مستقبحون في خبث الثعالب

0 77
.

هاهم، الآن يتحسسون أغنيتي ويفسرونها على حد نواياهم – والنية زاملة سيدها- نواياهم تلك التي لا تستقيم مع تجليات الجمال، هاهم يحيلونها إلى تفاسيرهم الجامدة، هؤلاء هم أولئك المستقبحون وأعوذ بالله مما يفعلون، المستقبحون الذين يرتجفون لمجرد النظر إلى لمحة أو إشارة جمالية، يرتجفون ويغطون ارتجافهم بزعيق الحناجر والتلويح بالخناجر وحركات الأطراف المتشنجة، عن هؤلاء المستقبحين أود أن أحكي هذه الحكاية. لاشك أن مدخلي هذا يعتبر خاصاً جداً وذلك باعتبار أنه يخص أغنيتي وحتى لا أتورط متداعياً في بحر السياسة متلاطم الشواطئ وليس الأمواج، عاملاً بتلك النصيحة العفوية والطيبة والتي تقول بأن نبعد الكتابات عن الأجواء السياسية وأن نبعد عن الكتابة في السياسة ومتذكراً ذلك التحذير الداوي والمتماهي مع الإستراتجية العسكرية. (كلما أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسي)، لا بأس، فالأشقاء المصريون وجدوا تبريراً تحليلياً عن كيف أن السودانيين أصبحوا مبدعين في فن النكتة، أعرف أنني سأحكي عن المستقبحين ولكن لابد من الإشارة أو تجدر الإشارة إلى أن على الكاتب أن يسلي القراء ويجعلهم يقهقهون ما شاءت لهم القهقهة ناسين أن وراء كل ضحكة ألم عظيم وألوذ هنا بالشاعر المسرحي أستاذي هاشم صديق في جمعه الشفاف بين النقائض.

(كل الحروف بت الألم

أعتى الرياح

تطغى وتفوت

ويرجع عمار الدنيا

وتقوم البيوت

حتى الحزن

يزهر يشيل

يفرد فروع الفرحة

للناس اليتامى)

بالمناسبة التحليل المصري عن كون السودانيين أبدعوا في النكتة هو. (أنهم جاعوا). شفتو ازاي؟، ترى أين يمكن أن نبعد السياسة عن الموضوع، عن المشهد، عن المسمع، عن اللوحة، عن القصيدة، عن الرؤى، عن الانفعال؟

المجنون السوداني، ذلك الذي كان يصطاد وهو يجلس مسترخياً أمام البلاعة، لاحظ الطبيب في جولته ذلك المجنون وسنارته تتدلى داخل البلاعة وبعد تمحيص وتحليل للموقف قرر الطبيب أن يتعامل معه بمداخل عفوية لا سيما أن الطبيب تجريبي ومتخصص في الطب النفسي، اقترب الطبيب من – (محمد احمد). خليهو اسمو (محمد احمد) عشان نكثف الرمز. اقترب الطبيب من (محمد احمد) المجنون وسأله بعفوية:

-(اصطدت كم سمكة؟)

نظر (محمد احمد) المجنون للطبيب من أسفل ماراً بجزمته السوداء اللامعة إلى أعلى حتى لاحظ انعكاس شمس ما بعد الظهيرة على زجاج نظارته، هكذا وبتمهل شديد قال (محمد احمد) المجنون للطبيب بعد أن رفرف حاجبيه دهشة وصفر بفمه نغماً قصيراً. (انت مجنون؟ هنا في سمك؟).

وأنزل (محمد احمد) المجنون نظراته المنهمكة نحو سنارته مفتوحة الاحتمال بصيد ثمين.

