مع سيد القمني (1)

0 63

كتب: بابكر فيصل

.

درجت “مكتبة مدبولي” المصرية الشهيرة على إقامة معارض للكتاب بالعاصمة السودانية الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي، وقد كنت من رواد تلك المعارض كلما أعلن عن قيامها.

وفي شهر يناير عام 1997، وفي أثناء جولتي داخل أحد تلك المعارض، لفت نظري كتاب بعنوان “حروب دولة الرسول” لكاتب لم أقرأ له من قبل، هو الدكتور سيد محمود القمني.

ما أثار انتباهي وأنا أقلب صفحات الكتاب قبل اقتنائه ما تبدى لي من منهج مختلف في تناول تلك الحروب بالتركيز على قراءة وتحليل الواقع الاجتماعي والسياق التاريخي الذي نشبت فيه، مما يضيء جوانباً معتمة وغير مطروقة في هذا الإطار، وبعد إكمال قراءة الكتاب بدأت في رحلة البحث عن كل كتب الرجل.

وفي سبتمبر 1998 أتيحت لي فرصة لقاء الدكتور القمني بشقته الكائنة بمدينة الرماية في ضاحية الهرم بالعاصمة المصرية، ولم أشأ أن ألتقيه دون أن أخرج منه بحوار يتناول بعض القضايا الفكرية التي مازالت تشغلني وتمثل محور اهتماماتي في القراءة والكتابة بعد مرور حوالي ربع قرن من ذلك الحوار.

بدأت الحوار بطرح السؤال التالي: هل يمكننا النظر للصراع بين التيار العلماني وتيار الإسلام السياسي، الذي هو امتداد طبيعي للصراع الذي نشأ قبل وقت طويل، ومثّل أحد أطرافه في مرحلة تاريخية الشيخ علي عبد الرازق مع الأزهر ثم الأستاذ سيد قطب وسلامة موسى في مرحلة لاحقة، وأخيرا نصر أبوزيد وعبد الصبور شاهين، كصراع ذي خصوصية مصرية لا يمكن تعميمه على كافة الأقطار العربية؟

وجاءت الإجابة من الدكتور القمني على النحو الآتي:

أنا لي رأي خاص في هذا الموضوع قد يستفز حتى بعض المستنيرين العرب. منذ الفتح العربي لبلاد الحضارات تمت التعمية والتغطية على تراث البلاد المفتوحة، حتى صرنا نعتقد أن ثقافتنا بدأت في الحجاز زمن الدعوة الإسلامية ومع عمرو بن العاص والصحابة الآخرين الذين فتحوا تلك البلاد.

بعد الفتح العربي تم تسييد الثقافة العربية وحدها رغم أن للعراق على سبيل المثال امتداده الحضاري العريق، وكذلك لبلاد الشام وفلسطين وكذلك السودان ومصر، وقد تم قطع الذاكرة التاريخية لتلك البلاد حتى يصبح التاريخ العربي تاريخا مقدسا ولكي يتم تثبيت هذه الرؤية كان لا بد من استبعاد السابق وتكفيره، وتم هذا بهاجس الخوف على الأمة من الفتنة فقبلنا سيادة الأمة وسيادة سلاطين الأمة وكثيرا من القمع والظلم والاضطهاد علي حساب الفرد وحقوقه خشية ما سُمى بالشعوبية والخطر الشعوبي وذلك علي الرغم من أنه كان بالإمكان، بل من العلمية، أن يكون هذا التوحد في إطار التعدد.

النموذج الماثل أمامنا في عالم اليوم هو أميركا التي هي بوتقة لمختلف الأجناس والأديان واللغات كلها تنصهر ولا يبقى بعد ذلك غير ماذا تعطي لأميركا كي تعطيك “قانون المنفعة”.

