مرثية غير معلنة 

0 66

كتب: يحيى فضل الله

.

 كنتُ قد لاحظتُ أنَّ الستارة وللوهلة الأولى من دخولي الغرفة (14) ستحرمني من متابعة تساقط الجليد في ليل مقمر، كنتُ لِتَوِّي قد أستلمتُ ورديتي الأولى لحراسة مجنون جديد، انشغلتُ بموضوع الستارة المسدلة على النافذة الوحيدة في الغرفة التي تطل على شارع منسي وقديم، واكتفيتُ بإلقاء نظرة سريعة على المريض “المكوم” على السرير في وضع جنيني، وضعتُ حقيبتي بالقرب من الكرسي الذي سأشغله لمدة 12 ساعة، تبدأ من الساعة الثانية عشر ليلاً وتنتهي في الثانية عشر منتصف نهار اليوم التالي، خلعتُ معطف الجليد الأسود المؤكد عليه اسم شركة الأمن التي أعمل فيها كحارس حِرْفَتُه بيع خبرته مع السهر، تخليتُ عن فكرة نفض المعطف متخلصاً مما علق به من جليد حتى لا أزعج (مريضي) في استرخائه الجنيني، ألبست الكرسي المعطف، فتحتُ حقيبتي وأخرجتُ “سيرميس” القهوة ودفتراً أدون عليه يومياتي، ورواية ممتعة وعصية ومستعصية هي (مالوي يموت) للكاتب الإيرلندي المحسوب على اللغة الفرنسية (صموئيل بيكيت)، مترجمة إلى العربية ومن إصدارات دار الهلال المصرية، وضعتُ كل أدوات السهر هذي على منضدة صغيرة على يميني من حيث جلوسي على الكرسي، جلستُ على الكرسي و(مريضي) لازال في استرخائه الجنيني، وحين كان عليَّ أن أتخلص من ربطة العنق السوداء والتي تمارس تضادها على بياض القميص، تململ (مريضي) قليلاً، أنا لم أرَ وجهه حتى الآن، انتبهتُ لململته واستطعتُ أن أخطف لمحة من وجهه، وهالني ما رأيت من شرود وأسى ورعب مزمن في نظرة عينيه، هي نظرة خاطفة التقت فيها عيوننا، ولكنها تكفي تماماً كي أعرف أنني أمام مريضٍ مختلفٍ عن المرضى الذين حرستهم من قبل، ظل (مريضي) يتقلب على السرير من جهة إلى الأخرى، مع الاحتفاظ بالوضع الجنيني، وحين ينقلب على الجهة التي تمكنه من أن يراني وأنا جالس على الكرسي وأبدو محايداً جداً، كان يقذفني بنظرة سريعة وخاطفة، فيها كثافة من الشك والرعب أو هكذا خُيِّلَ لي.

