موجة أبو السباع الخصوصية (أبو السباع) (أهلاً يا طويل الباع)

0 51
.

هكذا دائماً ما يدوزن الفنان الراحل (إسماعيل مساعد) رده على لقبه (أبو السباع) و(إسماعيل مساعد) للذين لا يعرفون هو واحد من أهم العاملين في المسرح القومي، مهمته كانت كتابة تفاصيل العرض المسرحي على البورتات المخصصة للإعلان عن العرض، بورت خارجي وبورت داخلي يوضع على جانب من باب الدخول إلى صالة العرض، كان (أبو السباع) يعمل خطاطاً بالمسرح القومي ويرسم بورتريهات يسترزق منها في سوق الله أكبر، عادة ما يأتي (إسماعيل مساعد) إلى المسرح القومي راجلاً من المحطة الوسطىأمدرمان بعد أن يكون وصلها من الثورة، يأتي مبكراً، يحمل شنطته المتآكلة بفعل الزمن، بها أدوات العمل وراديو لا يسكت أبداً وقد ظل مؤشره على محطة راديو أمدرمان لسنين عدداًفـ(أبو السباع) لا يرغب مطلقاً في أن يتجول الراديو الذي يخصه خارج أمدرمان.
كنت أحرص أن آتي مبكراًإلى المسرح القومي لأستمتع بتفاصيل (أبو السباع) الصباحية، دائماً ماكنت أجده داخل كشك التذاكر المهجور يعمل على رسم صورة فتوغرافية بعد أن خطط الورقة التي أمامه إلى مربعات، والراديو عادة ما يسرب إلى الأثير في هذا الوقت من الصباح صوت (ليلى المغربي) المترع بالعافية والجمال والدخان يتصاعد من سيجارة (أبو السباع) الموضوعة على طفاية خشبية من تصميمه الخاص. كان الهجر قد طال كشك التذاكر فاستخدمه (أبو السباع) كمكتب، قبل أن يدخل (أبو السباع) إلى مكتبه يكون قد جلس مع (قرنق) العامل بالمسرح القومي الذي يرقد على كنبة قديمة جاورت كشك التذاكر، كان (قرنق) يعاني من مرض غريب وهو عدم القدرة على النوم وقد ظل على هذا الحال حتىمات، (أبو السباع) كان يجالس (قرنق) مواسياً ولا يبرحه حتى تلوح في وجه (قرنق) ابتسامة باهتة حد التعب ولكنها تعلن عن الود والإلفة بين الرجلين ومن بين شباك كشك التذاكر يطل وجه (عثمان الحويج) في تحية صباحية خاصة مستخدماً مقلوب الصورة.
(يا طويل الباع(
ويضطر (أبو السباع) أن يجاري المقلوب فيرد وبثقة مفرطة
(مرحب يا أبو السباع)
ويختفي (عثمان الحويح) ومعه ضحكته من الشباك وكان الراديو من داخل الشنطة الهاند باق يغازل نسمات الصباح بـ(ياجميل يا حلو) للفنان المغني (صالح الضي) وكان (أبو السباع) قد خطط مكان العيون على المربعات وحالما بدأ يرسم ظهر (نجرو) أمين المخازن والمشتريات بالمسرح القومي صائحاً:- (أها يابيكاسو، مشغول كده أصلك بترسم في السيد علي ؟)
وهز أبو السباع رأسه وبعيونه الذكية أوحىإلى (نجرو) بأنه مشغول جداً
(أسمع ما تتطهم لي كده وعامل لي فيها نازل عليك الوحي، قوم، أنا عازمك قهوة في العوامة).
رفع أبو السباع نظره من على الورقة، نظر إلى ساعته وبهدوء رد على (نجرو) قائلاً:- (ممكن تمر علي بعد ساعة….. لو سمحتا).
ويذهب (نجرو) وهويعلم تماماًأنه لن يستطيع أن ينحرف بمزاج (أبو السباع) المحاط بصرامة عملية وبرغم ذلك، (أبو السباع) دائماً (على كيفو) وله حكايات وحكايات عن الانفلات من القيود والخروج عن السياق وطشاشات حد أن يصبح الزمن عنصراً مجرداً ومحايداً.