هذا هو درس الإمبراطورية العربية في أوج قوتها وتفوقها، “عصر المأمون” كان عصر ازدهار وتطور. أنا أعتقد أن هذه هي المقدمات الصحيحة للصراع الذي تتحدث عنه في سؤالك، هو صراع مستبطن مكبوت بهاجس الحفاظ على وحدة الأمة وقد كان عصر النهضة أول رد فعل وطني ضد فكرة الأمة السيدة على اختيار الفرد. هذه الآراء تثير ضدي الكثير من المشاكل خاصة من الناصريين الذين هم في رأيي مجرد فاشيين.

في إطار تجربة النهضة التي بدأها محمد علي باشا، التي كانت تجربة محورها المواطن، وقد عزز هذا الاتجاه بروز جيل من مفكري النهضة مثل الطهطاوي، وفي رأيي أن الناصرية هي التي أجهضت مشروع النهضة هذا بتبنيها فكرة البطل الملهم.

هذه المعركة التي تسأل عنها هي في جوهرها صراع بين الفاشي والوطني وأهم الفروق بين الاثنين تتجسد في التالي: أولا: الوطني يطلب دولة مدنية للجميع، والفاشي يطلب دولة طائفية. ثانيا: الفاشي يطلب سيادة رأي واحد على بقية الآراء والوطني يفتح النوافذ لكل الآراء. ثالثا: الفاشي يفرض رأيه بالحديد والنار والوطني يفتح صدره للسؤال وللآخر ويعتبر الآخر مكملا له. رابعا: الفاشي يعجز عن المواجهة بالحجة والكلمة فيلجأ للتكفير والقتل، والوطني سلاحه التنوير والكلمة.

سؤالي الثاني للدكتور القمني كان: أهل الإسلام السياسي يعتبرون أن العالم الإسلامي يشهد صحوة كبرى تحتشد فيها الجماهير المسلمة وتتوجه لحسم معركة حضارية، وهي في وجهة نظرهم صحوة باتجاه التاريخ وليست ضده.. ما هو تعليقكم؟

وجاءت إجابته كالتالي:

نحن جربنا الفاشية طوال العقود السوالف ولم يعد بإمكاننا أن نستمر في التجربة، لا على مستوي الوطن ولا العالم ولا الزمن.

نحن تجاهلنا حركة الواقع ورفضنا التكيّف فتجاهلنا هذا الواقع وكانت النتيجة أن أصبحنا عبارة عن “حفرية حية” بينما أصبح العالم في مرحلة “السوبر هومو”.

ثم ثانيا هل من علامات الصحوة هذه ما حدث في الجزائر مثلا؟ وهل هي ليست قوية لتلجأ للعنف كما في مصر؟ وهل الصحوة تعني إعادة المرأة للمحبس البيتي وحرمانها من التعليم كما فعلت طالبان في أفغانستان؟ ثم ماذا حققت هذه الصحوة؟ هل أفرزت عِلماً أو حريات أو تقانة أو إسلاما قويا لا يخشى على نفسه من المُخالف بل يحاوره ويناقشه؟ أم أفرزت إسلاما مرعوباً يلجأ للطلقة لإسكات الآخر.

وهل أفرزت الصحوة جماهير واعدة بإقامة أمة قوية؟ لقد وعى ذلك المصري القديم فقال إن “العدد في الليمون”، كناية عن أن لا جدوى من الكثرة بلا محتوى أو مضمون.

هذه الجماهير تم تسليحها وتمكينها من العتاد والصاروخ والدبابة في العراق، ومع أول دقيقة من بدء ضرب ذلك البلد انقطعت اتصالات الجندي بقواده ولو رحل المعتدون لاحتاج هذا الجندي لعدة شهور ليعرف ماذا يريد منه قواده أن يفعل في المعركة في حين أن الصاروخ الأميركي المصنوع من الحديد كان يستجيب للأوامر أولاً بأول!

فماذا فعلت الجماهير أمام العقل أو العلم؟ هل فتحت الجماهير المساحة بين العقل والعلم دون تكفير؟ أنا أفهم أن الإسلام القوي لا يخشى على نفسه، هل هذه الصحوة تلزم البنات بالحجاب والنقاب والعودة للبيت بينما يتفاخرون بأن الصحابيات الأوائل كن ممرضات في المعارك؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.