كيف شقت الصين طريقها المستقل للتنمية؟

0 92

كتب: تاج السر عثمان بابو

.

1
أشرت في مقال سابق بعنوان : ” البراغماتية والتجربة الفيتنامية” الي أن فيتنام سارت في اقتصاد السوق ذو التوجه الاشتراكي ، واصبح اقتصادها سلعيا متعدد القطاعات أو مزيج من ملكية الدولة والقطاع الخاص والتعاوني ، ويلعب قطاع الدولة الدور القيادي، مثله في ذلك مثل اقتصاد السوق الاشتراكي الصيني..لكنه يختلف عن النظام الصيني ، بأنه اقتصاد ينتقل الي الاشتراكية ، وليس كشكل من أشكال الاشتراكية، أو حتي اشتراكية السوق، حتى يتم بناء القاعدة التقنية للاشتراكية ، فالاشتراكية كما أشار ماركس تقوم علي مجتمع صناعي متقدم، ويري الحزب الشيوعي الفيتنامي أن اقتصاد السوق ذو التوجه الاشتراكي يتوافق مع الماركسية ، فلا يمكن الوصول للاشتراكية الا بعد تطور القاعدة المادية والتقنية التي تستند اليها.
برزت اسئلة من بعض القراء عن ما المقصود باقتصاد السوق الاشتراكي الصيني ؟، وهل مازال النظام الصيني اشتراكيا أم سار في طريق الرأسمالية؟ ، وما هي طبيعة ووصف النظام في الصين ؟.
لمناقشة تلك الاسئلة رأيت من المهم تناول في ايجاز تجربة الصين المستقلة في التنمية، وكيف شقت طريقها الخاص اليها.
معلوم أن الصين سلكت طريقا شاقا في ظروف حصار خارجي وتخلف في الداخل من أجل التنمية المستقلة ، تميز بأخذ الواقع والخصائص الصينية في الاعتبار ، وربط النظرية بالواقع والممارسة العملية ، وبخطط محددة الأهداف ، جاء في دستور الحزب الشيوعي الصيني المجاز في المؤتمر ال 19 للحزب حول ذلك ما يلي:-
” إن بلادنا ما زالت وستظل لفترة زمنية طويلة في المرحلة الأولية من الاشتراكية. وهذه هي مرحلة تاريخية لا يمكن تخطيها في مسيرة بناء التحديث الاشتراكي في الصين التي كانت متخلفة اقتصاديا وثقافيا، وسوف تستمر هذه المرحلة حوالي مائة سنة. ومن أجل بناء الاشتراكية في بلادنا، يجب سلوك طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية انطلاقا من ظروف بلادنا الخاصة. في المرحلة الحالية، فإن التناقض الاجتماعي الرئيسي في بلادنا هو التناقض بين حاجة الشعب المتزايدة إلى حياة جميلة والتنمية غير المتوازنة ولا الكافية”.
الجوهري في تجربة الصين ، وهذا هو المهم بالنسبة لنا في السودان في الفترة الانتقالية الحالية أنه تم تحقيق التنمية الشاملة انطلاقا من الداخل الي الخارج ، والارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي باستقلال ودون الوقوع في شرك التبعية، فضلا عن الانفتاح علي الخارج ، بهدف الوصول للنظام الاشتراكي ذو الخصائص الصينية ، وتحديث نظام الدولة ، والانفتاح علي منجزات المجتمع البشري، والتمسك باقتصاد السوق الاشتراكي واكماله.