وفي لحظة من بين هذ النظرات؛ تأملت في وجهه، كانت ملامح وجهه تعلن عن شابٍ في وسامة طاغية برغم تلك النظرة المتوترة والمتواترة مع الأسى والشك والرعب، كان شاباً أسمراً وبه قريب أشبه بالسودانيين، حتى أني خفتُ من أن يكون (مريضي) سودانياً من سودانيي هذا الشتات، (مريضي) يتململ ويتقلب على السرير وأنا بي رغبة ملحة أن أخلص النافذة من الستارة، كي أفتح المشهد على الليل الكرستالي بالخارج، فحُبَيْبَات الجليد كانت تتراقص على ضوء القمر المكتمل في سماء مدينة هاملتون، تنازلت عن فكرة إزاحة الستارة عن النافذة مؤجلاً ذلك إلى حين أن يستقر (مريضي) على حال، ولكنه ظل يتململ ويتقلب من جهة إلى أخرى وفيما بين ذلك الفعل المتكرر؛ يقذفني بتلك النظرة المستريبة تماماً في وجودي هنا، ينقلب إلى الجهة الأخرى التي هي حائط، يظل على هذا الحال برهة من الزمن وينقلب على جهتي، يقذفني بنظرته المستريبة، وفجأة وبحركة حادة ينقلب إلى جهة الحائط، حركة حادة أخرى، ينقلب إلى جهتي، نظرة مستريبة، ينقلب إلى الحائط، يرهة، ينقلب إلى جهتي، نظرة بها رعب مزمن ومتنامي، ينقلب إلى الحائظ، برهة، ينقلب على جهتي، نظرة تحدق برعب مركز نحوي، ينقلب إلى الحائط، وكنتُ قد لاحظتُ أنه تخلى عن وضعه الجنيني، وفرد جسمه الناحل على السرير، ولم أرَ في حياتي جسداً متوتراً مثل جسد هذا الشاب الأسمر الناحل الطويل، ظل (مريضي) يتقلب وينقلب بيني وبين الحائط، ويقذفني بنظراته المستريبة في متوالية حركية متوترة على مدى أكثر من ربع الساعة، وفجأة همد متمدداً على السرير واضعاً كفيه على صدره ونظره شاخص نحو السقف، ظل على هذا الحال فترة حتى أنني ظننتُ أنه قد نام، مددتُ يدي، تناولت “السريميس“، فتحتُ الغطاء ليصبح كوباً، صببتُ القهوة وحين كانت القهوة تمارس سيولتها على الغطاء الكوب نهض (مريضي) بحركة حادة ومفاجئة، جلس على السرير، ولمعت عيناه تجاهي برعب غريب، حول نظره عنِّي سريعاً، وبنفس السرعة عاد وقذفني بنظرته التي يشع منها خوف واضح، حركة حادة تناول بها “جكاً بلاستيكياً” فيه ماء، ظل ممسكاً بجك الماء وهو ينظر إليّ، صب الماء على كفه اليمنى ولشق بها وجهه بسرعة مفاجئة، وظل يلشق وجهه بالماء في حركة بطئية حتى أن اللشق تحول إلى مسح ناعم بالماء على الوجه، ولم ينسَ أن يقذفني بنظراته بين مسحة ماء وأخرى، ورويداً رويداً دخل (مريضي) في همهمات، كان صوته غليظاً ومشبوباً بالخوف حد أن تحس بارتجاف الصوت، ظل (مريضي) يمسح وجهه بالماء ويهمهم وهو جالس ثم بدأ جسده يسترخي على السرير، ودخلت همهماته منطقة الهمس، ودخلت به الهمهمات سرداب طقسي فتمدد على السرير، الكفين على الصدر ويهمهم ويهمهم ويهمهم، وتحولت الهمهمات إلى لغة لا أفهمها، ولكنها مألوفة الجرس لدي، فخُيِّلَ لي أنه يُصلِّي وأنَّ ما أسمعه هي تعاويذ ديانة قديمة، ودخلت تعاويذ (مريضي) به إلى غفوته فقلت بارتياح فلاقم إلى أدوات سهري، وكانت قد مرت الساعة الأولى من وريدتي الليلية، استرخيتُ على الكرسي ممدداً رجلي، رشفت من القهوة التي بردت وأنا أتابع همهمات وتعاويذ (مريضي)، تناولت رواية (مالوي يموت) وبدأت أواصل القراءة من حيث الصفحة التي وقفت عندها، تذكرت أمر الستارة والنافذة وتساقط الجليد والقمر المكتمل، فنهضتُ من الكرسي واتجهتُ نحو النافذة، أزحت الستارة عن النافذة وما إن احتشد نظري بالليل الأبيض في الخارج، هبَّ (مريضي) في حركة مفاجئة، ووقف بطوله الفارع على السرير مرعوباً، ولم يمهلني حتى أن أقترب منه، فقفز من السرير وظل يدور في الغرفة حريصاً على الابتعاد من المنطقة التي أنا فيها من الغرفة، كان مريضي يتحرك في دوائر متوترة وقلقة، والغريبة أنه لم يكن يصدر أصواتاً فقد كان يتحرك في توتر صامت عنيف، وكان علي أن أتحرك من مكاني قرب النافذة كي أصل إلى الزر الأحمر بالقرب من الباب، وهكذا فكلما تحركتُ خطوة، فعلاً كانت خطواتي حذرة، كلما تحركت خطوة يزداد توتر (مريضي) ويجاهد كي يمارس حركته الدائرية العنيفة بعيداً عني، وصلت إلى الزر الأحمر وقد أهدرت الكثير من الوقت كي أصله، الضغظ على الزر فتأتيني الممرضة الشقراء فتحاول أن تهدئ (مريضي) بإنجليزية ناعمة وحنونة ولكن دون جدوى مما اضطرها هي نفسها أن تضغظ على الزر الأحمر فيأتي إليها ممرضان وتدور معركة صغيرة للإمساك بـ(مريضي) وهو في هيجانه الحركي الدائري المتوتر ولا أستطيع أن أصف الرعب على وجه (مريضي) حين تم الإمساك به، تم تثبيت (مريضي) على السرير بمشقة فحقنته الممرضة بحقنة وسرعان ما همد وبقيت أصارع ساعات الليل بأدوات سهري مضيفاً إليها النافذة التي يطل منها الليل الأبيض في الخارج.

