مباحثات جوبا: هل هي بحث مخلص عن سلام دائم؟ أم سعي محموم وراء المغانم؟ (٥)

0 93
كتب: د. الباقر العفيف
“إن ما خرجت تبحث عنه تركته وراءك في بسطام”
(الشيخ أبا يزيد البسطامي)”
بين المنطق والديماغوجيا
مقدمة الجزء الخامس
ناقشنا في الأجزاء السابقة قضية الهوية باعتبارها تمثل الجذر الأعمق للحرب في السودان. وملخص ذلك النقاش أن الطبقة الحاكمة فشلت في إدارة التنوع الثقافي الذي تذخر به بلادنا. وهي فشلت لسبب بسيط هو عدم اعترافها بذلك التنوع. أكثر من ذلك ظل مسعاها الدؤوب الذي وظفت له جل إمكانات الدولة هو محو ذلك التنوع. وأنها سعت سعيا دؤوبا لتحويل هويتها الثقافية الذاتية لتصبح هوية أحادية لكل البلاد. وبعبارات أخرى حسمت الطبقة الحاكمة هوية الدولة من طرف واحد لتصبح عروبية-إسلامية. وحسمت موضوع القوانين من طرف واحد لتصبح قوانين الشريعة الإسلامية. هذا المشروع غير العقلاني والقهري فشل فشلا ذريعا بعد أن كلفنا أكثر من خمسة عقود من الحروب العبثية والموت المجاني والدمار الشامل والنزوح واللجوء والشقاء والآلام والضغائن. وقد تُوِّج كل ذلك بانفصال الجنوب الذي معه ذهبت ثلث مساحة البلاد وربع سكانها.
هذا هو حصاد سياسيينا عبر التاريخ. وهو حصاد لا شبيه له إلا حصاد “البصيرة ام حمد”، فسياسيونا قطعوا رأس العجل ثم كسروا الجُّرَّة. والمعضلة الحقيقية هي أن البصيرة ام حمد ما زالت موجودة بيننا، تسود وتتحكم وتؤثر. فهي موجودة داخل ردهات القصر الجمهوري، وموجودة على مائدة المفاوضات في جوبا، وموجودة في كثير من الأحزاب التي تلتمس شرعيتها في الدين، وموجودة كذلك في المساجد التي يسيطر عليها السلفيون بجميع مشاربهم، وموجودة وسط علماء الدين التقليديين. وبعبارة واحدة هي موجودة في ذهنية مثلث حمدي. أما المؤلم حقا، فقد انضم لهذا الرَّهط أقوام نعدُّهم من الأخيار.
حرب الكلمات
يثور الآن غبار كثيف حول العلمانية يكاد يحجب الرؤية. هذا الغبار يثيره الإسلامويون ولكن يمضي في ركابه ويسير تحت راياته آخرون يجدون مكانا في صفوف الثورة. الإسلامويون نجحوا في شيطنة كلمات معينة مثل الشيوعية والعلمانية. فكثيرا ما تتردد في خطاباتهم عبارات من شاكلة “شيوعي ملحد”، و”علماني كافر”، وبالطبع لا ننسى “جمهوري مرتد”. الآن أضافوا إلى هذا القاموس عبارة “القحاطة العلمانيين الملحدين الكفار”.
الإسلامويون حذقوا مهارتين من مهارات الفاشية والنازية هما الديماغوجية والشعبوية. والديماغوجية تعني تطفيف النقاش والإخلال بقواعده واتساقه الداخلي، وإفراغه من مضامينه. فالديماغوجيون هم المطففون “الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون”. فآلية التطفيف واحدة سواء كانت في كيل الحبوب في سوق المحاصيل، أو في كيل “مقاليم الحِجَجْ ” في سوق عكاظ. هذه الآلية هي الالتواء وعدم الإيفاء باستقامة المنطق. أما الشعبوية، فتهدف لتغييب العقل الجمعي، وذلك باللعب على مخاوف الناس، ودغدغة عواطفهم، وإثارة تحيزاتهم، وتأجيج مشاعرهم. فالخطاب الشعبوي ينبني على ركائز أربعة هي التضليل والإثارة والتجهيل والعويل. حذق الإسلامويون هاتين المهارتين، كما سلف القول، واحتكروا جميع الفضاءات ومنابر البث وأعطونا ثلاثة عقود من النبيح والهياج المتواصل. لذلك نجحوا في تحويل كلمة العلمانية إلى سُبَّة ينابذون بها أعداءهم.