لقد ثابرت الصين منذ انتصار الثورة عام 1949 بقيادة الحزب الشيوعي في هذا الطريق المعقد وتجاوزت سلبياتها وأخطائها ، واتسمت بالمرونة والمبدئية، وجددت في هياكل النظام السياسية والادارية ،مما جعلها تتجاوز الأخطاء التي أدت لانهيار الاتحاد السوفيتي، مثل : التركيز علي الصناعات الثقيلة والعسكرية علي حساب سلع الاستهلاك، وواصلت التنمية المستقلة حتي بعد انهيار النماذج الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي و شرق أوربا ،حتى وصلت الي مصاف الدول المتقدمة وأصبح اقتصادها أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية حيث بلغ الناتج المحلي الاجمالي للصين 15,38 تريليون دولار أمريكي في العام 2020 ( الشرق الأوسط 1 /يناير/ 2021)، رغم جائحة كورونا التي تركت تأثيرها علي الاقتصاد العالمي ، وبلغ نصيب دخل الفرد في اجمالي الدخل القومي 10 ألف دولار بعد أن كان 300 دولار عام 1986 ، علما بأن عدد السكان وفقا لاحصائيات 2020 حوالي مليار ونصف نسمة، استطاعت الدولة أن توفر لهم الغذاء والكساء كما جاء في تقرير المؤتمر ال 19 للحزب الشيوعي الصيني الذي قدمه الأمين العام للحزب شي جين بينغ في 18 أكتوبر 2017 ، وتخفيض نسبة الفقر الي 4% بعد أن كانت 10,2%، اضافة لتوفير التعليم والصحة والدواء لجميع أفراد الشعب مما جعلها مؤهلة لمكافحة “كورونا” التي انطلقت من “وهان” في الصين حتى ابتكار لقاح جديد لها، وتوفير السكن والمباني الراقية والشاهقة ليس في المدن ، بل في الريف، علما بأنه ما زالت هناك مشاكل مثل:4% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، والتنمية غير المتوازنة، بين المدينة والريف، وفعالية التنمية وجودتها غير عالية، وضعف تحسين مستوي معيشة الشعب، وصعوبات في التوظيف والتعليم والخدمات الصحية والمساكن ورعاية المسنين، اضافة لمشاكل تتعلق ببناء الحزب، والتركيز علي الصناعات التصديرية أكثر من الصناعات الأخري، والخلل في التوازن البيئي االمطلوب، والفساد الذي تسبب في خسائر فادحة للاقتصاد الوطني، وضرورة اصلاح النظام السياسي والاداري ليواكب المتغيرات الجديدة وغير ذلك من المشاكل والصعوبات التي أشار لها المؤتمر 19 للحزب الشيوعي الصيني في 2017 ، وطرح ضرورة السعي لحلها.
واصلت الصين تقدمها رغم استمرار الهجوم عليها من الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجيه الاتهامات لها ، مثل : دورها في انتشار كرونا، والعقوبات ، واثارة التعرات القومية لتفكيك الصين كما في حالة الأفلية المسلمة في “الايغور”و “التبت “، وانتهاك حقوق الانسان، وتفكيك النظام الشمولي في الصين ليواكب اقتصاد السوق ، ووقف دور قطاع الدولة الرقابي في التنمية ، والمحاولات المستمرة لالغاء الاستقلال المالي للصين ودمجها في العولمة المالية التي تسيطر عليها أمريكا واوربا واليابان ولربطها بالدولار بهدف خنقها ماليا، وتصعيد التوتر والاستعداد للحرب ضدها لارهاقها بالتسليح العسكري المكلف ماليا، وغير ذلك.

كما تتخوف الولايات المتحدة من صعود الصين الذي سيغير الموازين في النظام الدولي الذي تميز بالاحادية القطبية بعد نهاية الحرب الباردة، الي قيام نظام متعدد الأقطاب، اضافة الي أنها تشكل مثلا لبلدان العالم الثالث لشق طريق التنمية المستقلة المعتمدة علي الذات ، انطلاقا من الداخل ، بعيدا عن التبعية للمؤسسات المالية للرأسمالية العالمية، فالولايات المتحدة لاتهمها الديمقراطية وحقوق الانسان كما حدث في تجارب بلدان كثيرة مثل شيلي 1973، بل تهمها مصالحها وتطلعها لتفكيك الصين ، ونهب مواردها، وباعتبارها سوق ضخم لبضائعها، رغم أهمية الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الانسان لتطوير واستمرارية التجربة الصينية المستقلة في التنمية.
