ليس لإفساد بهجة اليوم

0 89
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
قيل البابا الصلح ندمان. وسلام جوبا ما بيتأبي. ولكنه من تلك الأشياء التي تخلي فيها نصك عاقل ونصك مجنون. فهو السلام المحفوف بالنذر حتى لكأنه مطلوب منك به أن تمشى على العجين ولا تلخبطه.
من مخافات هذا السلام أنه من تلك التي اشتهرت عندنا بنقضها لا بموالاتها وتنفيذها. ومن الموقعين مثل السيد أركو مناوى من ضاق لسع عقرب العهود المجهضة. وقس على ذلك تجمد اتفاق الشرق على الصورة التي جاءت في ندوة على التلفزيون قبل أيام. ويقع الحنث بالوعد لأنها اتفاقات انعقدت مع نظم عسكرية نظرت لها كصفقة لتأمين استمرار حكمها حتى تنقلب عليها عند أول سانحة متى ظهر عرض أفضل لبقائها في هذا الحكم. لم تسلم من ذلك اتفاقية أديس أبابا في ١٩٧٢ التي أعطت الجنوب عقداً من السلام لم يشهده لا قبلها ولا بعدها.
خرج سلام جوبا من شهوتين سياسيتين. كانت الحكومة بحاجة إلى خبر سعيد ممن عدتهم حلفاء في الحركات المسلحة فلقوها خصماء. وكان العسكريون في قحت بحاجة إلى تعزيز قاعدتهم السياسية بحليف يرجح كفتهم في الحكم. وبلغت الحكومة من انتظار هذا الخبر السعيد المضمون أنها لم تأت لمائدة المفاوضات باستراتيجية حتى اختطفها العسكريون بصباح. واحتجت رموز من قحت في مقام الإمام الصادق المهدي والسيد إبراهيم والدكتور الأصم والحزب الشيوعي على غيبة تلك الاستراتيجية بعبارة عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع. وبدا لي أنهم لم يريدوا إفساد الخبر السعيد أو، بعبارة أخرى، الإمطار على حفل قحت. وبلغ من غياب هذه الاستراتيجية أن كان من لاحظها من هم على الجانب الآخر من مائدة التفاوض مثل الدكتورين إسماعيل آدم أبكر ومحد جلال هاشم.
والمخافة أن يكون سلم جوبا من تلك التي تنعقد لتنقض لأنه تواثق بين حركات مسلحة وعسكريين مثقلين بشريك مدني قوى. فيدهم غير مطلوقة مثل النميري في اتفاق جوبا أو البشير في اتفاقاته التي بلا حصر. ولكن تلح على عسكر قحت بأكثر من نميري والبشير الرغبة في تأمين وجودهم السياسي. فتولد السلام عليه من شهوة العسكريين لسلم يكبر كومهم بوجه قحت ذات الغزارة الجماهيرية أو المرجعية الجماهيرية في أسوأ الأحوال. واضطرت عزلة العسكريين هذه كما رأينا إلى مغازلة قوى مختلفة بلا جدوى إلا لإنقاذيين لأن بينهما ما بينهما. ولكنهم وجدوا من الجانب الآخر في الجبهة الثورية استعداداً (بل شرها) لحلف معهم منذ لقاءات حميدتي بقادة منهم في تشاد بعد عكلتة قحت معهم في مفاوضات أديس أبابا. ناهيك من جهود الأمارات غير الذكية في تمتين ما بين الجبهة الثورية وحميدتي بالذات وهو الذي تراهن عليه ليستكمل المثلث الحفتري من مصر وليبيا والسودان.
ومما يرجح أن الاتفاقية لن تتنزل سلماً أنها انعقدت مع حركات ليست في خطر تلك التي غابت. ووضعت مع ذلك إطاراً شاملا لذلك السلم لا ننتظر أن تقبل به الحركات الغائبة. فبين هذه الحركات ضر حال دونها ومجرد الاجتماع في طاولة واحدة لتنسيق ما بينها برغم اتفاقها جميعاً على تشخيص مشكلة السودان كمركز وأطراف. ومن نظر في سيرة مؤتمر الدوحة لسلام دارفور في ٢٠٠٧ لوجد أن خصومة الحركات كانت فيمن سيحظى بالاعتبار دون غيره فيه. وقلت في كلمة قديمة إن عملية “الذراع الطويل” كانت فكرة العدل والمساواة لتقول لناس الدوحة إنهم “الملوك وهم الرعية”.
فلا أعرف مثلاً إن كانت حركة الحلو ستقبل بنائب وال من حركة عقار على جبال النوبة على ثانوية المسألة ناهيك من استحواذ الجبهة الثورية بمقاعد مجلس السيادة والوزراء والمجلس التشريعي. و”كبرها” اتفاق جوبا حتى كاد يلغي نفسه بنفسه.
وغير خاف أن اتفاق جوبا هدد السلام في الشرق الآمن كما رأينا قبل أن يؤمنه حيث ينبغي في أقاليم الحرب. فضرج بورتسودان وكسلا بالدم والثورة احتجاجا على استصحاب الجبهة الثورية كيانات دون غيرها في التفاوض. فأسبغت عليها بحكم عضويتها فيها جاهاً لا لأنها ممثل الشرق بلا منازع. وتحاول الجبهة الآن احتواء احتجاج قوى مهمة في الشرق بالتلويح بانعقاد المؤتمر التشاوري للشرق المنصوص عليه في اتفاقية جوبا. ولا أعرف إن قبلت جماعات الشرق الأخرى أن تُشَاور فيما أمضاه غيرها جزافاً فصار مفاوضاً بينما ترك غيره ليُشاور فيما بعد وربما يخالف.
ولعل أكبر مخاطر هذا السلم إطلاقاً هي نزاع الموقعين عليه على الوظائف في ظاهرة اسميها “متوالية أبو القاسم إمام” بيني وبين نفسي. فما وقع أبو القاسم على اتفاق سلام مع الإنقاذ حتى عاد للحرب لأنه لم يحصل على الوظيفة المستحقة. والشواهد على دائرة التمرد فالسلم فالتمرد كثيرة. وسيجد كل محموق من حرمانه الوظيفة المستحقة عزاء في الانشقاق والانضمام لحركة عبد الواحد في حالة دافور.
وهذا نصنا العاقل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.