مجانين وعقلاء
هؤلاء هم المجانين. أما العقلاء فما فتئوا يخوفوننا بهؤلاء المجانين ويحذروننا من مغبة “إيقاظ الكلاب النائمة”. ومن بين هؤلاء العقلاء نناقش إثنين هما السيد الصادق المهدي ولأستاذ ياسر عرمان. في هذا الجزء نبدأ بمناقشة آراء السيد الصادق المهدي وفي الجزء القادم نناقش آراء الأستاذ ياسر عرمان.
السيد الصادق المهدي
في مقاله بعنوان “ويسألونك عن العلمانية”، حلَّق بنا السيد الصادق كعهده إلى آفاق بعيدة. تحرك بين الماضي والحاضر، واستعرض فلسفات غربية وشرقية. بدأ رحلته من نشأة المصطلح وبيئته الأصلية. ثم انطلق بنا إلى أوروبا القرون الوسطى وتسلط الكنيسة والحكم الثيوقراطي. ومرَّ بنا على حروب الكاثوليك والبروتستانت ومؤتمر وستفاليا للعام ١٦٤٨. وبعد سياحة في العالم الإسلامي والعربي دحض خلالها جميع مقولات العلمانيين العرب مثل طه حسين، وسلامة موسى، وكذلك مقولات دعاة أنسنة القرآن مثل محمد عابد الجابري ومحمد أركون، ونصر حامد أبوزيد، ومحمد شحرور، ومحمود محمد طه، وبعد أن عرج على الأحزاب العلمانية اليسارية الصغيرة التي ظلت تختبئ وراء الحركة الشعبية لتحرير السودان لتحقق لها العلمانية، وصل لنتيجة مفادها إن العلمانية ليست من مطلوبات السلام وأن الدعوة لها إنما هي “دعوة مشبوهة تعطي ذخيرة لقوى معينة للهجوم”. وأن الغرض من إثارتها هو تخريب الفترة الانتقالية.
الحلم المميت
فهل كان السيد الصادق بحاجة لكل ذلك التطواف الكوني ليصل لهذه النتيجة؟ إننا نناقش مشكلة محلية بحتة. هي أنه في السودان هناك أحزاب كانت دوما تحلم حلما رومانسيا بشيء هلامي اسمه الدولة الإسلامية. وأن ضمن هؤلاء الحالمين حزب السيد الصادق نفسه. هذا الحلم تحول إلى كابوس مرعب وجحيم لا يطاق بالنسبة لشعبنا، منذ أن أوحى الشيطان للنميري عام ١٩٨٣ بأن يعلن عن قرارات سبتمبر. أما على يد الترابي، فقد تجرع شعبنا وعلى مدى ثلاثين عاما مشاهد من أهوال يوم القيامة الموصوف في القرآن بهذه الآية من سورة الحاقة “خُذُوه فغُلُّوه ثم الجحيم صَلُّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه”. ظل شعبنا مغلولا في هذا الجحيم لثلاث عقود لا ندري مدى إحساس السيد الصادق بها. لم ينقذنا من هذا الجحيم إلا شبابنا وكنداكاتنا الذين خاضوا اللهيب ليضعوا عنا أغلالنا ويخرجونا من ذلك الجحيم. ورغم كل هذا ما يزال السيد الصادق المهدي يُصِرُّ على ذلك الحلم المميت. يريد أن يقنعنا بأن كل تلك الأهوال إنما هي مجرد خطأ في التطبيق. مجرد تجربة فاشلة. فالمشكلة لم تكن في النظرية. بل في فريق العلماء الذي كان يشرف على التجربة. فهم غير مؤهلين بدرجة كافية. أما هو فسوف يدخل بنا التجربة الناجحة هذه المرة. وكأن الله كتب علينا نحن شعب السودان، دون شعوب العالم قاطبة، أن نظل فيران تجارب، وخنازير غينية مرة للنميري ومرة للترابي ومرة للصادق.
فيا سيدي الصادق المهدي، دعنا من حكاية العلمانية وأصلها وفصلها وفلسفتها الشائكة هذه. ودعنا نقعد ونتوهط “في واطة الله دي” هنا في السودان. أولا، هناك قوانين للعقوبات الإسلامية تحت مُسمَّى الشريعة الإسلامية فرضها النميري بمفرده منذ سبتمبر عام ١٩٨٣، أنت قلت عنها إنها لا تساوي ثمن الحبر الذي كُتِبَت به من فرط سوئها وتفاهتها. ورغم ذلك عَجِزْتَ عن إلغائها وأنت في موقع السلطة. فكيف نفسر هذا التناقض؟ هل كان هذا عن قناعة، أم خوف من القوى الإسلامية، التي وصفتها بأنها “أقوى من القوى العلمانية”؟
وثانيا، هناك ثلاثون عاما من حكم الإنقاذ حُكِمنا فيها بالقانون الجنائي الإسلامي لعام ١٩٩١. هذه القوانين الإسلامية أدخلتنا في مشاكل كثيرة، ومظاِلم لا حد لها. ففيها انتهاك صريح لحقوق الإنسان كون عقوباتها قاسية وتنطوي على تعذيب وتعويق للإنسان. ففي عهد النميري، فَقَدَ أناسٌ كثيرون أطرافهم، نتيجة هذه القوانين، وصاروا عالة يتكففون الناس، أو عبئا على أسرهم.