2
لم يكن غريبا أن تصل الصين الي مصاف الدول المتقدمة ، فهي ذات حضارة عمرها أكثر من 5000 سنة ، مثل :حضارات بابل واليونان ، والنوبة وسومر ومصر ، عرفت حضارة الصين الزراعة وتطور نظام الري المركزي، والتجارة ، والصناعات الحرفية، وتطور العلوم مثل : الفلك ، واللغة المكتوبة ، وتعدد الديانات ” البوذية، المسيحية، الاسلام” ، اضافة لظهورفلاسفة وحكماء كان لهم تأثيرهم في الثقافة الصينية مثل: كونفوشيوس وطاو وفلسفتهما ( الطاوية والكونفوشيوسية). الخ، قبل أن يقطع تطورها الطبيعي الاستعمار الياباني والبريطاني بهدف نهب مواردها ، ودخولها في المرحلة المظلمة من “حرب الأفيون” القذرة التي خاضتها بريطانيا ضدها ، مما أدي للتخلف والفقر وتفاقم أزمة المجاعات والجهل والمرض، ، واستطاع الشعب مواصلة المقاومة من أجل الاستقلال والتحديث والنهضة والتقدم ، حتى تم إلغاء نظام الاختبارات الكونفوشيوسي 1905 ، والاطاحة بالامبراطورية بسقوط أسرة تشينج وتأسيس الجمهورية 1911 بقيادة “صن يات صن” مؤسس حزب الكومنتانج ( الحزب الوطني) ، ومواصلة النضال كما في حركة الرابع من مايو لتحديث الثقافة والسياسة التي قادت المظاهرات ضد معاهدة فرساي التي تم بموجبها تسليم حقوق المانيا في اقليم شتاندونج لليابان، وتأسيس الحزب الشيوعي الصيني 1921، وتحالفه مع الكومنتانج من أجل الاستقلال، وتصديه لهجوم الكومنتانج عليه بهدف تصفيته ، والمسيرة الطويلة للشيوعيين للانسحاب من هجوم الكومنتانج : 1934- 1935، ومقاومة الغزو الياباني 1937 – 1945 ، وتأسيس جمهورية الصين الشعبية بقيادة الحزب الشيوعي وهروب الكومنتنانج الي تايوان 1949.
3
بعد نجاح الثورة الصينية والاطاحة بالحكم الاستعماري وحلفائه من الاقطاعيين والرأسماليين وتحقيق الاستقلال الوطني عن طريق الثورة الشعبية التي اعتمدت تكتيك محاصرة المدن من الريف والاستيلاء علي السلطة بالقوة المسلحة، خاضت الصين تجربة البناء والاصلاح الزراعي ، وانطلاق مشروع القفزة الكبري ليواكب التصنيع الاصلاح الزراعي ، وانتقدت وتجاوزت الأخطاء التي حدثت مثل تغليب الصناعة الثقيلة علي الزراعة التي تم تصحيحها بعد أن أدت للمجاعة 1959- 1961 ، والخطة الخمسية الأولي، والخلاف الصيني السوفيتي الذي أدي للانقسام في الحركة الشيوعية العالمية ، مما أدي لسحب الاتحاد السوفيتي مستشاريه التقنيين من الصين ، واتساع المصادمات مع الاتحاد السوفيتي، مما أدي لمزيد من عزلة الصين اضافة للحصار الأمريكي بعد نشوب الحرب بين الصين وأمريكا في الحرب الكورية 1950- 1953 ، والصراع الايديولوجي في الداخل الذي عبرت عنه حملة ” دع مائة زهرة تتفتح”، واجراء الصين لأول تجاربها النووية التي غلت يد أمريكا ضد الصين ، وانطلاق الثورة الثقافية ( 1966- 1976)، ونجاح الصين في اطلاق أول قمر صناعي 1970 ، وحدث وفاة لين بياو نائب الرئيس ماو في حادث تحطم طائرة في منغوليا، واستعادة الصين لمقعدها في الأمم المتحدة 1971 ، وبداية التطبيع بين أمريكا والصين بعد زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين، واقامة علاقات دبلوماسية بين الصين وأمريكا عام 1979، والصراع علي السلطة بعد وفاة ماوتسي تونج عام 1976 واعتقال جيانج تشينج وشركائها الملقبين ب”عصابة الأربعة”، واطلاق شياو بينج اصلاحات اقتصادية موجهة نحو السوق 1978 . (للمزيد من التفاصيل راجع: ريتشارد كيرت كراوس ، الثورة الثقافية الصينية ، ترجمة شيماء طه الريدي ، مراجعة محمد إبراهيم الجندي).