في بداية السبعينيات من القرن المنصرم سافر (أبو السباع) إلى الفاشر ونيالا من ضمن فريق العمل في مسرحية (مدير ليوم واحد) وحين عاد فريق العمل إلىأمدرمان لم يكن (أبو السباع) من بينهم الذي حدث أن (أبي السباع) حين وصل قطار نيالا إلى كوستي حمل شنطته تلك والراديو يمارس وجوده المعلن من داخلها ودخل كوستي رغبة في التجول فيها، فكان أن انسرب الزمن الخارجي من ذهنه واستجاب إلى موجته الخصوصية فكان أن ذهب القطار بدونه، لم ينزعج (أبو السباع) مطلقاً، بل استأجر غرفة في إحدى اللوكندات وظل هناك يرسم بورتريه للمهدي، عبد الرحمن المهدي، الهادي المهدي والصادق المهدي فكان أن ازدهت جدران الصالونات والبرندات والغرف في بيوت كبار الأنصار في كوستي برسومات (إسماعيل مساعد) لتلك الرموز، وكذلك رسم (أبو السباع) شخصيات مختلفة من كوستي من هم خارج قداسة الشخصية.
كان غياب (إسماعيل مساعد) عن المسرح القومي بعد أن ذهب بدونه ذلك القطار غياب سنوات ولكن للزمن قياس خاص لدى (أبي السباع) فهو لا يتعدىعنده تلك اللحظات التي يعايشها وتعايشه لذلك حمل (أبو السباع) شنطته والراديو يثرثر من داخلها عن تحالف قوى الشعب العاملة وترك غرفته في تلك اللوكندة ورسوماته المتناثرة على بيوت الأنصار وغير الأنصار في كوستي. اتجه (أبو السباع) إلى المحطة واستغل أول قطار صادفه ليرجع لأمدرمان وإلى المسرح القومي، عاد (أبو السباع) إلى المسرح القومي وكأنه لم يغب عنه كل هذه السنوات بل أياماً معدودة. وسرعان ما تعاملت أنامله مع بورتات الإعلانات دون أن يفكر المسؤولون الإداريون في المسرح القومي أن يحاسبوا (أبا السباع) على غيابه ذلك الطويل على قوانين الخدمة المدنية القصير جداً تجاه انحياز أبي السباع إلى موجته الخصوصية.
كان (أبو السباع) يشارك في عرض مسرحي من إخراج الأستاذ (عثمان قمر الأنبياء)، كان (أبو السباع) في هذا العرض يؤدي دور شخصية تظهر مع بداية الفصل الأول وتغيب كي تظهر مرة أخرى في نهاية المسرحية، لذلك كان على (أبي السباع) أن ينتظر كثيراً حتى يدخل دخلته الأخيرة والتي هي بمثابة ختام للمسرحية. توالت أيام العروض وتوالت انتظارات (أبي السباع) كي يختم المسرحية، إلىأن جاءت تلك الليلة وكان (أبو السباع) قد دخل وأدى دوره في بداية الفصل الأول وحين جاءت اللحظة التي يدخل فيها (أبو السباع) كي تنتهي المسرحية بظهوره، كان (أبو السباع) غير موجودٍ، لقد تخلص هذه الليلة من انتظاره المعتاد وفلت من منظومة تفاصيل المسرح، كان على (أبي السباع) أن يغرد خارج السرب هذه الليلة تحديداً، العرض المسرحي ارتبك تماماً مما اضطر المخرج للدخول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وبقي ذلك السؤال، أين ذهب (أبو السباع)؟ وحين ذهب البعض يبحث عنه في حديقة الريفيرا كان (أبو السباع) خارج الحديقة وخارج ضجة السكارى وهم كالعادة يغنون(النداما النداما النداما). كان (أبو السباع) يجلس على الشاطئ والراديو من داخل الشنطة يسرب إلى الموجات صوت أبو داؤد (أينعت في الروض زهرة) كي يتباهى القمر في تلك الليلة بوجوده الحميم على الشاطئ الذي تحمل انفلات (أبو السباع) عن عرض مسرحي.