أما في عهد الإنقاذ فقد جبُنَت الحكومة وعجِزت عن إصدار أي حكم بالقصاص أو الحدود ما عدا شرب الخمر وبيعه. لم تصدر المحاكم أحكاما بالقطع على السرقة الحدية، أو القطع من خلاف على الحرابة أو قطع الطريق، أو الرجم على زنا المحصن. لم تصدر المحاكم حكما واحدا. نعم أصدرت إحدى المحاكم حكما بالردة على مريم حسين ولكن سرعان ما تراجعت عنها وغيَّرت حكمها عندما ثارت ثائرة العالم ضدها. لم تَصْدُر المحكم تلك الأحكام ليس لأنه لم تقع أفعال تُعتَبر جرائم تحت هذه المواد طيلة الثلاثين عاما ولكن لأن الحكومة خائفة من ردود أفعال العالم على تلك الأحكام باعتبارها وحشية ومتخلفة، بالرغم من ادعاءاتهم العريضة بأنهم رساليون لا يخشون في الحق لومة لائم.
وكتعويض نفسي لعجزهم وخورهم أمام العالم، أفرط الإنقاذيون في استخدام عقوبة الجلد وأدخلوها في العديد من مواد القانون الجنائي. ونتيجة ذلك جُلِد مئات الآلاف من الرجال والنساء وأُهدِرَت كرامتُهم. فعلوا ذلك لأنهم أمنوا العواقب، كون الجلد لا يلفت أنظار العالم بمثلما تفعل أحكام القطع والرجم. والسؤال للسيد الصادق هو لماذا الإصرار على قوانين حتى الإنقاذ التي شرعتها كانت تخجل منها ولا تقوى على تنفيذها؟
ثالثا، إن هذه القوانين لم تجيء عن طريق التوافق الوطني أو الرضى الشعبي العام. وبعبارات أخرى، لم تأتِ كتتويج لحوار قومي طويل يفرز وعيا شعبيا عاما ينبني عليه اختيار واعي. وإنما فُرِضَت بالقهر والبطش، وحُشِرَت في حلق الشعب حشرا وهو يصرخ ويرفس. ولذلك ظلت غصة في الحلق وشوكة في الجنب وعامل شقاء وشقاق. ساهمت في تمزيق البلاد وفصل الجنوب والآن تهدد بالمزيد من التمزق والانفصال. فيا سيدي الصادق المهدي هل هذه القوانين غاية أم وسيلة؟ ولماذا الإصرار عليها حتى ولو قزٍّمت البلاد وأهلكت العباد؟ فهل خلق الله الأديان من أجل الإنسان أم خلق الإنسان من أجل الأديان؟
حجة مقلوبة
يقول السيد الصادق أن على القوى العلمانية طرح برامجهم العلمانية للشعب السوداني في الانتخابات الحرة والاحتكام له. ولكن بكل أسف هذه حجة ملتوية وغير منطقية. ونحن إن قبلنا بها فسوف تعني أن تستمر القوانين الإسلامية سارية المفعول إلى أن ينجح العلمانيون في إقناع الشعب بالعلمانية. ولكن هذه القوانين فرضت بالقوة في المقام الأول دون أي احتكام للشعب، فلماذا يُطالب العلمانيون بالاحتكام للشعب دون الاسلاميين؟ إذا أردنا أن نحتكم للشعب فلنسوي ميدان اللعب أولا. وهذا يقتضي إلغاء القوانين الإسلامية لأنه لم يحتكم فيها للشعب، والرجوع للقوانين السابقة لها، وهي قوانين ١٩٧٤. ومن هنا نبدأ حوارا وطنيا حقيقيا حول القوانين الإسلامية والعلمانية يدلي فيه الطرفان بحججهم ومشروعاتهم في جو حر ومتساوي يشهده الشعب ويشارك فيه في المنتديات والجامعات والمدارس وأجهزة الإعلام وفي المدن والقرى والوديان والفرقان لفترة يُتَّفقُ حول طولها يقوم بعدها استفتاء شعبي. هذا إن أردنا فعلا الاحتكام إلى وعي الشعب لا إلى جهله وعاطفته.
نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.