4
بعد نجاح الاصلاحات وسياسة الانفتاح التي تم اقرارها بعد وصول دينغ زياو بينج للسلطة في بعض المدن الساحلية ، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني التوسع في الاصلاحات ، وتم : سن قوانين تشجع علي الاستثمارات ، واعطاء المزيد من الصلاحيات للمناطق التي تتمع بحكم ذاتي، وتعزيز التطور العلمي والتكنولوجي في ميادين التعليم والتصنيع ، واقامة صناعات تخدم الدفاع الوطني والجيش ، وتوظيف الاستثمارات الأجنبية في خدمة الاقتصاد الوطني، والتمسك بمزيد من الانفتاح والاندماج العالمي وزيادة التجارة الخارجية بنسببة 35%، الاستمرار في اصلاح النظام الاقتصادي بعد تعرضه لهزات بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، التعايش مع قيم السوق الاقتصادي العالمي وفق معايير ومواصفات نظام ليبرالي مع ابقاء الدور الرقابي للدولة والحزب الشيوعي، ودخول الصين للاقتصاد الحر والانضمام لمنظمة التجارة العالمية.
صحيح أنه حدثت أخطاء في البداية في التطبيق أدي لارتفاع التضخم والأسعار، لكن تم تطبيق سياسة اصلاحية أدت للتحول لمرحلة جديدة، تم فيها الدمج بين اقتصاد السوق والاقتصاد الاشتراكي للدولة عبر اتباع سياسة اقتصادية تتسم بالانفتاح والعمل وفق توجهات السوق العالمي من أجل النهوض بالاقتصاد الصيني. كما ساعد في النهوض سمات الشعب الصيني وحبه للوطن وصبره وطاقته في العمل ، وخصائص الصين التي تتمتع بالتنوع العرقي والقومي حيث بلغ عدد القوميات 56 ، والذي يعتبر مصدر قوة وثراء، وتنوع موارد الصين الطبيعية من ثروات زراعية وحيوانية ومعدنية ، وغابية، ووجود مدن ساحلية ، .الخ.
كانت حصيلة هذه السياسة علي مدي اربعة عقود اضافة لما أشرنا سابقا الآتي :
– اتساع حجم التجارة الصينية حيث بلغ حجم الصادرات والواردات ا 4,57 نرليون دولار أمريكي العام 2020 .
– حدث نمو في الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 2,3% العام 2020.
– حققت الصين أعلي احتياطي من النقد في العالم بلغ 3,103 تريليون دولار أمريكي ( رغم خسائر كورونا ما زالت تحتفظ بأضخم احتياطي للدولار عالميا).
– بلغ معدل البطالة 4,1% عام 2019 .
– اصبحت الصين أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم.
– كانت الصين في العام 1978 عندما اعلنت الاصلاحات في المرتبة التاسعة في الناتج المحلي الاجمالي بمبلغ 214 مليار دولار ، وفي العام 2019 اصبحت في المرتبة الثاتية حيث بلغ 9,87 تريليون دولار أمريكي.
