كراسي وبنابر مناوي..

0 47

كتب: فايز الشيخ السليك 

.

لم تتغير مشاهد المسرح السياسي كثيراً ما بين حديث حاكم إقليم دارفور، رئيس حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، عن قسمة ” الكراسي والبنابر” في حكومة الفترة الانتقالية، وما بين مفاجأة انضمامه لقوى ” التجمع الوطني الديموقراطي” في العاصمة الاريترية اسمرا، قبل سبعة عشر عاماً، فقد ظلت المواقف هي ذات الموقف، والمشاهد ذات المشاهد، والبيوت لم تتغير كآبة مناظرها، و لا نزال نحكي قصة البلد اليتيم بذات احساس الفجيعة والألم، ولا تزال آلة العزف تعبث بأذاننا بذات أصوات الأسطوانات الحزينة.

أذكر تماماً دهشة استاذنا المناضل الراحل فاروق أبوعيسى، رحمة الله عليه، مساعد رئيس “التجمع الوطني الديموقراطي ” المعارض وقتها في اسمراـ وهو يحكي لي بفرحٍ غامر قصة اتصال رئيس حركة تحرير السودان، من أركو مناوي، به عند الساعات الأولى من صباح يومٍ شتوي قارس في مدينة جبلية مثل أسمرا، لقد تلقى استاذنا الراحل اتصالاً هاتفياً في غرفته رقم 103 بفندق التي امباسويرا ، في الأسبوع الأول من شهر فبراير، عام ٢٠٠٤ خلال أيام اقامته بالفندق للمشاركة في اجتماعات المعارضة وقضية دارفور، كانت الخبر الأول الذي تبثه كل القنوات التلفزيونية ووكالات الأنباء بمختلف لغات العالم.

كان مصدر فرحة القيادي الكبير رغبة مناوي، ضم حركته تحت مظلة ” التجمع الوطني المعارض”، ومع أن الطلب قوبل بتصفيقٍ احار بعد ساعاتٍ من التداول والاتصالات ما بين اسمرا، ودارفور، إلا أن ثمة وميض نارٍ كان يظهر من تحت رماد اختلاف أجندة، فقد أحس كثير من المتابعين، وأنا منهم بوجود قلقٍ خفي، وحذرٍ مكتوم.

كان الحذر ” اتحادياً”، وظهر في شهر يوليو ٢٠٠٤ مع اجتماع التجمع الثاني الذي تلى قبول الطلب ، وبرزت بوضوح انقسامات في مواقف القوى السياسية المنضوية تحت مظلة التجمع. كانت الحركة لشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق، سعيدةً بوجود مقاتلي دارفور، لأنه سوف يساعدها في تقوية مواقفها التفاوضية في نيفاشا، وهي تبحث عن حليف لضغط النظام واضطراره لتقديم أكبر قدرٍ من التنازلات فوق طاولة التفاوض، لا سيما وأن قضية دارفور كانت في تلك الأيام الخبر الرئيسي في كل وكالات أنباء العالم، بينما كان القسم الثاني من قوى التجمع وعلى رأس هؤلاء الحزب الاتحادي الديموقراطي بقيادة مولانا محمد عثمان الميرغني، حذراً وقلقاً ومتخوفاً من ردة فعل الحكومة في الخرطوم ورفضها مواصلة الحوارات التي بدأت في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية، لكن انضمام حركة تحرير السودان وظهور قائديها مني وعبد الواحد النور، في اسمرا، لوث أجواء حوار بين زعيم المعارضة الميرغني، ونائب المخلوع علي عثمان طه.

كان النظام يريد تقسيم الجميع، بينما كان زعيم المعارضة يريد تحقيق اتفاق يضمن لحزبه موقعاً ودورا مؤثراً، لا سيما وأن السماء كانت ملبدةً بغيومٍ كثيفة قادمة من الجنوب، وكانت الأيام حبلى باتفاقٍ يمنح الحركة الشعبية مكاسب مسنودة بحوافز وجزر أمريكي تنوء عن حملها الجبال، ووسط تلك الأجواء يبحث الزعيم الكبير عن مكاسب له ولحزبه وطائفته ومقاتليه.

وتتصاعد تلك المخاوف والرغبات مع تحركات النظام البائد الذي كان يتبنى منهج تقسيم القضايا السودانية على تشابهها ما بين شمال وجنوب، غرب وشرق، وقد بذل الغالي والرخيص لانتصار منهج تجزئة الحلول، ونصب لذلك فخاخاً استدرج اليها كل القوى السياسية في نيفاشا والقاهرة وأسمرا وأبوجا والدوحة.