فيما بعد العاشرة من صباح اليوم التالي أستيقظت من (مريضي) العيون وظل جسده ممدداً على السرير دون حراك بسبب تلك الحقنة، كانت نظراته مثبتة على وفيها ما فيها من ذلك الرعب المزمن، كان يبدو هامداً، ولكن عينيه تسرب إلى هذيان دواخله النشط والمتوتر، تناولت الحقيبة وأخرجت السندوتشات وبدأت آكل وعيون (مريضي) تتابع كل حركة أقوم بها، انتهيت من الأكل ولملمت البقايا في “كيس بلاستيكي“، تناولت من الحقيبة علبة بها (نكاتات) الأسنان وشرعت أخلص أسناني مما اندس بينها من بقايا الطعام وأنا أقوم بهذه العملية التي تتحالف مع الاستغراق والسرحان كنتُ أختلس النظر إلى (مريضي) الهامدة حركة جسمه وعيونه تتابعني بتركيز شديد، انتهيت من “نكت” أسناني، وقفت واتجهت نحو سلة القاذورات، كان (مريضي) يتابعني وحالما قذفتُ بالعصا الخشبية والتي لا يتعدى طولها بضعة سنتمترات في السلة؛ عادت الحياة إلى جسد (مريضي)، فهب من السرير بحركة مفاحئة كالملدوغ، فعدت أنا إلى الكرسي بينما وقف هو مشدوداً مرعوباً، وظل ينظر إلى نظرة كثيفة الريبة وينظر إلى السلة، ينظر إلي، ينظر إلى السلة، ينظر إلي، ينظر إلى السلة، تحرك خطوة، هي خطوة مستريبة، نحو السلة، وقف، نظر إلي وأنا هامد في الكرسي ومتحفز ومستعد لأي حركة مفاجئة، خطوة أخرى نحو السلة، وقف، نظر إلى نظرة تشع بالشكوك، حول النظرة نفسها إلى السلة، وقف، نظر إلي، إلى السلة وخطوة خطوة حتى وصل إلى السلة، انحنى ونظر إلى السلة نظرة فاحصة ودقيقة وفي انحناءته لم ينسَ أن ينظر إلي، وظل ينظر إلي وإلى السلة، انحنى أكثر وبحركة حذرة وبطيئة أدخل يده في السلة وأخرج (نكاتت) الأسنان، قربها إلى وجهه، حدق فيها ملياً ونظر إلي نظرة حادة، وظل لفترة يحدق في (نكاتت) الأسنان، يتفحصها جيداً ويقذفني بنظراته المستريبة، تم إنقاذي من حالة (مريضي) العبثية هذي حين جاءني زميلي الذي يتناوب مع في حراسة هذا المريض، وبمجرد وصول زميلي لاستلام ورديته؛ تحرك المريض نحو سريره بحركة بطئية يحكمها تحديقه الغريب في (نكاتت) الأسنان.

كانت شركة الأمن التي أعمل معها كحارس قد جدولتني لحراسة هذا المريض النفسي لمدة ثلاث ورديات، ويبدو أن الشركة قد لاحظت أنني راكمت خبرة لا بأس بها في مهمة ــ مراقبة مريض ــ لذلك كنت دائماً ما أنفذ هذه المهمة ــ مراقبة مريض ــ في كل مستشفيات مدينة هاملتون ولكن مع (مريضي) هذا تختلف هذه المهمة باختلاف نوع المرض فقد كنتُ قبلها أراقب المرضى العاديين، ولكنني أعمل هذه المرة في قسم الأمراض النفسية بمستشفى جامعة “ماكماستر” التعليمي بمدينة هاملتون، كنتُ قد وصلتُ إلى الغرفة (14) قبل موعد ورديني بنصف ساعة، وبي فضول أن يحكي لي زميلي المتناوب معي على حراسة هذا المريض؛ حكايات وحكايات عنه، فأخبرني أن المريض دخل في حركته الدائرية المتوترة، فتم حقنه فاسترخى ممدداً على السرير، ولم ينسَ زميلي أن يصارحني بأنه توجس خيفة من هذا المريض ونظراته المستريبة، وأسر لي بأنه سيدَّعي أنه مريض حتى يتخلص من مغبة حراسة مريض قد يشكل خطراً مفاجئاً على حارسه، جهزت أدوات سهري للوردية الثانية، وكان (مريضي) في استرخائه الجنيني، ولكن بعدها احتشد المشهد بالنظرات المستربية والتي يشع منها الرعب وكثرة الململة والتقلب على السرير، ولم يدخل في هذه الليلة في الهمهمات والتعاويذ، ولكنه بدلاً عن ذلك ظل يهذئ ويحادث نفسه أو يتحدث مع أشخاص يراهم هو وحده، أو يستجلبهم من ذاكرة تخصه هو، انقضت ساعات الليل ودخل علينا الصباح أنا و(مريضي)، ولم أكرر طبعاً عادتي السخيفة في استعمال (نكاتة) الأسنان وكان لي محاولات كتيرة ومتعمدة كي أحاول التواصل مع هذا الشاب الأسمر الوسيم ولكن دون جدوى، وفيما بعد التاسعة جاء إلى (مريضي) زائر، ومنه عرفت أن هذا الشاب إثيوبي، جاء إلى كندا قبل ثلاث شهور فقط من معسكر للاجئين بكينيا عبر أصدقاء له سبقوه إلى كندا، والشاب يعتبر نجماً من نجوم كرة القدم، وكان الزائر يحدثني عنه بحب وأسى غريبين، انتهت ورديتي وبدلا عن مجيء زميلي المتناوب معي حسب الجدول لحراسة ومراقبة هذا المريض استلم مني الوردية زميل أخر.

