”. وبلغت به الزعزعة حد أن انضم شخصياً للجيش البريطاني ليحارب في السودان.

خامرت البريطانيون بعد هزائمهم على يد المهدية زعزعة في النفس وحس بعدم الأمان. فتزعزعت الملكة نفسها. فما تلقت نبأ فتح المهدي الخرطوم حتى لاذت ببيت سكرتير العرش. وفزعت زوجته لمنظر الملكة التي قالت إنه فات أوان إنقاذ غردون. فصلصل صدى كلمتها في أغنية ازدهرت في حانات إنجلترا في ذلك الوقت:

تأخرتم جداً على إنقاذه:

هناك طأطأت إنجلترا رأسها

قُتل بطلنا العظيم

وأعلنت الملكة الحداد العام. وغضبت على جرجرة رئيس وزرائها قلادستون، الذي اعتقد بقوة أن المهدي وطني محق في ثورته، لقدميه دون إنقاذ غردون. وفقد قلادستون رئاسة الوزراء من جراء الهزيمة.

عرفنا من شعراء ذلك اللقاء بين الشعر والامبراطورية والمهدية، علاوة على كبلنق، نفراً مميزاً. فزلزلتهم معركة أبو طليح في صحراء بيوضة حتى وثق لها شاعران هما وليام ماكونغال وسير هنري نيوبولت. فماكونغال في قصيدة “معركة أبو طليح” رأى في حشد الأنصار “جمال آسر”. وكتب سير نيوبولت ال “Vtai Lampada” يرثي صرعي المعركة وفي مقدمتهم الكلونيل فردريك برينبي. وصور رمال صحراء بيوضة حمراء “بلون حطام المربع الإنجليزي”. والقصيدة دعوة للثأر لضحاياهم وكسر مربعهم. وروجت القصيدة لعسكرة المجتمع لتؤدي الدولة واجباتها. وجاءت بالثنائيات الاستشراقية: من إسلام ومسيحية، وتخلف وتحضر لتروج لفكرة الانتقام من المهدية الخالفة في سلم التطور. وبرزت المسيحية بوضوح في شاغل الإمبراطورية بالسودان. فلم يتورع حاكم الهند عن القول إن انتصار المهدية سَيُضيع الهند من يدهم. فالمسلمون سيرون في المهدية نصراً للهلال على الصليب. وهكذا تسيّدت الصليبية في مناخ تجييش الحملة على السودان.

وكشف محمد المصطفى عن شاعر آخر هو وليام واتسون في ديوانه “الربيع الكئيب”. وفيه عبر عن خيبة حملة ولسلي التي أرادت استنقاذ غردون وتحسر على تداعي أمجاد بريطانيا. ومنه قصيدة “السودانيون” التي قرظ فيها بسالة السودانيين:

لم يقاتلونا لأجر

ولا مال يترجونه من أحد

قاتلوا باسم ربهم

كما توافر لنا بفضل كتاب محمد أن نعرف عن الشاعر جورج أبيل وديوانه “غردون وقصائد أخرى”. وفيه ينعى مغادرة فلول جراهام المهزوم شرق السودان (آخر إبريل 1885):

اصطادنا أعراب السودان

وقعوا جميعاً في قبضة رجال عثمان دقنه السمر

روّع كبرياء السودانيين في كرري بريطانيا ونفذ إلى سويداء الشعر الإنجليزي. فكتب هنري سوتريس عن مهابة الأنصار وشدة بأسهم. وحتى أمير شعراء إنجلترا لمعظم العصر الفكتوري، الفرد تنينسون، رأى جسارتهم يجرؤون عند فك الموت.

أما في النثر فسيفاجئ القارئ بأن كاتبين قرأنا لهما نتاجاً مميزاً في مدارسنا وغيرهما انشغلا بالمهدية إبداعياً. فآرثر كونان دويل، الذي تقدم التعريف بكشوفه الإبداعية، نشر ضمن مجموعة قصصية له واحدة بعنوان “الراية الخضراء” عن حملة هكس. أما روبرت لويس ستفنسون، صاحب “جزيرة الكنز”، فإنه تابع انتصارات المهدي على مرضه. ووصف الهزائم كأيام سوداء مليئة بالخزي لكرامة بريطانيا.

ومن جانب آخر تناول شعر ضحايا الإمبراطورية في غير السودان المهدية كضوء في نهاية النفق. وعلى معرفتنا بالشاعر الباكستاني القيم إقبال لم تذع بيننا قصيدته Javid Nama عن كتشنر. فانتهز سانحة غرق كتشنر في البحر خلال الحرب العالمية الأولى ليعقد المقارنة بينه وبين الفرعون الذي أغرقه الله في البحر. وفي القصيدة يَعْبُر الشاعر وشبحه البرزخ ليريا روح الإمام المهدي الثائر. وتحاور روحه روح كتشنر بلهجة مترفعة منتصرة في مقارنة بين حال سيدنا موسى وحال المهدي في مقابلة فرعون وانجلترا. فيقول المهدي لكتشنر:

لو كان لك عينان تبصر بهما

فلتنتظر عاقبة الانتقام من أشلاء الدراويش.

الجنة لا تمنح قبراً لأشلاء رجل مثلك.

لقد عرف عنا الشعر الإنجليزي ما لا يعرفه نفر منا أفرطوا في استرذال أنفسهم حتى “هان في أنفسهم كل معنى رفيع” في قول التجاني يوسف بشير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.