أنا سأحكي عن المستقبحين. يبدو أن لا فكاك من فكرة النقائض، لا مناص من ذلك وتقفز إلى ذاكرتي تلك المقولة. (إن في القبح جمال). النكتة تنتمي إلى مرجعية واقعية، تنتمي إلى ذلك الامتصاص السياسي أو تسييس الامتصاص لتفاصيل الحياة، النكتة تنتمي الى فكرة الملخص، النكتة ملخص أعظم، نكتة طفولية عذبة تنتمي إلى (ودنفاش). لم أكن أتصور أن (ودنفاش) شخصية من لحم ودم وأنه أم درماني أصيل، أي مشبع بكمياء المدينة السودانية ـ (موسى ودنفاش).

(كان في ود نفاش، كان قاعد تحت الشجرة وكان حالق صلعة، في طيرة فوق الشجرة، قامت الطيرة خرت في راسو، قام قال ليها. يخسي عليك ما لابسه لباس).

ترى هل بإمكاني أن أقول إن هذه النكتة لن تضطرني أن أتوهم عذوبة هذا النص الضاحك البسيط؟، لاشك أنها عذوبة طفولية، يبدو أن الضحك عملية سياسية وأتحدى أصحاب كل النظريات أن يثبتوا عكس ذلك، وبعدين الموضوع السياسي يمتلك مقدرة أن يضحك الناس، أخاف من ذلك العبء على كاهل الكوميدي السوداني وهو يراقب تجليات الكوميديا السياسية ذات العرض المتواصل، عرض كوميدي لا نهائي.

أحد أصحاب البحبوحة جاء ذات صباح إلى أحد الخضرجية وأعطاه مبلغ 100 ألف جنيه، آسف، 10 آلاف دينار وطلب منه أن يسأل كل من يشتري منه هذا الصباح عن حاله فإذا أجاب أحد المشترين أنه بخير عليه أن يعطيه هذا المبلغ.

(حاجة أم سهمين) حين سألها الخضرجي. (كيف حالك؟). مصمصت شفتيها وبصوت متوجس ونظرة أحست بالخبث أجابت على سؤال المنافسة. (شوفوا المحن يا اخواتي).

نظر الخضرجي بنصف ابتسامة في وجه جون وقال بحياد. (كيفك ياجون؟)

وبصق (جون) على الأرض قائلاً. (زي الزفت) .

(علي الحمري) مارس عناده اليومي وهو يفاصل في أسعار الخضروات حين انتهى الخلاف بينه وبين الخضرجي حول سعر قطعة القرع رد على سؤال الخضرجي. (إن شا الله إنت بخير يا حمري؟)، رد وبنفس حماس المفاصلة. (مسكين دقل)…

(النذير) أستاذ التاريخ في مدرسة البنين، بعد أن اشترى خضار وسلطة فطور زملائه المدرسين، أجاب على السؤال وهو يقرقش جزرة. (يعني انت شايف شنو؟).

(تيه)، جرسون المقهى المتجول في السوق لم ينتظر حتى يكمل الخضرجي سؤال المنافسة بل وضع أمامه كوب القهوة الصباحي ودار بسرعة نحو الجزارة وهو يصيح -(تعبتا أأأأأأ تعبتا، دور يا)…

ومرت شخصيات وشخصيات وتمادى الخضرجي في مهمته فذهب بسؤاله في تلك الظهيرة نحو جيرانه الخضرجية وتجول في زنك اللحمة ودكاكين التشاشة وتنوعت لديه طرق إلقاء ذلك السؤال لكن لا أحد يجيب.. بخير، تماهت كل الإجابات مع سوء الحال، حين جاء صاحب البحبوحة في آخر اليوم ليسأل عن مصير هبته المشروطة بخير الحال.

سأل المتبحبح الخضرجي

(أها حصل شنو؟)

– ( والله أي زول اسألوا ألقاهو كرهان الدنيا، أي زول اسألوا يكون متكربن أخلاقوا في نخرتو، يا اخي في واحد قرب يديني كف عشان سألتو، واحد جدع في وشي الجرجير، يازول حاجة صعبة).