وصلت إلى الغرفة(14) واستلمت ورديتي الثالثة في الموعد تماماً وكان (مريضي) في وضع الاسترخاء الجنيني المعتاد بالنسبة لي مع بداية كل وردية، ولكن جئت هذه المرة وأنا أكثر تعاطفاً مع (مريضي) بسبب حكايات زائره عنه، وقررتُ أن أمارس نوعاً من التحدي تجاهه، قررتُ أن اقتحم عالمه بأي وسيلة وبأي أسلوب مستفيداً من خبراتي في الدراما، ولكن باءت كل محاولاتي في الاقتحام والتواصل بالفشل الذريع، أولى تلك المحاولات هي أنني حاولت أن أصافحه في يده، ولكنه لم يستجب وصفعني بنظراتة المريبة، ولاحظت حين كنتُ متحركاً نحوه ماداً إليه كفي بالسلام؛ أنه انكمش على نفسه مبتعداً عني مرعوباً، ولاحظتُ رعشة في بدنه، حاولتُ أن أرد على نظراته المستريبة بابتسام واضح، ولكن دون جدوى، تحدثت إليه بالإنجليزية، لم يرد عليَّ وظل يحدق فيَّ بتركيز غريب، حاولت وحاولت وحاولت، وحين توغل بنا الليل والسهر المواتر قفزتْ إلى ذهني فكرة غريبة، تذكرتُ عشق الإثيوبين لأغنيات الموسيقار والمغني العذب محمد عثمان وردي، وقتها كان (مريضي) قد دخل في طقس لشق الماء على الوجه، ومن ثم تدرج الفعل إلى المسح والهمهمات والتعاويذ، فما كان علي إلا أن استغل حالة الطقس هذي، فوجدتني أدندن بأغنية لها نصيب كبير في عشق أهل إثيوبيا لوردي، وانطلق صوتي بالغناء متخللاً نسيج طقس (مريضي)…

ما تخجلي

يا السمحة

قومي

استعجلي

شفقتي قلبي

كل يوم تدللي

أديني كلمة

وسامحيني وأعذري)

تداخلت أنغام وردي مع تعاويذ (مريضي) ذات الأصداء الدينية القديمة، فكان أن لاحتْ لي بداية ابتسامة في تلك العيون المستريبة ذات الرعب المزمن، لم أصدق نفسي ولكنِّي كنتُ عملياً جداً، فلم أتوقف عن الغناء والترنم بموسيقى وردي

(ما خلاص كبرتي

وليك تسع طاشر سنه

عمر الزهور

عمر الغرام

عمر المنى)

وظللتُ أترنم وأغني وأغني وأترنم حتى اتسعت الابتسامة في وجه (مريضي)، وبان إشعاعها الجميل في عينيه، وبدأ نوع من الإلفة والتآلف بيننا، حتى أنني حملتُ الأغنية وذهبتُ بها إليه في السرير، وجلستُ بجانبه أغني وأترنم، وبدلاً عن التعاويذ الدينية القديمة منح (مريضي) صوته إلى الأغنية وانطلق صوتي وصوته بالغناء والترنم عالياً عالياً، حتى أن الممرضة الشقراء داهمت الغرفة لتجدنا أنا حارس المريض والمريض نستعذب أغنية وردي.

قبل انتهاء ورديتي جاءني الطبيب النفساني المسؤول، وطلب أن أقابله في مكتبه فذهبتُ إليه، حدثني عن حالة (مريضي) وطلب مني بتهذيب جَم أن أقبل باستمرار ورديتي مع (مريضي) لمدة أسبوعين، وإذا وافقت على ذلك سيقوم هو بمكاتبة الشركة حول هذا الأمر، وأضاف أن ورديتي ستتغير إلى وردية نهارية، كل ذلك لا لسبب سوى أني أعرف اللغة التي يتحدثها هذا المريض.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.