– بلغ الفائض التجاري للصين 78,4 مليار دولار في العام 2020 ،
– تم تطوير الصناعات الناشئة مثل الاقتصاد الرقمي و بناء المنشآت للبنية التحتية مثل: الخطوط الحديدية الفائقة السرعة والطرق العامة والجسور والموانئ والمطارات.
– تم دفع عجلة التحديث الزراعي بخطوات ثابتة، حيث بلغت القدرة على إنتاج الحبوب الغذائية 600 مليون طن سنويا.
– ارتفعت نسبة الحضرنة بمعدل سنوي يبلغ 1,2 بالمائة، وجعل ذلك ما يزيد عن 80 مليونا من السكان المنتقلين من القطاع الزراعي سكانا في المدن والبلدات.
– زادت التنمية الإقليمية تناسقا، ونم تحقيق منجزات ملحوظة في بناء “الحزام والطريق” (“الحزام الاقتصادي على طول طريق الحرير. و”طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين” .
– تحقيق منجزات علمية وتكنولوجية هامة مثل :مختبر “تيانقونغ” الفضائي وغواصة “جياولونغ” المأهولة للمياه العميقة وتلسكوب “تيانيان” اللاسلكي ذي الفتحة الواحدة وقمر “ووكونغ” الصناعي الصيني لسبر المادة الداكنة وقمر “موتسي” الصناعي للاتصالات الكمية وطائرة الركاب الضخمة إلى حيز الوجود تباعا. – تم الدفع بنشاط لعملية البناء في الجزر والشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي.
( للمزيد من التفاصيل راجع تقرير اللجنة المركزية للمؤتمر ال 19 للحزب الشيوعي الصيني الذي قدمه الأمين العام للحزب شي جينغ بينج).
5
يتضح مما سبق أن التجربة الصينية استندت علي شعبها وخصائصها وتاريخ الصين ، اطلق عليها ” اقتصاد السوق الاشتراكي” ، وتجربة اقتصاد السوق ليست جديدة ، فقد لجأ لينين لتجربة مماثلة في ” السياسة الاقتصادية الجديدة ” في روسيا عام 1921 بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها ، وخرجت روسيا منها منهكة بسبب الحصار والنقص في الأنفس والثمرات ، ونقص الغذاء بسبب تدهور الإنتاج الزراعي، وتم السماح باطلاق حرية التجارة في البلاد ، وتشجيع الرساميل الأجنبية للعمل داخل الاتحاد السوفيتي، والسماح بالملكية الشخصية للأرض مما زاد من إنتاج الفلاحين ، وتم انتعاش في الاقتصاد.الخ ، رغم اختلاف ظروف التجربتين.
كما يري الحزب الشيوعي الصيني أنه لم يتراجع عن الاشتراكية ، ومازال متمسكا بالماركسية اللينينية وأفكار ماوتسي نونج ونظرية شي جينغ بينغ ، كما جاء في دستوره المجاز في المؤتمر ال 19 للحزب الذي أشار ايضا الي أن : ” الحزب الشيوعي الصيني هو طليعة الطبقة العاملة الصينية، وهو كذلك طليعة الشعب الصيني والأمة الصينية، والنواة القيادية لقضية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، ويمثل متطلبات تطور القوى المنتجة المتقدمة الصينية ويمثل اتجاه التقدم للثقافة المتقدمة الصينية ويمثل المصالح الأساسية للغالبية الساحقة من الشعب الصيني. والمثل العليا والهدف النهائي للحزب هو تحقيق الشيوعية” .