-(كلهم يعني في أسوأ حال؟).

-(يا اخي حمد العتالي سألتوا تعرف قال لي شنو؟

قال لي أغرب كلام)…

-(قال ليك شنو؟)..

-(قال لي، اقرع ما بخاف من قوب)..

وأشهر ذلك المتبحبح ضحكة متخمة وسأل الخضرجي..

-(وانت حالك كيف؟)..

-(راقد سلطة)..

-(خلاص جيب المبلغ)..

ومد صاحب البحبوحة يدا ناعمة يلمع في أحد أصابعها خاتم مزخرف في وسطه بفيروزة تتلامع بالبنفسجي.

سأحكي عن المستقبحين ولكن لابد من التداعي في عالم النكتة، لم أصادف نكتة تتجمل بالتكنيك وتختذل العلائق السياسية والاجتماعية وتعري ذلك الهذيان السياسي مثل هذه النكتة، قال (عباس الوناس) إن رئيس الجمهورية، المخلوع، – طبعاً – وصلته برقية مكتوب فيها ( نحن لا نريد الزواج، نحن نريد أن نكمل تعليمنا) وحين نظر إلى التوقيع وجد التوقيع كالآتي (بنات الحور). صبراً، فحتماً سأحكي عن المستقبحين ولكن، هاهو لوري يقف محملاً بالدواجن أمام إحدى نقاط التفتيش، كان صاحب هذه الشحنة قد لاذ بالريف مستثمراً أموال غربته الطويلة في مشروع مزرعة دواجن تنتج البيض وبعقلية استثمارية مركزاً على الدجاج اللاحم – فراخ للأكل – وهذه الشحنة التي وقفت أمام نقطة التفتيش هي أول فوج من تلك الدواجن التي كانت تشهر عافيتها من خلال الأقفاص، في نقطة التفتيش التف المفتشون حول اللوري، داروا حوله من جميع الجهات وهمس أحدهم في أذن زميله.. (ده جداد مدوعل).

وسئل صاحب الدجاج . (الجداد ده بتأكّلوا شنو؟)..

– (بنأكّلوا علف)..

-(ياسلام، بتأكّلوا علف؟، إنت بتأكّل الجداد علف؟، إنت ما عارف انو البلد دي بتمر بي ظروف صعبة، تأكّلوا علف والناس بتموت من المجاعة وخاصة المجاهدين، إنت أصلك ما سمعت بي زاد المجاهد، بي مال الكرامة).

واضطر صاحب تلك الشحنة الداجنة أن يدجن نقطة التفتيش تلك بمبلغ من المال وديكين وثلاث دجاجات.

وفي نقطة التفتيش التالية سئل نفس السؤال..

-(بأكّلوا عيش)..

وغير صاحبنا الإجابة مستنداً على تجربته السابقة..

– (عيش يا مفتري؟ أما عالم غريب، تأكّل الجداد عيش؟ انت عايش وين؟ إنت ما عارف الناس ما لاقية تاكل عيش وانت تأكّل الجداد عيش؟ وين زاد المجاهد؟، وين دمغة الجريح ولا أظنك ما سمعت بيها).

ودجنت نقطة التفتيش الثانية وتخلى صاحبنا عن ثلاثة أقفاص كبيرة وهكذا نقطة التفتيش الثالثة والرابعة والخامسة وحين شارف على دخول العاصمة وهو أمام نقطة التفتيش الأخيرة قرر صاحبنا أن يكون ماكراً بعد أن لاحظ أن نصف شحنته قد تركها تكاكي وتضرب الديوك بأجنحتها في أماكن عبرها وبعد أن جرب إجابات مختلفة لذلك السؤال. (انت الجداد ده بتأكّلوا شنو؟).

حينها أجاب وفي باله مكر الثعالب بالدجاج وأشار إلى ديك ضخم. (شايفين الديك ده أنا بديهو نثريات الأكل وهو بتصرف معاهم)..

