مداد القلم.. في قضايا الأدب والسياسة والتأريخ (3 من 6)

0 47

كتب: د. عمر مصطفى شركيان

.

على أيَّة حال، إذ يمضي المؤلِّف البروفيسور في صفحة من صفحات الكتاب السالف الذكر واصفاً مقاومة النُّوبة للاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م) بأنَّ “هذه المقاومة (…) لا يمكن أن تُفسَّر على أنَّها مقاومة قوميَّة، ذلك أنَّها كانت مقاومة قبليَّة مدفوعة بعوامل ومفاهيم قبليَّة وعقائديَّة، وموجَّهة إلى أيَّة جهة أجنبيَّة تحاول فرض سلطانها عليها.” في واقع الأمر يمكن النَّظر إلى الاقتباس إيَّاه من جانبين: جانب استهجاني منَّا لأنَّ ما حاول المؤلِّف إذاعته في النَّاس يتعارض مع وقائع الأقوال والأفعال؛ إذ ما الذي يجعل تمرُّد عبد القادر ود حبوبة ضد نفس السلطات الاستعماريَّة في السُّودان، و”نفس الزول الحاكم في الخرطوم”، ثورة قوميَّة، بينما ينظر إلى ما قام به أهالي النُّوبة في جبال النُّوبة بأنَّه “لا يمكن أن تُفسَّر على أنَّها مقاومة قوميَّة”. لعلَّ هذا يقودنا إلى السؤال الذي طرحناه آنفاً ألا وهو أيَّة معايير إمبريقيَّة تمَّ تطبيقها لاستنباط عوامل المقاومة االقوميَّة والتفريق بين هذا أو ذاك! أما الجانب الآخر من الاقتباس فإنَّه يشي بتناقض بائن في استطراد حديث المؤلِّف الذي عاد القهقرى واعترف بأنَّ المقاومة كانت “موجَّهة إلى أيَّة جهة أجنبيَّة تحاول فرض سلطانها عليها!” أفلم تحاول السلطات البريطانيَّة-المصريَّة فرض سلطانها في حل النزاع الذي نشأ حول ملكيَّة أراضي العائلة بين عبد القادر ود حبوبة من ناحية، وشقيقه وعمَّه من ناحية أخرى في منطقة الحلاوين بالجزيرة العام 1908م!
كذلك يستطرد المؤلِّف البروفيسور في صفحة أخرى من الكتاب المذكور آنفاً قائلاً: “لم يكن لأي من حركات المقاومة المذكورة سواء في الجيش أو الجنوب أو جبال النُّوبة صدى واسع في أرجاء القطر أو تأييد شعبي عام، ومن ثمَّ كان تجمُّعها يسيراً.” لا ريب في أنَّ الانفجارات الدوريَّة المتوالية في الأرياف أدَّت إلى تذكير حكومة السُّودان الاستعماريَّة بأنَّ روح الثورة ما زالت كامنة في نفوس الجماعات وأجزاء البلاد، بما فيها العاصمة ذاتها، ودونكم حركة اللواء الأبيض العام 1924م بقيادة الملازم علي عبد اللطيف، والتأييد العسكري والشعبي الذي قوبلت به الحركة في جميع أصقاع وبقاع البلاد، حتى وصل صداها أماكن نائية كما حدث في تلودي في جبال النُّوبة. إذ أنَّ التجريدات العسكريَّة والجهود السياسيَّة للقضاء على ضروب تلك المقاومة تعتبر دليلاً ساطعاً على أهميَّة وخطورة هذه الحركات المسلَّحة، وذلك عكس ما ذهب إليه المؤلِّف من نتائج غير موفَّقة سواءً أكان عمداً أم سهواً. لذلك كذلك يمكننا أن نصف تلك السلسلة من الأعمال القتاليَّة بأنَّها كانت محاولات مجزَّأة استهدفت في مجموعها، وفي حسِّها الوطني، عدم تمكين المستعمر من فرض وجوده وشخصيَّته على البلاد. غير أنَّ المستعمر قد استطاع خلال عقود من الزمان من تثبيت مقوِّماته الماديَّة، وفرض برامجه السياسيَّة والتربويَّة والعسكريَّة، ناقلاً السُّودان إلى مرحلة جديدة. لكن لا بدَّ من القول في بداية وبداهة الأمر إنَّ النُّوبة وغيرهم من شعوب البلاد الأصلاء قد عانوا كثيراً من الحكم التركي-المصري (1821-1885م)، وفي دولة المهديَّة (1882-1898م)، وأنَّ ذكريات ذينك العهدين كانت كامنة في أذهان كثرٍ من المواطنين. هذا ما كان من أمرنا مع بعض الملامح التي وردت في ثنايا ذلكم الكتاب.
إذ يعود بنا الأمر إلى حكاية رواها الدكتور الراحل وولتر كونيجوك. فماذا قال الدكتور كونيجوك؟ حكى الدكتور كونيجوك أنّهَ سبق أن التقى بالبروفيسور محمد عمر بشير، وسأله ما هذا التأريخ المفترى عليه الذي ظللتم تدرِّسونه للأجيال؟ فكان ردُّ البروفيسور بشير “إنَّ هذا ما أخذناه من المراجع المألوفة وظللنا عليه عاكفين،” وذلك دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث والتمحيص والتدقيق والتحليل العلمي الذي يتطلَّبه أي مجهود أكاديمي. وكذلك نستحضر في هذا الأمر البحث القيِّم الذي أعدَّه الأستاذ عبد الباقي حسن فيرين بعنوان “الأماويُّون (النيمانغ): بقيَّة الشعب المروي (بروا) العظيم” (2013م)، وقد بذل فيرين في هذا المبحث جهداً قصيَّاً، وما أن فرغ منه حتى قصد أحد أساتيذ جامعة الخرطوم الذي يُشار إليه بالبنان، وهو الذي ألَّف كثراً من الكتب كان جلها يرتكز على “الحضارة الإسلاميَّة في السُّودان”، وأمست هذه الكتب مراجعاً تُدرَّس للأجيال في الجامعات السُّودانيَّة. إذ طلب الباحث فيرين من هذا الدكتور الألمعي أن يقيِّم بحثه ريثما يقدِّمه كأطروحة لنيل إجازة الماجستير أو الدكتوراه، فما كان من دكتورنا الجامعي إلا الرِّفض بحجة أنَّه إذا أقدم على اعتماد بحثه هذا فإنَّه يعني تنازله عما كتبه في حياته الأكاديميَّة، وعليه أن يعيد قراءة إصداراته وغيرها من الأوراق العلميَّة التي نشرها. ومن ثمَّ وصاه إلى أستاذ آخر جريء، وهو البروفيسور أحمد الياس حسين، أستاذ التأريخ بجامعة الخرطوم، حيث كتب الأخير تقديماً عظيماً يليق بالبحث والباحث على حدٍّ سواء.

وللمقال بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.