اختلفت تقديرات الاقتصاديين لوصف طبيعة النظام في الصين ، فمنهم من رأي أن الصين تخلت عن الطريق الاشتراكي والشيوعي ، واصبحت رأسمالية خالصة وودعت ماوتسي تونغ والمسيرة الكبري والاصلاح الزراعي والثورة الثقافية الخ من تجربة الثورة الصينية التي تعتبر من أعظم ثورات حركات التحرر الوطني في العالم بعد الحرب العالمية الثانية التي ساهمت في تفكيك النظام الاستعماري المباشر، فنجد أن الاقتصادي” فيليب بيبي” اطلق عليه اصطلاح ” الرأسمالية الشمولية” وسمير أمين اطلق عليه ” رأسمالية الدولة” ، ويري في مقال له بعنوان ” الصعود الناجح للصين” أن الصين لم تتراجع عن طريقها الثوري التحرري الذي سار عليه ماوتسي تونج ، والتغيير الذي أحدثه دينغ زياو بينج منذ ثمانينيات القرن الماضي استمرار للنهج نفسه ، رغم تكريس رأسمالية الدولة ، وانفتاح علي النظام الرأسمالي العالمي”، وأشار الي أنها تجربة علي الطريق الطويل للاشتراكية استندت علي خصائص الصين .
في مناقشة تلك الآراء ، يبدو لي أن الحديث عن تخلي الصين عن الاشتراكية غير دقيق ، فالصين لا زالت في المرحلة الأولي من الاشتراكية ، فقد أشار دستور الحزب الشيوعي الصيني أن الصين “لازالت في المرحلة الأولية من الاشتراكية”.، وأن “التناقض الاجتماعي الرئيسي في الصين هو التناقض بين حاجة الشعب المتزايدة إلى حياة جميلة والتنمية غير المتوازنة ولا الكافية”.
هذا فضلا عن أنه في المرحلة الاشتراكية، كما أشار ماركس في مؤلفه ” نقد برنامج غوتا” : يظل قانون القيمة الخاص بحركة السلع يفعل فعله، وبالتالي سوف يستمر التفاوت بين الناس حسب تفاوت قدراتهم الذهنية ومواهبهم، وبالتالي سوف يستمر الحق البورجوازي، ويسود شعار من “كل حسب قدرته ولكل حسب عمله”.
بالتالي ليس هناك مشكلة في “اقتصاد السوق”، فالسوق تفرزه كل خلايا المجتمع في هذه المرحلة ، لكن المهم كيف يتحكم قطاع الدولة في مجراه ومرساه ، واشباع حاجات المواطنين الأساسية، وتطويرهم بمشاركتهم من كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومستقبل التجربة الصينية يعتمد علي مدي المسك بهذا التوازن ، وعدم الانحراف الي الطريق الراسمالي الصرف.
أما الحديث عن تخلي الصين عن الشيوعية فلا معني له ، فالصين اصلا لم تدخل مرحلة الشيوعية التي تعتبر هدف الحزب الشيوعي البعيد.
كما أشار سمير أمين الي نقطة مهمة : أن تجربة الصين انطلقت من خصائص الصين التي تتعلق بملكية الأرض والإنتاج الزراعي الخاص العائلي الأمر الذي حال دون تحول الأرض الي سلعة كما حدث في التجربة الأوربية والروسية.
والواقع أن حقيقة استمرار علاقات لا راسمالية في الزراعة (الزراعة العائلية والفردية) حتي في حقبة رأس المال المتعدد الجنسيات الحالية، يؤكد أن الموضوع معقد ولايجوز التبسيط فيه، وأن قوة العمل العائلية لها دور في تنمية الثروة العامة للبلاد وفي توفير الغذاء، ولايمكن ان تزول بين يوم وليلة.
فقد كان مؤسسو الماركسية يدركون ان موضوع المزارعين وعلاقتهم مع بقية الطبقات في الثورة الاشتراكية عملية معقدة، وصعبة ولايجوز التبسيط فيها باتخاذ الاجراءات الادارية والقسرية، كمثل الحال الذي تم في روسيا ، اثناء فترة التحول القسري للمزارع الجماعية، مما ادي الي تراجع الزراعة فيها.