تتناثر الحكايات هنا وهناك، حكايات متشابهة، ومرتبطة مع بعضها البعض، وتتعدد مسارات التفاوض ما بين العواصم ، وتتطابق البضاعة مع البضائع السابقة، كانت الخرطوم تهوى التبضع بين مزادات مدن الجوار، حيث كان مفاوضوها يحملون فوق ظهورهم بضائع مضروبة، ومع ذلك يفلحون في عملية تسويقها مجزأةً نسبةً لوجود رغبة حقيقية لدى معظم الزبائن، إلا أنني لا أزل أمتلك أمالاً في أن يفتح سقوط البشير، الطريق لقوانا السياسية وحركات الاحتجاج في الهامش للمضي الى النهاية في طريق الثورة، وأن تمثل الثورة انقاذاً لها لينتشها من تحت ركام ( الأنا ) النرجسية، إلى رحاب ( نحن ) الفسيحة

المؤكد أن حل المشاكل في دارفور لن يتم من غير احداث تغيير جذري في بنية وتركيبة السلطة المركزية في الخرطوم، بالتشديد على تغيير نمط تفكير عقلها الجمعي الذي يحمل في داخله كل السودان، وتحتاج عملية انتقال التفكير من الضيق إلى الواسع ثورة وعي حقيقية تنجح في عملية بناء مشروع وطني كبير، وتبني منهج شمولي لحل القضايا انطلاقاً من الكل إلى الجزء وليس العكس.

وليس بعيداً عن هذا تحدثتُ في في عدد يوم الأحد الماضي، وفي ذات المساحة في مقال تحت عنوان ” قطار الشوق عن حالات السطو على المرافق العامة وغياب الوعي الوطني في بلادنا، وقلتُ أت البعض قد يعتبر حوادث السرقات صغيرة ومعزولة عن بعضها البعض، إلا أن قليلاً من التأني سيقودنا إلى أنها ظاهرة عامة مرتبطة ببنية وتكوين عقلنا الجمعي ، بل نابعة من تراثنا وأمثلتنا التي تشجعنا على أن ( الميري كان فاتك اتمرغ في ترابو، وهو ما يحفز على السطو على كل ما هو عام دونما شعور بتبكيت ضمير، بل ربما لا يخفي البعض مشاعر الفخر حال الحصول على أي ( غنيمة عامة سائبة):

من وجهة نظري، فأن السرقات الصفيرة مثل سرقة اغطية المنهولات، وخشب السكك الحديد، لا تختلف عن أزمة القوى السياسية وضعف خطابها الفكري، وما حديث مناوي، إلا تأكيداً لهذه الأزمة، فصديقنا مناوي شارك في صياغة اتفاق سياسي منح الجبهة الثورية سبعة مناصب، منها وزارة المالية، التنمية الاجتماعية، والحكم الاتحادي، مثلما منح الاتفاق الجبهة الثورية ثلاث ولاة لولايات شمال دافور، غرب دارفور والنيل الأزرق، ومنح الاتفاق كذلك الجبهة الثورية موقعين في المجلس السيادي، ومنح مناوي نفسه منصب حاكم إقليم دارفور، مما يغلق الباب أمام اعتبار تلك المحاصصة كانت اتفاق ” كراسي و بنابر” .

 

حديث مناوي عبر عن جوهر الأزمة، يمثل غياب المشروع الوطني، و وفي سياقات ” ديموقراطية إجرائية ” يظل أمراً طبيعياً أن يتمخض عن وهدة الأحزاب طغيان الطائفة، وأن يظل مارد القبيلة حياً، أو ليس القبيلة هي التي تحمي أفرادها من هجمات الآخرين بما في ذلك سياسات الدولة السودانية نفسها؟. وفي مثل هذه الأوضاع يتمدد ولاء الشخص إلى الجهة، أو الطائفة ، أو القبيلة ، وفي داخل القبيلة يبحث الفرد عن البطون والفروع ، والعشائر والأسر الممتدة، وهي ليست ظاهرة في الأرياف القصية وحدها، بل صارت ظاهرة لا نستثني منها حتى المدن، والجامعات ؛ حيث تنتشر روابط القبيلة وأنديتها ، ولا تزال في العاصمة ذاتها نسمع عن روابط وأندية المحس، والزغاوة، والشوايقة.

لذلك نجد أنَّ الدولة بمعناها المفاهيمي والوظيفي في مخيلة مثل هذه الشعوب أشبه بكائنٍ خُرافي ، أو قل طائر الرخ، الذي نسمع به ولا نراه، بل هي شيئٌ هُلامي، بلا ملامح، بلا وجود، بلا تأثير.

نعم هذا واقع، لكن وفق فلسفة وتعريف الثورة، فهي انقلاب على هذا الواقع المتحلل، ويبدأ التغيير بعملية الانقلاب على الذات المنغلقة، فالثورة لا تعني التماهي مع الواقع الأليم، والقائد الثوري الحقيقي لا يمكن أن تسحبه قوة إلى حيز الانتماءات الضيقة ، بل إن القائد الحقيقي يكرس كل وقته وجهده وفكره للانطلاق إلى الأمام والتحليق بقوة نوح شمس الحرية.

حريٌ برجلٍ مثل مناوي، معروف عنه الشجاعة وقول ما يؤمن به، أن يعيد تفكيره من جديد، أن يخرج من شخصية قائد حركة احتجاج إلى فضاء رجل الدولة، أن يكون مناوي رئيساً للكل، لا لمجموعة بعينها، وأن تساعده سنوات النضال المشترك مع الآخرين في عملية ضخ دماءٍ حارة داخل شرايين رؤية مشروع وطني ينقلنا من ضيق أفق الأنا إلى سعة رحابة الـ” نحن” ، هذا دورنا جميعنا، كلنا. ليس مناوي وحده، وسوف نظلم الرجل لو اكتفينا بظاهر حديثه، واكتفينا بالسخرية دون سبر أغوار الأزمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.