ولكم أن تفكروا في مصير ذلك الديك وصاحب الديك.

أعرف أنهم يتحسسون أغنيتي، المستقبحون يتهامزون ويتغامزون حول أغنيتي تلك التي صادفتني في كنبات الطفولة وتحت ظلال أشجار النيم حول المدرسة الأولية، المهم سأحكي عن المستقبحين.

جاءت (محتشمة) بثوبها السوداني المورد، جاءت إلى تلك المؤسسة، جاءت (محتشمة) مضطرة لتقابل ابن خالتها كي تأخذ منه نقود كي تشتري دواء لابنتها التي تتخابث عليها الملاريا.

جاءت محتشمة جداً، لا غبار عليها ولا ما يوحي بتلك الأنوثة التي كانت تظن وبوسواس قهري أنها توارت خلف ذلك الثوب، كان الثوب مورداً ومتفائلاً، ذلك الثوب الذي غطى جسدها وغطى تلك البلوزة ذات الأكمام الطويلة والتي بالكاد تسمح لأصابع يديها أن تظهر وبذلك الاسكيرت الطويل الذي كاد أن يغطي أصابع قدميها لولا أن تولت الجزمة تلك المهمة، الجزمة التي تعاني من خلل في توازن كعب الفردة اليسرى.

(محتشمة) وصلت إلى مكتب استقبال تلك المؤسسة، تحدثت مع موظف الاستقبال الذي ضجت منه الدواخل حين دلفت إلى الداخل.

-(لو سمحت عايزة عبد الرحمن الفاتح).

-(عبد الرحمن الفاتح مالو؟ أقول ليه شنو).

-(موضوع خاص).

انتقل موظف الاستقبال وانحنى أمام مكتب زميله، تهامساً، كانت (محتشمة) قد لاحظت ذلك بطرف خفي، انضم اليهما ثالث وتهامسوا، (محتشمة) وهي تلاحظ وهي تخفض نظرها أحست بعرق دافئ يسيل على عنقها، رجع إليها ذلك الأول، اقترب منها بينما كان الثلاثة يحدقون فيها بطريقة غريبة، غريبة جداً وفجأة قال لها الأول.

-(آسفين ما ممكن تدخلي)..

– (ليه؟، طيب ممكن تنادي لي)..

-(ما ممكن)..

-(ليه؟)..

-(محتشمة) تكاد تسمع ضربات قلبها..

-(ليه؟)..

-(لأنك مثيرة للفتنة)..

نظرت إليه (محتشمة) بحدة وكأنها تنتقم من نظراتها المنخفضة تلك وهي في انتظار أن يلبي طلبها، خرجت (محتشمة) تفكر في حل آخر لازمتها وحين كانت تحاول أن تداري دمعة محتملة اختل توازن الفردة اليسرى من جزمتها فسقطت على الأرض وحين لملمت نفسها ووقفت كان موظف الاستقبال قد وصل إليها قائلاً: (انت عارفة إنك ما ممكن تدخلي لأنك سمحة أكتر من اللازم)..

وأشاحت (محتشمة* وجهها وابتعدت ولم تستطع أن تكبح دمعتها وهي تحاول أن تطرد عن ذاكرتها صوت (أزاهر) ابنتها ذات الثمانية أعوام وهي تهلوس بخبث من الملاريا.

هل عرفتم من هم الذين يتحسسون أغنيتي الطفولية هذي؟..

(( خرج الثعلب يوما في ثياب الواعظين

ومشي في الأرض يهدي ويسب الماكرين؟

ويقول الحمدلله إله العالمين

يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبين

واتركوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا

فأتى الديك رسول من إمام الناسكين

عرض الأمر عليه وهو يرجو أن يلين ))

وقال الديك:

((أسأل الثعلب عني عن جدودى الصالحين

من ذوي التيجان ممن دخل البطن اللعين

مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دين)) .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.