يقول انجلز: ( من الواضح لنا أنه عندما تصبح سلطة الدولة في يدنا لن يخطر ببالنا أن ننزع ملكية الفلاحين الصغار بالعنف (بتعويض أو بغير تعويض سيان)، ان مهمتنا تجاه الفلاحين الصغار تقوم قبل كل شئ في توجيه إنتاجهم صغير الحجم وملكياتهم الخاصة في السبيل التعاوني، لابواسطة العنف، بل عن طريق المثل وتقديم مساعدة المجتمع لهذا الغرض، ومن المؤكد أنه سيكون لدينا من ذلك ما يكفي من الوسائل لكي نبين للفلاح الصغير المنافع المرتبطة بمثل هذا التحول، اننا نقف بحزم الي جانب الفلاح الصغير، سنبذل جهدنا في نطاق الممكن لكي نجعل قسمته اكثر احتمالا، ولكي نسهل عليه الانتقال الي التعاونية اذا ما اقدم علي هذه الخطوة، واذا كان لايستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بعد ، فسوف نعطيه وقتا وفيرا للتفكير في الأمر وهو في ارضه الصغيرة).
بالتالي، فان انجلز كان واقعيا، وكان يدرك حجم تعقيد ارتباط الفلاح بالارض والزراعة الصغيرة ودورها في الانتاج وارتباط الفلاح بملكيته الزراعية، وحرية التجارة، وتفانيه في رفع الانتاجية، وهذا ما استفادت منه الصين في زيادة الإنتاج الزراعي..
حول تحديد طبيعة النظام في الصين يبدو أن وصف ” رأسمالية الدولة” اقرب للدقة ، فالصين حسب دستور الحزب الشيوعي ما زالت في بداية الطريق للاشتراكية، بالتالي لا يمكن وصفها بأنها دولة اشتراكية ،فهي تدعو لتوزيع عادل للثروة ، وأن المشروعات الخاصة زادت من عدم المساواة مع التوسع في اقتصاد السوق ، وما زالت الدولة تتحكم في القطاعات الحاسمة مثل: المصارف والطاقة والمواصلات والتعليم ، الخ وتمتلك الصين أكبر احتياطي نقدي في العالم بمقدار3,103 تريليون دولار أمريكي، والدولة تسمح ببعض الاستثمارات ذات الطبيعة الرأسمالية ، ولكن تحت مراقبتها وتوجيهها.
6
وأخيرا، ما يهمنا من تجربة الصين في التنمية المستقلة دون النقل الأعمي للتجربة ، لكن مع الأخذ في الاعتبار خصائص السودان ، نأخذ ضرورة : التوجه للداخل بالاعتماد علي النفس والانفتاح دون االانعزال عن العالم ، وعدم التبعية لمراكز الرأسمالية العالمية، وبناء التكتولوجيا الملائمة التي ساعدت الصين في الانطلاق نحو التصنيع ، وتوفير احتياجات الجماهير الأساسية وتوفير الغذاء ، كما يقول المثل : ” من لا يملك قوته ، لا يملك قراره ” ومقاومة الفساد وأثراء الأقلية علي حساب الأغلبية، الديمقراطية ومشاركة الجماهير في التنمية ، والاصالة والهوية الثقافية والحضارية، والانطلاق من المحلية الي العالمية. وفي ذلك أشار التقرير المقدم للمؤتمر 19 للحزب الشيوعي الصيني الي أن :
” الاشتراكية العلمية أظهرت حيويتها ونشاطها الجبارَين بالصين في القرن الـ21، حيث ترفرف الرايةُ العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية عاليةً في العالم؛ ويشير ذلك أيضا إلى أن طريق ونظرية ونظام وثقافة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية تتطور بلا انقطاع، إذ أنها وسعت سبل توجّه الدول النامية تجاه التحديث، وأتاحت خيارا جديدا كل الجدة لتلك الدول والأمم التي لا تأمل في تسريع تنميتها فحسب، بل ترغب أيضا في الحفاظ على استقلاليتها”.. 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.