لاحظ أحد العاملين في المسرح القومي خروج ثعبان ضخم، أسود اللون من كشك التذاكر الذي كان يجاور فسحة مليئة بالحشائش والأشجار وهي المنطقة التي بها بوفيه (خالد جاه الرسول) الآن، رؤية الثعبان أصابت العامل بالهلع فلم ينتبه إلى صوت فلوت (حافظ عبد الرحمن)، تناول العامل قطعاً من الطوب والحجارة وطارد بها ذلك الثعبان الذي لاذ بمخبأ بين الحشائش وحين عاد العامل من مطاردته للثعبان انتبه إلى صوت الفلوت المنبعث من كشك التذاكر، وحين اقترب العامل من الكشك وجد (أبو السباع) جالساً على كرسي في الداخل وبهدوء يحاول أن يرسم بورتريه نقلاً عن صورة فتوغرافية وكان الراديو قد انتقل من فلوت (حافظ عبدالرحمن) إلى مقطوعة (الكرنق) لمجموعة (السمندل) الموسيقية، اندهش العامل لوجود (أبي السباع) بكل ذلك الهدوء داخل الكشك الذي خرج منه ذلك الثعبان الضخم والمرعب فصاح في (أبي السباع)
(أبو السباع، أنت ما شفت الدبيب ده ؟(
)شفتو(
)كيف يعني الكلام ده، ده دبيب زي الأصلة(
)تفتكر كده(
)أنتما شعرت بيهو جوه هنا، أنت ما كنت خايف منو؟(
(وليه أخاف منو؟)
(أبو السباع، الدبيب ده كان جوه معاك في الكشك)
(ومالو ياخي، جاء سلم وفات)
بالمناسبة، (أبو السباع) شارك مع القوات السودانية في حرب 1948م بفلسطين وله قصص وحكايات عن هذه الحرب وأذكر مرة في (العوامة) – العوامة هي مقهى صغير يجاور مكاتب وصالة أوركسترا الإذاعة، مقهى عبارة عن راكوبة ويجتمع في هذه (العوامة) عدد مقدر من المغنين وفنيي الإذاعة ومخرجيها وممثليها، كان (أبو السباع) من رواد (العوامة) وبينه وبين (صالح) صاحب (العوامة) توافق في المزاج والطرفة.
كنا يومها في (العوامة) ومعي الصديق الناقد (أحمد طه أمفريب) و(أبو السباع) الذي من المفترض أن يحاوره (أمفريب) لينشر الحوار في جريدة (الهدف) وكان أبو السباع يحكي بهدوء ومهلة متأملة تظهر في صوته العميق عن اختفائه وهو مصاب في مزرعة للعنب لأكثر من أسبوع، وقد أظهر لنا أبو السباع في تلك الظهيرة إصابته في مرفق يده اليسرى الذي يحركه بطريقة غريبة، وحين ظهر إعلان في الصحف والإذاعة والتلفزيون في نهاية الثمانينيات يعلن عن تعويضات مالية للذين شاركوا في حرب 1948م ويطالب مستحقي هذه التعويضات بالحضور لاستلامها وقتها كان (أبو السباع) غارقاً في موجته الخصوصية، وحين أخبرته بأمر الإعلان والتعويضات هز رأسه تلك الهزة المميزة حين يحاول (أبو السباع) أن يحرض قدرته على الدهشة، هز رأسه وقال لي بصوت عميق:- (ليه هو فلسطين حرروها ؟).
يمارس (أبو السباع) انفلاتاته حتى وهو يخط بورتات الإعلان وكنت أحرص على متابعته وهو يبدأ العمل على البورت والراديو ينوع أصواته من داخل الشنطة، أذكر أنا كنت أتابعه وهويخط إعلاناً على البورت يخص مسرحية (أحلام المكوجية) للفنان المسرحي (محمد شريف علي) الذي كان وقتها مديراً للمسرح القومي، بدأ (أبو السباع) يخط المعلومات عن المسرحية ويبدو لي أنه قد مل التكرار الذي سجنه فيه (محمد شريف علي) من حيث أنه كتب اسم (محمد شريف) أكثر من مرة في التأليف،في الإخراج، في التمثيل، في اختيار الموسيقى، في البطولة وحين وصل (أبو السباع) ليكتب إخراج (محمد شريف علي)، هنا تعمد (أبو السباع) أن يكتب ذلك هكذا، إخراج (محمد شريفيفيفيفيف)، لاحظ التكرار الذي منحه (أبو السباع) لحرفي (يفيفيف) وثبت بورت ذلك الإعلان واسم (محمد شريف علي) لم يستطع أن يتخلص من تلك الـ(يفيف) فلا أحد يستطيع أن يغير ما يخطه (إسماعيل مساعد) على بورت الإعلان.
انسحب (أبو السباع) بهدوء عن هذه الدنيا، قبلها بفترة قليلة كان قد ظهر في إعلان تلفزيوني لإحدى البنوك، وكان الإعلان يظهره بشكله الوقور وهو يحمل كمية كبيرة من النقود. وأحسب أن (أبو السباع) رحل في هدوء وكأنه قد استجاب لموجته الخصوصية في بحر حياته المتداعية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.